1- "بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني الى حملة نابليون 1516-1798" هو اول كتاب نشره رافق بالعربية عام 1967. "يلاحظ المهتم بدراسة تاريخ العرب الحديث" - كما كتب رافق في المقدمة - "ندرة ما كتب عنه من ابحاث علمية رصينة. وإن ما كتب عن القرنين التاسع عشر والعشرين اكثر نسبياً مما كتب عن القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر...". وليس المسؤول عن ذلك في نظر رافق ندرة المخطوطات والوثائق، فهي مبعثرة في مختلف انحاء العالم. وقد اعتمد المؤلف في دراسته لتاريخ مصر وبلاد الشام على المصادر الاولية وخصوصاً المخطوطات العربية المعاصرة، وعلى المراسلات الديبلوماسية الغربية، وعلى ما نشر حديثاً من وثائق عثمانية. وقد حرص المؤلف على تتبع خطوط التطور الرئيسية معتبراً قضية التاريخ بحسب السلاطين او الباشاوات او السنين امراً تقليدياً لا يصل فيه القارئ الى نتيجة فيضيع في التفاصيل. "والمهم تتبع خطوط التطور والتساؤل دائماً لماذا حدث ما حدث بالشكل وفي الزمن والمكان الذي تم فيه". وهذه المنهجية لم يعرفها التأريخ العربي إلا في القرن العشرين عند من تأثروا بعصر التنوير. وجاء رافق ليرسخ هذا الاتجاه وينير صفحات التاريخ العثماني بهذا المنهج، الذي يلمسه القارئ في نتاجه الرصين. ولا شك في ان تحضير الدكتوراه في جامعة لندن اسهم في هذا الاتجاه. ويبدو ذلك جلياً في كتابه الأطروحة عن ولاية الشام بين 1723-1783 المنشور بالانكليزية في بيروت عام 1966. يتساءل المؤلف في خاتمة دراسته عن اهمية الفتح العثماني بالنسبة الى العثمانيين، وللبلاد العربية، وللعلاقات العربية - العثمانية. ويرى ان الاحتلال العثماني الذي دام اربعمئة سنة لم يكن، في الحقيقة سوى استبدال حاكم غير عربي من المماليك بحاكم آخر غير عربي من العثمانيين. وكان الشعب العربي اشبه بالمتفرج... وفي احسن الحالات لعب دوراً ثانوياً... ولكنه لم يفقد هويته العربية الممثلة بلغته وحضارته وتاريخه... لأسباب يذكرها المؤلف. وكانت غاية الاحتلال العثماني للبلاد العربية الابقاء على الوضع السائد فيها شريطة تقديم الطاعة ودفع اموال الميري للسلطات العثمانية في اسطنبول. ويولي المؤلف اهمية خاصة الى ابتزاز الحكام اموال الاهالي والضغط عليهم والى مصادرة الدولة لأموالهم وأموال الولاة المعزولين مما ادى الى تخبئة المال والى تعطيل الفعاليات الاقتصادية. 2- "العرب والعثمانيون 1516-1916" الكتاب الثاني الصادر لرافق عام 1974، وهو محاولة - كما ذكر المؤلف في المقدمة - لدراسة تاريخ العرب، في المشرق والمغرب، وفق مخطط هادف ويتتبع تطور العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، ويلقي الضوء على موقف العرب من حاكميهم. ومع ازدياد التباعد بين العرب والعثمانيين في القرن التاسع عشر، بانتشار الفكرة القومية بين الفريقين. وفي الوقت نفسه تعرض العالم العربي في ذلك القرن الى تدخل الدول الاوروبية واحتلالها اجزاء كبيرة من العالم العربي، حيث بدأت مرحلة جديدة من النضال ضد الاوروبيين والعثمانيين. اسهم كتاب العرب والعثمانيون في تأسيس مرحلة جديدة لتأريخ العصر العربي الحديث بمنظار جديد. فبعد ان يتعرض لقيام الدولة العثمانية وسيطرتها على البلاد العربية يدخل في تفاصيل الثورات على العثمانيين وتعاظم النفوذ المحلي في القرن الثامن عشر. وينهي البحث بانفصال العرب عن العثمانيين وقيام الحركات الوطنية والقومية في العالم العربي. ويذكر رافق في مقدمته بأنه مدين لعدد من الباحثين، من عرب وأجانب، قاموا بدراسات اختصاصية حول بعض البلدان العربية، في فترات معينة. 3- ابتداء من ثمانينات القرن العشرين عكف رافق على تناول عدد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية في تاريخ بلاد الشام لسببين: شعوره بأهمية تلك المواضيع من ناحية، وللمساهمة ببحثها في المؤتمرات الدولية المتخصصة من جهة اخرى. في مقدمته المؤرخة في آذار مارس 1985 والمخصصة لمجموعة "بحوث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لبلاد الشام في العصر الحديث" اوضح رافق منهجه العام في التأريخ في الفقرة الآتية: "التاريخ السياسي الواعي الذي يتتبع تحليل الاحداث السياسية، افقياً وفي العمق، ويربط بعضها بالبعض الآخر، في شكل شامل وواع، يشكل الاطار الاساسي الذي من خلاله تدرس انماط التطورات الاقتصادية والاجتماعية. وتساعد دراسة هذه التطورات بدورها على تصحيح فهمنا للتاريخ السياسي ولبواعثه العميقة، وجعله اكثر عقلانية. فالأسس الاقتصادية والاجتماعية لأي حادث، او موقف، او اتجاه سياسي او ثقافي، هي وحدها التي تفسر الدوافع العميقة لهذه الاحداث والمواقف والاتجاهات". هذه البحوث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المنشورة في كتاب صادر في دمشق عام 1985 كان رافق قد نشرها في مجلة "دراسات تاريخية" التي تصدرها لجنة كتابة تاريخ العرب بجامعة دمشق. ومعنى ذلك ان منهجية رافق وجهوده في البحث والتحليل وصلت الى عدد من القراء والباحثين والمهتمين في الشأن التاريخي العربي، من طريق المجلة اولاً والكتاب ثانياً. هذا مع التحفظ في ما يتعلق بعزوف الناس وحتى معظم الكوادر العلمية في الجامعات السورية عن القراءة والبحث. وهذا امر خارج عن ارادة باحث متعمق من وزن رافق سليل تيارين: 1- العراقة النهضوية المستندة الى فهم متحرك للتاريخ والنابعة من الرغبة في الغوص عميقاً لفهم تاريخ المجتمعات العربية في عصورها الزاهرة والراكدة، 2- والحداثة القائمة على رؤية من اهدافها الأخذ من الغرب مفاتيح التطور الضروري لنهوض الشرق. ومن يتمعن اعمال رافق بروية يجد ان هذه الاعمال تصب في هذين الاتجاهين. لعل بعض من يقرأ هذا التقويم لأعمال رافق يظن ان في الامر شططاً، او شطحة من شطحات الخيال. ولا اعلم رأي الاستاذ رافق، المكرم في ندوتنا هذه، على هذا الاستنتاج... ولكن دعونا نمعن النظر في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في تاريخ بلاد الشام الحديث، والتي نشرها رافق اولاً في مجلة "دراسات تاريخية" ثم في مجموعتين نشرتا في دمشق في عامي 1985 و2002 لنرى ان ما قام به رافق من بحث تاريخي يعد فتحاً في حقل البحث في عالمنا العربي من حيث توجيه الانظار، كما ذكر رافق، "الى دراسة البنى التحتية التي هي اساس التطورات السياسية". وهذا المنهج في البحث التاريخي دخل الى بلادنا، قبل ابحاث رافق، بفضل "الحداثة الماركسية"، التي لاقت انتشاراً واسعاً في ستينات وسبعينات القرن العشرين. ولا نعلم مدى تأثر رافق بهذه الحداثة الماركسية من ناحية المنهج والتحليل. ولكن الواضح ان اتجاه رافق نحو الدراسات الاقتصادية الاجتماعية وهي - كما ذكر - "اساس التطورات السياسية" جعلتنا نميل الى هذا الاستنتاج - من دون استبعاد التكوين الفكري الليبرالي النيّر الذي يسكن رافق في رحابه - مع العلم ان تكوين رافق العلمي في الجامعة السورية ايام عزها في الخمسينات وتحضيره للدكتوراه في لندن ومعرفته العميقة باللغتين الانكليزية والفرنسية اسهمت جميعها في هذا العمل المبدع والجديد في حقل التأريخ العربي. هل أثمرت اعمال رافق هذه في خلق تيار جديد يسير على نهجه ويطوره عدد من الباحثين الشباب العرب؟... هذا السؤال من الصعب الاجابة عليه بالمطلق. حاشية: لا بد من الاشارة الى اطروحة الدكتوراه القيمة لطالبها خضر احمد عباس عمران وبإشراف عبدالكريم رافق بعنوان: "الحياة الاجتماعية في ولاية حلب في النصف الثاني من القرن السابع عشر 1650-1700، من خلال وثائق محاكم حلب الشرعية"، التي جرى الدفاع عنها 1989 في جامعة دمشق. وكذلك اطروحتا ماجستر عن نابلس صادرة عام 1989 وعن فلسطين صادرة عام 1990. ونسخ عنها موجودة في مكتبة الأسد بدمشق. مما يدل ان ارهاصات تكوّن جيل يسير على خطى منهجية رافق بدأ يتكون قبل رحيل رافق الى أميركا. ولكن من المؤمل، بل المؤكد ان جاز لنا استخدام الحتمية، ان عمل رافق سيؤتي اكله في المستقبل بعد تجاوز المجتمعات العربية لمحنتها الحالية، حيث تراجع دور العقلانية وحرية الجهر بالبحث العلمي مقابل هيمنة الجمود والتحجر، وسيادة مبدأ "المحرمات" وانتشار الفكر الظلامي. ونرى ان هذه الاوضاع غير الملائمة للبحث العلمي الجاد انعشها تعثر المشروع النهضوي العربي، وتراجع تأثير الافكار الاشتراكية بعد ضعف الاتحاد السوفياتي ومن ثم زواله، والتأثير السلبي للتعامل بالبترودولار، ورغبة القوى الاستعمارية وبخاصة في الولاياتالمتحدة في مساندة هذا الفكر الظلامي للوقوف امام جبهتين: جبهة الافكار الحية للنهضة العربية ورديفها حركة التحرر العربية، وجبهة القوى العالمية المناهضة للاستعمار والاستبداد والتي كان في مقدمتها الاتحاد السوفياتي ومن حوله ما عرف بالمنظومة الاشتراكية. وكان الوهن الذي اصابها في ثمانينات القرن العشرين ومن ثم انهيارها اثر واضح في هجوم قوى الظلام من كلا الجانبين: الجانب المحلي اليميني العربي الاسلامي والجانب الآتي من وراء المحيط، والذي اسهم ويسهم بل يغذي الظلامية بغض النظر عما يطرح الآن من "مبادئ". اسهمت السياسة الاميركية قبل 1990 في تنشيط التيارات المحافظة والاستبدادية في عدد من الدول العربية ومجتمعاتها بهدف الوقوف امام حركة التحرر الوطني ومقاومة الشيوعية. واليوم تسهم سياسة الولاياتالمتحدة، بعكس ما تنادي به علناً، في انتاج فكر متزمت منغلق معاد للآخر. وهذا امر بحاجة الى مجال آخر لبحثه. إن من يتمعن في الواقع العربي الراهن يرى بأننا قفزنا متراجعين ولا نزال الى الوراء قرناً ونصف. وإن من يقرأ سيل الكتب والمجلات، التي يمولها البترودولار، او يرى الفضائيات العربية يصاب بالدهشة مما آلت اليه الاوضاع الفكرية من اهتمام بتوافه الامور والاعتقاد بالخرافات والأساطير والخوارق. "وتلقي الاقوال بالتسليم، من دون تمحيص للصحيح من السقيم "وقطاعات واسعة من شعوبنا تعيش الآن فكرياً كما عشنا قبل قيام النهضة "عصر جمود على القديم". انظر مقدمة الشيخ بهجت البيطار لمخطوط جده "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" المطبوع في دمشق 1961. إن هذا الركود والتحجر اللذين يلفان جانباً مهماً من الواقع العربي الراهن يجعلنا نشعر بأهمية الدراسات، التي قام بها رافق. فهي تمسك حالياً بيد المتطلعين الى انقاذ الواقع الراكد من وهدته، وستلعب في المستقبل مع بداية نهضة عربية جديدة دوراً رائداً في شق الطريق امام العقلانية وفهم الماضي والحاضر بمنهجية تسهم في التقدم والرقي. وقد اشار رافق في معرض حديثه الى اهمية استخدام وثائق المحاكم الشرعية، التي "تعالج تركيب المجتمع المدني ومسيرته عبر القرون". ويرى رافق ان استخدام هذه الوثائق بحاجة الى اجيال من الباحثين. فالتاريخ لا يتوقف في نظر المؤرخ النهضوي عبدالكريم رافق عند جهد فرد معين بل هو حصيلة تراكم المعارف والخبرات لأجيال متلاحقة. يتساءل المرء بعد هذه الجردة المختصرة لدور ابحاث الدكتور عبدالكريم رافق في التنوير، الذي حمل لواءه بتواضع العالم من دون ضجيج او مباهاة او الانخراط في تيار سياسي او فكري منظم. ونرى ان اعمال رافق ونشاطاته اسهمت في تكوين علم التأريخ العربي على المستويين العربي والعالمي. وكان مقدراً لهذه الجهود والخط المنهجي النهضوي، الذي سار عليه ان تكون حصيلته داخل المحيط الثقافي العربي اشمل وأعمق مما جرى على ارض الواقع المحلي. ولم يكن المسؤول عن ذلك استاذ كرسي تاريخ العرب الحديث 1974-1990 الدكتور عبدالكريم رافق، بل ما آلت اليه الاوضاع في مؤسسات التربية والتعليم العالي في البلاد العربية، التي افرغت الى حد بعيد من مفكريها الجادين. ولهذا لم يعد الاساتذة الاكفاء قادرين على الاستمرار بالعمل العلمي وتربية اجيال تسير على خطى البحث الرصين والسير قدماً في مضمار التقدم. في حزيران يونيو 1910 كتب صلاح الدين القاسمي في جريدة المقتبس النهضوية الدمشقية ان امام العلماء في ذلك الجو "العثملي" الاستبدادي المعروف احد امرين: إما الصمت او مغادرة البلاد. * كاتب سوري.