تتميز التجربة الأوروبية بعدد من الخصائص مقارنة بالتجارب التكاملية الأخرى، بما فيها التجربة العربية. أولى هذه الخصائص تكمن في تمتع مؤسسات الاتحاد الأوروبي بسلطات حقيقية في مواجهة الدول الأعضاء، إذ يحق لهذه المؤسسات إصدار قرارات ملزمة وواجبة النفاذ في الميادين والمجالات التي حددتها المعاهدات المنشأة، مما يضفي على تلك المؤسسات سمة فوق قومية، أي أن الاتحاد الأوروبي مؤسسة"فوق"الدول مقارنة بالجامعة العربية التي هي مؤسسة"بين"الدول. وثانية هذه الخصائص يكمن في تمكن التجربة الأوروبية من العثور على صيغة متوازنة تحافظ على مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، من الناحية القانونية، وتأخذ في الاعتبار في الوقت نفسه اختلاف الأوزان النسبية لهذه الدول، من الناحية الفعلية والعملية. فهناك فروع وأجهزة أوروبية مشكلة على أساس المساواة في التمثيل بين الدول وفقاً لقاعدة أن لكل دولة صوتاً واحداً. وهناك مجالات تقوم فيها عملية اتخاذ القرار على قاعدة الإجماع أو تشترط توافر أغلبية. كما أن هناك مجالات أخرى كثيرة تتخذ فيها القرارات بالأغلبية البسيطة. وثالثة هذه الخصائص، تكمن في وجود"نواة"لنظام سياسي أوروبي يقوم على الفصل وتحقيق الرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. فهناك برلمان أوروبي ينتخب انتخاباً مباشراً من جانب المواطنين في الدول الأعضاء. وهناك محكمة عدل أوروبية تتشكل من 15 قاضياً وتتمتع باستقلال كامل في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأحكامها ملزمة وواجبة النفاذ. ويلعب جهاز المحاسبات الأوروبي دوراً مهماً في الرقابة المالية على الموارد والنفقات. ورغم أن التوازن بين هذه السلطات لا يزال مختلاً لمصلحة السلطة التنفيذية، إلا أن هناك محاولات جادة ومستمرة لإصلاح هذا الخلل. ورابعة هذه الخصائص، تكمن في وجود صمامات أمن تضمن استمرار التجربة الأوروبية وتحول دون التفافها حول نفسها. فالدول المنخرطة في التجربة الأوروبية هي دول ديموقراطية تعتمد الليبرالية السياسية أساساً ومنهجاً للحكم وتنظيم المجتمعات في الداخل. ولم تتمكن الدول الأوروبية التي تعرضت مسيرتها الديموقراطية للتعثر، مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال، من الانضمام إلى قافلة الوحدة الأوروبية إلا بعد استقرار الأوضاع وتثبيت دعائم الديموقراطية فيها. وتلعب الديموقراطية في تجربة التكامل الأوروبي دوراً بالغ الأهمية. فعملية التكامل، خصوصاً إذا كانت تتم وفقاً للمنهج الوظيفي، هي عملية مؤسسية في المقام الأول، والدولة التي لا تتخذ فيها القرارات من خلال مؤسسات ديموقراطية منتخبة تحظى بالشرعية لن يكون بمقدورها أن تشارك في عملية بناء المؤسسات المشتركة على الصعيد الإقليمي، والتي هي بدورها عملية ديموقراطية في جوهرها. يضاف إلى ذلك أن غياب الديموقراطية في الداخل قد يشكل مصدراً للفوضى وعدم الاستقرار. ومن ثم يمكن أن يتسبب في تعطيل مسيرة البناء التكاملى. وأخيراً فإن الديموقراطية تعتبر أداة مهمة جداً لضبط إيقاع وسرعة حركة المسيرة التكاملية. فهي تساعد ليس فقط على إيجاد حلول فنية للعديد من العقبات السياسية، من خلال ضمان المشاركة النشطة لجماعات المصالح والقوى السياسية المختلفة في مراحل صنع القرار، وإنما أيضاً على تحاشي الاندفاع أو التباطؤ في العملية التكاملية بأكثر مما ينبغي ومن ثم تسهم في ضبط إيقاع العملية التكاملية بالقدر اللازم لاستيعابه جماهيرياً في كل الدول الأعضاء، وربما يفسر هذا العامل كثرة اللجوء إلى أسلوب الاستفتاءات في التجربة الديموقراطية. على الجانب الآخر، لم تتوافر للتجربة العربية قيادة تعرف كيف تختار منهجها التكاملي بطريقة مبتكرة قادرة على التوفيق بين الاعتبارات السياسية والاعتبارات الاقتصادية. ولم يصل الوضع الداخلي في جميع الدول العربية إلى درجة"النضج"التي تسمح له بتحييد حركة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول والشعوب العربية وفصلها عن الخلافات السياسية الظاهرة والكامنة بين الأنظمة العربية - لدرجة دعت البعض إلى القول بنشوب حرب باردة عربية ممتدة أو أن الصراعات تمثل طقوساً في الحياة السياسية العربية - وهي الدعامة التي يستحيل من دونها تطبيق المنهج الوظيفي على تجربة التكامل العربي. فعدد كبير من الدول العربية لا يمتلك معظم المقومات التي تجعل منها دولاً حقيقية بالمعنى الأوروبي، وبعضها أقرب إلى شكل القبيلة أو الشركة المساهمة منه إلى شكل الدولة. وجميعها يخلو من سلطات تشريعية حقيقية أو سلطات قضائية مستقلة أو من أحزاب أو رأي عام يمكن قياس اتجاهاته بطريقة شفافة. ومع التسليم بوجود جماعات مصالح وتيارات فكرية وقوى سياسية مختلفة، إلا أن المناخ السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن فيها جميعاً، لا يساعد على التعرف على أوزانها الحقيقية أو على علاقات القوى بينها، ولذلك يحدث التغيير عادة على نحو مفاجئ، عبر أنماط مختلفة: انقلابات عسكرية حيناً أو مؤامرات القصور أحياناً أخرى، أو الانتظار حتى رحيل"الزعيم الملهم"أو"القائد الفذ"أو"الرئيس الأوحد"كي يحدث التغيير الذي قد يأخذ شكلاً انقلابياً بدوره. كانت الدول العربية من أسبق التجمعات الإقليمية إلى تكوين إطار تنظيمي يعكس خصوصية العلاقات بينها. ويشير إلى تلك الحقيقة توقيع ميثاق جامعة الدول العربية في عام 1945، قبل معاهدة روما التي أسست أولى خطوات المسيرة الفعلية للاتحاد الأوروبي الراهن باثنتي عشرة سنة، وقبل منظمة"الوحدة الأفريقية"الاتحاد الأفريقي حالياً بثماني عشرة سنة. ولم يقتصر الأمر في هذا الصدد على السبق الزمني فحسب، بل إن نشأة الإطار التنظيمي للنظام الإقليمي العربي اتسمت بالإضافة إلى ذلك بالشمول، بمعنى أن هذا الإطار ضم منذ البداية كل الدول العربية المستقلة في ذلك الوقت 7 دول، واستمرت صفة الشمول هذه بعد ذلك، حيث أن كل دولة عربية حصلت على استقلالها بعد ذلك كانت من ناحية تطلب عضوية الجامعة العربية بمجرد استقلالها، في إشارة إلى شرعية النظام بين أعضائه، وكان طلبها من ناحية أخرى يقبل في إشارة لاستمرار صفة الشمول في النظام. ويعني ما سبق أنه بينما كان الاتجاه العام في مجالات التنظيم الإقليمي غير العربي وخصوصاً الاتحاد الأوروبي اتجاها تدريجياً من الجزئية إلى الشمول، فإن النظام الإقليمي العربي تميز منذ بدايته بصفة الشمول، واستمر بعد ذلك محافظاً على الصفة ذاتها. فالملاحظ في أكثر الدول العربية - إن لم يكن جميعها - أن القرار السياسي إزاء شأن عربي هو من اختصاص القيادة السياسية العليا وأدت هذه الظاهرة - ضمن أشياء أخرى - إلى بطء التقدم في عمل الجامعة العربية وشل فاعليتها في معالجة قضايا مهمة، فكثيراً ما يتعطل اتخاذ القرار المناسب بسبب عدم توافر التفويض أو الاختصاص للوزير أو المندوب للموافقة أو الاعتراض على مشروع قرار، هذا علاوة على أن التعلل بغياب التفويض بسبب هذه المركزية يمكن أن يستخدم ببراعة من جانب عدد من الدول لتبرير عدم اتخاذ موقف إزاء قضية مهمة ما. ويؤدي هذا الوضع إلى تعلق إصلاح الجامعة وتطويرها بإرادات الحكام الأفراد وليس بقرارات المؤسسات، والأفراد أكثر هوى وأقل رشاداً من المؤسسات، ولعل أحد الفروق الرئيسية بين تجربة الاتحاد الأوروبي والمحاولات العربية للوحدة أن"المؤسسة"كانت هي راعية التجربة الأولى، بينما"الأفراد"كانوا هم الرعاة في التجربة الثانية. والخلاصة أن ضعف المؤسسة أو غيابها في النظم السياسية العربية لا يقل سوءاً من حيث تأثيراته على عمل الجامعة عن تجذر الانتماء القطري على حساب القومي عبر الزمن، فكيف يمكن لنا أن نتصور وجود صيغة ما لبرلمان عربي قوي ضمن المناداة بإصلاح الجامعة بينما يصرخ معظم القوى السياسية - في أغلب البلدان العربية التي توجد فيها سلطة تشريعية منتخبة - بسبب الاعتقاد بتزوير الانتخابات، وكيف لنا أن نتوقع أن فاقد الشيء يمكن أن يعطيه؟ وتجدر الإشارة إلى وجود"وهم"سائد في العالم العربي، حول إمكان الفصل بين الاعتبارات الاقتصادية والاعتبارات السياسية، وإنه إذا نجحت الدول العربية في تحييد التفاعلات الاقتصادية وعزلها عن الخلافات السياسية العربية، فسوف تتمكن من تحقيق قفزة نوعية في العمل المشترك. وهذا النوع من الأوهام وراء المبالغة الكبيرة في التوقعات الناجمة عن خطوات صغيرة مثل اتفاق الدول العربية على إقامة منطقة تجارة حرة بينها في نهاية فترة زمنية تستغرق عشر سنوات، ودخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ الفعلي اعتباراً من بداية عام 1998. فليس لهذه التوقعات ما يبررها في الواقع، لأنه بات واضحاً أنه إذا استمرت الممارسات والسياسات العربية على ما هي عليه، فليس هناك ما يضمن على الإطلاق تحقيق أي هدف مهما كان متواضعاً، فالخلافات السياسية يمكن أن تعصف بأي اتفاق، مهما كان محدوداً. ومن ثم فإن البحث في تكتل اقتصادي عربي أصبح مسألة"حياة أو موت"في عالم التجمعات الاقتصادية المؤثرة، ويحرك السياسات الدولية من خلال الشركات متعددة الجنسية أو عابرة القارات، فالدول تبيع اقتصاداً لتشتري سياسة، ولا يمكن تصور أوضاع بلادنا العربية من الناحية الاقتصادية التي هي عليها الآن، فأرقام التجارة البينية بين الدول العربية متدنية للغاية، كما أن معظم الاقتصاديات العربية متشابهة وهو ما يؤثر بالسلب على حجم التبادل التجاري بينها، كما أن مسألة البحث - ولو بخطوات بطيئة - في توحيد النظام الجمركي والضريبي بين الدول العربية هي مسألة ذات أولوية. ونحن ندرك مسبقاً صعوبة مثل هذه الخطوات في ظل البيروقراطية الوظيفية، بخلاف الحساسيات القطرية بل إن حركة انتقال الأفراد والسلع ورؤوس الأموال بين الدول العربية تبدو أحياناً أصعب بكثير من انتقالها بين تلك الدول العربية والعالم الخارجى - باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر -!! وتلك نقطة جديرة بالتأمل، إذ لا يعاني المواطن العربي ما يعانيه في المطارات العربية المختلفة، وذلك نتاج لأزمة ثقافة كامنة، وحصاد لحساسيات صامتة تراكمت بالممارسة عبر السنين، كما أن الحديث عن السوق العربية المشتركة ذو شجون، فقد طال ترديده إلى حد اليأس، وتكرر الإعلان عنه إلى حد الملل، فالأوروبيون الذين أحالوا تجمع الفحم والصلب إلى اتفاقية للسوق الأوروبية المشتركة في روما عام 1957، ثم مضوا بخطوات ثابتة وبقرار ديموقراطي داخل كل دولة، قد تمكنوا في النهاية من الوصول إلى الاتحاد الذي تشهده الآن. وفي النهاية نخلص إلى القول بأن محصلة العمل العربي المشترك كانت"صفراً"أو ما يزيد عليه بقليل، فالجديد الذي يجب غرسه هو تغيير الخصائص البنيوية للنظام العربي التي حالت دون الاستجابة لمقترحات التطوير في الماضي وأجهضت ما أجيز منها في الواقع العملي..، أما إذا أصر البعض على سير العمل العربي المشترك في طريق التيه ذاته الذي سار فيه: حلقة مفرغة نتخيل في أولها أننا ماضون إلى هدفنا، فإذا بنا نعود سنوات أو عقود من السنين إلى نقطة البدء. * عضو سابق في البرلمان المصري أستاذ في الجامعة الأميركية في القاهرة.