ما زال الغموض يكتنف نتائج اجتماعات وزراء الخارجية العرب الذين عقدوا دورتين في القاهرة خلال الأسبوع الماضي: واحدة استثنائية، للبحث في مشروع إصلاح جامعة الدول العربية، والأخرى عادية، لمناقشة المواضيع المدرجة على جدول الأعمال العادي للدورة ال121. وجاء على لسان مسؤولين رسميين في نهاية الاجتماعات تأكيد بأن الاتفاق تم على صيغة مشروع مشترك لإصلاح الجامعة العربية سيرفع إلى قمة تونس لإقراره. ولأنه لم يصدر أي بيان يوضح الخطوط العريضة لما تم الاتفاق عليه، فقد فُسر هذا الموقف غير المسبوق على محملين متناقضين. الأول: يفترض حسن النية وينطوي، ضمنا، على استمرار قدر من الثقة في الحكومات العربية، يفسر هذا الصمت بالرغبة في حماية المشروع من عبث مزايدات إعلامية قد تنجح في إعادة غرس فيروس الخلافات من جديد في التربة العربية. أما الثاني فينطلق من سوء ظن تلقائي يدعمه شعور راسخ ودائم بعدم الثقة في الحكومات العربية، ويفسر الصمت الذي أعقب الاجتماع بهزال النص الذي أعلن الاتفاق عليه وبرغبة الوزراء العرب في التستر على فضيحة ربما يبذل القادة العرب جهدهم خلال الفترة المتبقية للعمل على سترها مستخدمين كل ما في حوزتهم من أدوات وحيل التجميل الديبلوماسي. وأيا كان الأمر فسيتعين على هؤلاء القادة العرب أن يأخذوا عددا من الحقائق في الاعتبار قبل أن يضعوا توقيعهم النهائي على البيان الختامي لقمة تونس وما سيصدر عنها من مقررات: الحقيقة الأولى: ان لدى الشعوب العربية إحساسا عميقا بوجود خطر حقيقي يهدد مصير الأمة وأن التحديات التي تواجهها في المرحلة الراهنة هي تحديات حقيقية غير مسبوقة تتطلب جهدا وعملا وخطط غير تقليدية لمواجهتها. الحقيقة الثانية: ان الشعوب العربية باتت على يقين من أن النظم الرسمية العربية تتحمل جميعها، ومن دون استثناء، المسؤولية الرئيسية عما وصل إليه حال الأمة من تدهور وانهيار، ولديها شكوك عميقة في قدرة هذه النظم، أو حتى في توافر النية لديها، على اتخاذ كل ما هو ضروري لإخراج الأمة من مأزقها الراهن. الحقيقة الثالثة: ان هذه الشعوب بدأت تدرك أن معضلة إصلاح الجامعة العربية أكبر من أن يحلها نص يتم الاتفاق عليه، مهما بلغت درجة إحكام هذا النص، خصوصاً إذا صيغ وفق الأساليب الديبلوماسية التقليدية المراوغة والقادرة على إلباس أعمق الخلافات ثوب الاتفاق الكامل، وأن الأمر بات يتطلب اتخاذ خطوات عملية حاسمة لها نتائج فورية ملموسة. وفي ضوء هذه الحقائق الثلاث أصبحت الشعوب العربية تنظر إلى قمة تونس باعتبارها قمة الفرصة الأخيرة. وإذا لم ترتفع قرارات هذه القمة إلى مستوى التحدي واستمرت في اتخاذ القرارات النمطية من النوع الذي تعودت عليه وملّته الشعوب على مدى أكثر من نصف قرن حتى الآن، فسوف يستقر في ضمير هذه الشعوب أنه لم يعد هناك أمل يرجى من حكوماتها الراهنة، وأن الجامعة العربية التي تمثلهم وتنطق باسمهم باتت في حال موت سريري، وأن التغيير المطلوب لن يأتي إلا عبر هبة أو غضبة أو انتفاضة عارمة تكتسح أمامها تلال الفساد المتراكمة التي تعوق طريق الشعوب نحو الانطلاق والابتكار. وفي اعتقادي أنه سيكون من الصعب جدا تخدير الشعوب بنص حماسي فارغ المحتوى أو بنص ديبلوماسي مخادع، وأنها لن تقبل هذه المرة بأقل من توفير الشروط الموضوعية اللازمة لإطلاق عملية تكاملية حقيقية قادرة على نقل العالم العربي من حال التشرذم والفوضى الحالية إلى حال من التماسك و الانضباط في إطار أهداف عليا متفق عليها تحقق مصلحة مشتركة يستفيد منها الجميع. ولإطلاق عملية تكاملية عربية حقيقية فعالة شروط موضوعية نعتقد بأنها لن تتحقق على أرض الواقع إلا إذا تم التخلص من عدد من الأوهام يمكن إجمالها على النحو التالي: 1- وهم الاعتقاد بأن الثقافة والتاريخ المشترك يمثلان أساسا كافيا لإنجاح وتحقيق وحدة سياسية حتمية بين الدول العربية لا بد وأن تتحقق إن عاجلا أو آجلا. فالوحدة عمل إرادي واع متعدد الدرجات والمستويات، ويتطلب خططا وبرامج لن تنخرط الدول العربية فيها إلا إذا ضمنت أنها تحقق مصلحتها في الوقت نفسه الذي تحقق فيه مصلحة المجموع. ومعنى ذلك أن طريق الوحدة يبنى بالدول القائمة ومن أجلها ولا يقوم أبدا على أنقاضها. 2- وهم الاعتقاد بأن الاستثمار في العمل العربي المشترك مضيعة للوقت والجهد و لا أمل يرجى من ورائه، لأن الدول العربية"لا تتفق إلا على أن لا تتفق"، وهو ما يفرض على كل دولة عربية على حدة أن تبحث عن طريقها بنفسها ولنفسها. فالواقع أن مصير الدول العربية واحد، شاء العرب أم أبوا، و لن يكون بوسع أي دولة عربية، مهما كبرت، أن تحقق وظائف الأمن، أو التنمية، أو الديموقراطية، أو الاستقرار الاجتماعي، وحدها. فالذئب ينتظر الأغنام الشاردة في الظلام، و الثعلب جاهز لإغرائها إن هي تركت القطيع"المتخلف"و سارعت إلى اللحاق بركب الآخر"المتحضر". 3- وهم الاعتقاد بأنه يمكن تحييد وفصل القضايا الاقتصادية، حيث التعاون فيها وارد وضروري، عن القضايا السياسية التي يصعب، إن لم يكن يستحيل، تحقيق اي تعاون بين الدول العربية فيها. فالتعاون الاقتصادي يحتاج في واقع الأمر إلى"مظلة سياسية"تحميه، حتى لا تؤثر الخلافات السياسية سلبا عليه وتؤدي إلى عرقلته. ولأنه كثيرا ما أدت الخلافات السياسية العربية إلى عرقلة، إن لم يكن وقف التعاون الاقتصادي كلية، فالحاجة تبدو ماسة في الواقع العربي تحديدا إلى آلية فعالية لتسوية الخلافات العربية بالطرق السلمية، ديبلوماسية كانت أم قضائية. 4- وهم الاعتقاد بأن عمليات التكامل والاندماج تنتقص بالضرورة من سيادة الدول المشاركة فيها. وإذا كان صحيحاً أن نجاح العملية التكاملية يتطلب تنازل الدول المشاركة فيها عن جانب من سيادتها، يتسع نطاقه تدريجياً مع تطور العملية التكاملية، فإن هذا التنازل يتم في الوقت نفسه لمصلحة سلطة جماعية تشارك الدول نفسها في صنع قراراتها، ويفترض أن تتمتع بمكانة وهيبة، أي بسيادة، أكبر مما تتمتع به الدول الأعضاء منفردة. بعبارة أخرى لا يتم التنازل عن جزء من السيادة في هذه الحال لمصلحة سلطة أجنبية، وإنما لمصلحة سلطة مشتركة، ويعود بالنفع على الدول الأعضاء كافة، ومن ثم يفترض أن يضيف إلى قوة كل دولة عضو، وبالتالي إلى سيادتها، لا أن يخصم منها. 5- وهم الاعتقاد بأن التجربة التكاملية يتعين أن تنطلق منذ البداية بجميع الدول المخاطبين للالتحاق بها، وأن تكون شاملة لجميع القطاعات. فالتجارب التكاملية الناجحة، مثل التجربة الأوروبية، بدأت بقطاع الفحم والصلب وبمجموعة صغيرة من الدول النواة، قبل أن تتوسع، رأسيا، لتشمل بقية القطاعات الاقتصادية والمالية، وأفقيا، لتضم دولاً جديدة بلغت حتى الآن 51 دولة وستصل في منتصف هذا العام إلى 52 دولة ومن المحتمل أن تصل في الأمد المنظور إلى أكثر من ثلاثين دولة. بل إن التجربة التكاملية يمكن أن تسير بسرعات مختلفة تتناسب مع طاقة واحتمال الدول المشاركة فيها. وعلى سبيل المثال هناك دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تتبنَ العملة الموحدة بعد أو تشترك في النظام الأوروبي لتأشيرات الخروج"شينغن". وإذا كان التخلص من مجموعة الأوهام السابق ذكرها يمثل شرطا لا غنى عنه إلا أنه ليس كافياً وحده لإطلاق تجربة تكاملية فعالة. فلكي تصبح التجربة التكاملية فعالة لا بد أن تتمتع ببنية مؤسسية قوية قادرة على حل أحد أهم معضلات التنظيم الدولي عموما، وذلك بإيجاد صيغة متوازنة تحافظ على مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، من الناحية القانونية، وتأخذ في الاعتبار في الوقت نفسه اختلاف الأوزان والقدرات الفعلية للدول المشاركة في العملية التكاملية. وحلت التجربة الأوروبية هذه المعضلة بالتمييز بين المجالات التي يتعين أن تتخذ القرارات في شأنها بإجماع الآراء، على أساس مبدأ المساواة في التصويت ووفقاً لقاعدة أن لكل دولة صوت واحد، والمجالات التي تتخذ فيها القرارات بغالبية بسيطة أو خاصة، وبإنشاء أجهزة وفروع تمثل فيها الدول بعدد من المقاعد يتناسب وأوزانها النسبية. فاللجنة الأوروبية تتكون من 02 مقعداً تمثل فيها كل من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا وأسبانيا، بمقعدين، وباقي الدول بمقعد واحد. ويتراوح عدد المقاعد المخصصة لكل دولة في البرلمان الأوروبي بين 99 مقعدا للدولة الأكبر ألمانيا و6 مقاعد للدولة الأصغر لكسمبورغ. وهناك فروع تتمتع فيها الدول بأوزان تصويتية تتناسب وقوتها النسبية. ففي المجالس الوزارية الأوروبية تراوح الأصوات المخصصة للدول بين 01 أصوات للدول الكبيرة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وصوتين فقط للدولة الأصغر لوكسمبورغ. ويقوم النظام السياسي للاتحاد الأوروبي على وجود سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وعلى محاولة الفصل الكامل و تحقيق الرقابة المتبادلة بينها. فهناك سلطة تنفيذية ممثلة في المفوضية، من ناحية، والمجلس، من ناحية أخرى. وهناك سلطة تشريعية ممثلة في برلمان أوروبي مستقل ينتخب انتخاباً مباشراً من المواطنين في الدول الأعضاء و له سلطة سحب الثقة من المفوضية. وهناك سلطة قضائية ممثلة في محكمة عدل أوروبية تتمتع باستقلال كامل في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأحكامها ملزمة وواجبة النفاذ. ويلعب جهاز المحاسبات دوراً مهماً في الرقابة المالية على الموارد والنفقات. كما يلاحظ، على صعيد آخر، أن التجربة الأوروبية نجحت في إشراك جماعات المصالح المختلفة في عملية اتخاذ القرار من خلال إشراكها في عضوية"اللجنة الاقتصادية والاجتماعية"أو"اللجنة الاستشارية"حيث تتطلب بعض مراحل وإجراءات عملية صنع القرار داخل هذه اللجان ضرورة الحصول على موافقة جماعات المصالح المعنية. ويتضح في ضوء ما سبق أن الحلول الفنية لأعقد المعضلات التنظيمية ممكنة ومعمول بها في التجارب التكاملية لدول أخرى، ويمكن للدول العربية الاستفادة منها لو أرادت. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه قمة تونس. فإما أن تنجح هذه القمة في ابتكار آليات مؤسسية فعالة لتجربة تكاملية حقيقية أو تكرس من الناحية الفعلية وفاة الجامعة العربية من دون حاجة إلى إعلان أو تصريح بالدفن. * كاتب وأكاديمي مصري.