موضوع شائك في ظاهره، ولكنه حيوي في جوهره، فنحن لا نفصل بين التجارة والإدارة ولا نبحث في طغيان الثروة على السلطة، ولكننا ندرس العلاقة المتشابكة والتركيبة المعقدة للتأثير والتأثر المتبادلين بين طرفي الظاهرة، وأعني بهما السلطة والثروة في عالمنا العربي الذي لا يبدو استثناءً عن غيره من المناطق الاخرى، ألا يتولى رئاسة الوزارة اللبنانية رجل أعمال واسع التجربة، فالاعتراض لا يقوم على اشتغال رجال الاعمال بالسياسة فمنهم مفكرون ومثقفون يستحقون أن تستحوذ الحياة العامة على جزء كبير من اهتمامهم خصوصاً عندما تستقر ثرواتهم وتصبح السياسة تتويجاً لمسار حياتهم، ولكن الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو ما يمكن تلخيصه في أمرين أولهما توظيف السلطة لجمع الثروة، وثانيهما استخدام الثروة للتأثير في السلطة، ولكي نبحث الأمر من كل جوانبه فإننا نضعه في النقاط الآتية: - أولاً: إن حكام البلدان الغنية يمثلون السلطة والثروة معاً بحكم تراكم الميراث وطول العهد بالحكم، والأمر يختلف في ذلك بالنسبة إلى الجمهوريات التي تنتخب رؤساءها وتعرف تداول السلطة ودوران النخبة حيث يصبح الرئيس أميناً على أموال الشعب وليس شريكاً فيها. لكن الأمر لا يختلف في الحالين من الناحية الأخلاقية حيث الفصل بين المال العام والمال الخاص أمر لازم سواء كان ذلك في الملكيات الدستورية او الجمهوريات الديموقراطية وإن كنا نسجل هنا حقيقة مؤداها أننا لم نعرف كثيراً نموذج الحاكم الفقير لأن للسلطة"مداخيل"تبدو في ظاهرها شرعية وتتيح لمن يحوزها مصدراً للثروة يجب ألا يحتاج معها الى مصادر أخرى. - ثانياً: يعتبر تأثير المال في الحياة السياسية أمراً ينعكس على العملية الديموقراطية حيث لا تبرأ الانتخابات البرلمانية وحتى المحلية والبلدية من سطوة المال في شراء الاصوات خصوصاً في الأوساط الفقيرة غير المعنية بالمشاركة السياسية الحقيقية، وكثيراً ما وصل الى عضوية البرلمانات أثرياء بمنطق القدرة المالية متجاوزين في المنافسة أساطين فكرية أو نماذج مثقفة قادرة على العطاء السياسي المطلوب ولكن قدراتهم المالية المحدودة حالت من دون بلوغهم مقاعد التمثيل النيابي. - ثالثاً: لعل أخطر النقاط على الإطلاق هي تلك المتعلقة بمفهوم الفساد السياسي عندما يتحالف أهل الثروة مع حائزي السلطة في ثنائية مقلقة تدعو الى فتح ملفات للفساد لم يكن لها وجود من قبل، فالأصل في الحكم الصالح هو اقترابه من أهل الفكر والمعرفة والثقافة ولا بأس برجال المال ايضاً ولكن من دون تمييز لهم أو اعتماد عليهم بطريقة تؤدي الى خلط الاوراق وتتداخل معها مصادر الثروة بمفاتيح السلطة، فتلك صورة مخيفة في بعض النظم العربية وغير العربية. - رابعاً: هناك عدد من رجال الاعمال الكبار تفرغوا للعب دور سياسي بمنطق الهواية من خلال اصطناع الأدوار والاقتراب من مواقع الحكم والتمسح بدوائره، ومنهم فئة احترفت تجارة المعلومات التي تضعها في خدمة بعض النظم تقرباً واستحواذاً، والوطن العربي عرف تلك الفئة في فترات مختلفة حيث برزت على السطح أسماء لعدد من رجال الأعمال الذين حازوا من الثروة ما يفيض فاتجهوا الى أروقة الحكم ووظفوا إمكاناتهم لخدمة أهداف نظام معين أو حاكم بذاته مستخدمين في ذلك آلة الإعلام العصرية الكاسحة التي برعت في صنع الصورة المطلوبة والخلط بين الاعلام والاعلان وفقاً لأسلوب النموذج الأميركي الحديث. - خامساً: لا تزال الثروة قيداً على الديموقراطية الكاملة في ما يتصل بدعم مرشح رئاسي ضد آخر بمنطق تأثير المال وفرض شخصيته مدعومة من أصحابه على حساب الأغلبية الصامتة غير القادرة على التأثير المطلوب، ولعل انتخابات الرئاسة الأميركية هي نموذج لارتكاز من يملكون على نفقات باهظة ومطلوبة للحملات الانتخابية بحيث لا يصل الى سدة الرئاسة في"واشنطن"إلا من أنفق في حملته الانتخابية مبالغ طائلة جمعها حزبه من خلال تبرعات ضخمة، والأمر يختلف في عالمنا العربي ولكنه لا زال يشكل عائقاً أمام التعددية الكاملة نتيجة الخوف من وجود نموذج مشابه يسمح لتيار سياسي يملك من مقدرات المال ما يسمح له بالقفز الى السلطة بحق أو بغير حق. هذه نقاط أساسية حول العلاقة بين السلطة والثروة، وقد يقول قائل ولماذا الكتابة في هذا الموضوع الآن في ظل زحام الانتهاكات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية والعنف الدامي في العراق والجرائم التي ارتكبها جنود التحالف ضد نزلاء سجن"أبو غريب"؟ الواقع أن الدافع للكتابة في هذا الموضوع يبدو في ذهني مرتبطاً بكل ما يدور في المنطقة وما يحيط بها من ظروف ولا ينفصل عنها ولا يبتعد عن همومها، ويمكن هنا أن نرصد محاور الاتصال بين العلاقة بين السلطة والثروة في جانب والأحداث الجارية والأوضاع الراهنة في جانب آخر وتتمثل تلك المحاور في ما يلي: 1 - إن الحرب المفتوحة ضد الإرهاب منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر 1002 تعتمد من وجهة نظر العرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، على عجز بعض الانظمة في الدول العربية والإسلامية عن رفع مستوى معيشة شعوبها ومكافحة الفقر الذي يمثل بيئة حاضنة لتفريخ العناصر الإرهابية وتربط تلك النظرية في تفسير الإرهاب بين الفساد السياسي، وتنامي تلك الظاهرة ويعتقد أصحابها ان التداخل بين السلطة والثروة قتل المثل الرفيعة وقضي على القيم النبيلة أمام الاجيال الجديدة من شباب دول المنطقة وهو دافع في حد ذاته يدعونا الى التطرق الى هذا الموضوع. 2 - الحديث عن الإصلاح السياسي والدستوري والتحول الاقتصادي والتغيير نحو الديموقراطية الحقيقية كلها أمور ترتبط بالعلاقة بين السلطة والثروة في ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير وغيره من مناطق العام النامي، فالإصلاح الذاتي الذي ينبع من ضمير الامة وهويتها يلزمنا بضرورة البحث في أوجه القصور وجيوب التخلف ومظاهر العوار في حياتنا، وسوف نكتشف ان التحالف بين السلطة والثروة يمثل ظاهرة تحتاج الى الدراسة والتأمل وتدفع الى البحث والتحليل سواء من زحف نفوذ أهل الثروة تجاه السلطة أو سعي الحكام لحيازة الثروة والاندماج في عالم الاموال المتدفقة وغياب القدوة الصحيحة في الحكم تبعاً لذلك. 3 - يمثل الفساد السياسي أخطر أنواع الفساد لأنه يعشش عند القمة ويتحكم في إرادة الحكم ويسيطر على جسد الأمة من رأسها، ولستُ أطالب بأنظمة ملائكية ولا أبحث عن حكام مثاليين، ولكنني اطالب بقدر معقول من النزاهة المادية والشفافية الحقيقية والابتعاد عن مواطن الشبهات وأسباب الظنون لأن الشباب العربي لم يحبط فقط من سياسة ازدواج المعايير الأميركية أو الانتهاكات اليومية الإسرائيلية ولكن ايضاً من شيوع الفساد وافتقاد المثل وضياع القيم وانتشار حالة الشك الذي أدى الى انتزاع الثقة عبر المسافة الكبيرة بين الحاكم والمحكوم. 4 - إن الدولة العصرية الحديثة تقوم على سيادة القانون وتعتمد على مصداقية الحكم ووضح الرؤية، بينما يؤدي تسلل الثروة نحو مراكز السلطة الى حدوث شرخ ينال من هيبة الحكم ويسمح للشائعات اليومية بأن تغتال الأمل لدى الأجيال الصاعدة وأن تمارس آثارها السلبية في حياة السواد الأعظم من جماهير الشعب وقواعد المجتمع، فالدولة المتحضرة التي تعرف عناصر الديموقراطية وتحترم القانون لا تقع في مستنقع الخلط بين من يملكون ومن يحكمون، ولكنها تضع من الضوابط والقيود ما يجعل العلاقة بينهما صحية وسوية مع قيام أطر معاصرة للحدود الفاصلة بينهما. 5 - لعل ما يجري على الساحة العربية يمثل إنذاراً أخيراً للامة في محنتها وينبه بشدة الى كل مظاهر النقص في حياتنا والاضطراب في سلوكنا السياسي والاجتماعي ويحفز على احترام المال العام واطلاق يد القطاع الخاص في حدود القانون وليس نتيجة للعلاقة بمراكز الحكم ودوائر صنع القرار في مراحله المختلفة، إن الضغوط التي تحيط بالوطن العربي تدفع الى ضرورة إعادة النظر في ترتيب البيت من الداخل والفصل بين السلطة والثروة في فك اشتباكي طوعي ومتوازن. هذه ملاحظات تدور حول الموضوع الذي نكتب فيه سعياً نحو الصدقية الحقيقية والشفافية الكاملة وتبشيراً بالدولة الحديثة، دولة الديموقراطية وسيادة القانون، دولة لا تعرف التداخل الغامض والكريه بين السلطة والثروة في غير حدود المصلحة العليا للوطن. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.