هل هناك تلازم تاريخي بين الثروة والسلطة أم أن أحدهما سبب للآخر؟ سؤال يثور في كل الأزمنة وعلى مر العصور، فهناك من يقول إن من يملكون هم بالضرورة الذين يحكمون، وهناك من يرون على الجانب الآخر أن السلطة هي التي تستدعي الثروة بينما لا يكون العكس صحيحًا في معظم الظروف، أما لماذا نعالج هذا الموضوع الآن بالذات فالإجابة واضحة ومباشرة وهي أن الوطن العربي يمر بمرحلة دقيقة تبدو فيها السياسات موضع مراجعة كما أن الأنظمة محل اهتمام، لذلك فإن القيام بعملية ارتياد للماضي ودراسة للحاضر واستشراف للمستقبل تبدو من ضروريات هذه المرحلة التي يبدو فيها ذلك الارتباط التاريخي في التقاليد السياسية للعلاقة بين الثروة والسلطة، فالدولة الإسلامية في عصور الخلافة لا تكاد تعرف ذلك الانفصال بين الثروة والسلطة إلا في عصر الخلفاء الراشدين وربما خامسهم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، كما أن الحضارة الغربية على الجانب الآخر جعلت العلاقة بين حيازة السلطة وملكية الثروة أمرًا متكررًا، ونحن هنا لا نقلب في الأوجاع العربية ولا نفتح ملفًا مغلقًا ولكننا نناقش ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى ذات تأثير على استقرار النظم ودرجة الرشد في القرار القومي. ولذلك فإننا نرصد تلك العلاقة التبادلية بين الثروة والسلطة في الوطن العربي من خلال النقاط الآتية: - أولاً: إننا نسلم بداية أن العلاقة الارتباطية بين الثروة والسلطة هي ظاهرة تاريخية لا تقتصر على التاريخ السياسي العربي وحده ولكنها تتجاوز ذلك إلى التاريخ الإنساني كله، إذ أن الثروة والسلطة كليهما من مظاهر القوة وبينهما علاقة تأثير وتأثر لا يمكن تجاهلها. - ثانيًا: إن تاريخ الخلافة الإسلامية التي احتوت المنطقة العربية في مجملها لعدة قرون قد عرف هو الآخر ذلك المؤشر المتصل بالعلاقة بين عنصري القوة في الحكم وأعني بهما السلطة والثروة، فمنذ تولي الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان الخلافة وقد بدأت الثروة تتحول إلى طرف فاعل على مسرح الحياة السياسية، ثم جاء "بنو أمية" بعد ذلك ليجعلوا الحكم وراثة وليتخذوا من الثروة أداة لدعم السلطة. - ثالثًا: إن السلطة تجلب الثروة في مجتمعات الفساد السياسي ولكن العكس يحدث أحيانًا في بعض المجتمعات الديموقراطية الغربية، خصوصًا النموذج الأميركي، إذ يعتمد مرشح الرئاسة على ثروته كأحد العوامل الرئيسية في تشكيل عناصر قبوله لدى الرأي العام وقد يكون بعض الرؤساء الأميركيين مثل الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور استثناءً لهذه القاعدة لأنه جاء إلى الرئاسة كواحد من أبطال الحرب العالمية الثانية وقائد بارز لمجموعة الأطلسي، ومن هذا المنطق فإن توظيف الثروة لخدمة السلطة يبدو أحيانًا عملاً مشروعًا ولكن توظيف السلطة للحصول على الثروة هو أمر يعبر عن جوهر الفساد السياسي بكل معانيه. - رابعًا: إن ظاهرة الارتباط بين الثروة والسلطة في العالم العربي بدت ملحوظة في العقود الأخيرة نتيجة لظهور الثروة الطبيعية من جانب ورغبة بعض كبار رجال الأعمال من العرب في القيام بدور سياسي في جانب آخر، وبالفعل ظهرت طبقة متميزة من رجال الأعمال مارست نوعًا من الاتصال المستمر بسلطات الحكم العربية وكانت بمثابة همزة اتصال بينها ووظفت إمكاناتها في الجانب المعلوماتي للسلطة بمنطق الهواية من دون الدخول إلى مرحلة الاحتراف، ولا تزال هناك أسماء معروفة في هذا الشأن خصوصًا من دول الخليج العربي والشام ومصر وليبيا حيث كان لها دور ملموس في ذلك السياق. - خامسًا: إن لجوء بعض الأنظمة العربية لرجال الأعمال المرموقين ودعوتهم لممارسة دور سياسي رسمي ليس أمرًا مستغربًا، إذ أن نموذج الشيخ رفيق الحريري في لبنان بعد الحرب الأهلية يجسد هذا النوع من التزاوج بين الثروة والسلطة ويعكس اهتمام بعض الدول العربية بفكر القطاع الخاص في الحياة السياسية العربية المعاصرة ودوره في صياغة الواقع السياسي والاقتصادي لشعوبهم. ... إن العالم العربي بدوله المختلفة يعاني من تفاوت الثروة أحيانًا وغياب مشروعية السلطة أحيانًا أخرى وهي معاناة تستدعي ضرورة التسليم بأن تفاوت الثروة الطبيعية بين الدول هو أمر لا جدال حوله، كما أن ترشيد النظم السياسية أصبح هو الآخر ضرورة لتصحيح العلاقة بين سلطة الحكم وثروة الدولة، وفي ظني أن هناك مفتاحًا وحيدًا لحسم هذه الإشكالية وهو يتمثل أساسًا في أهمية المشاركة السياسية وتوسع مساحتها وفتح الأبواب أمام الديموقراطية الحقيقية التي هي الطريق الوحيد للخلاص من الأوضاع الراهنة في عالمنا العربي، ولا شك أننا نفرق في هذا الشأن بين الأنظمة الوراثية والأنظمة العابرة لأن الأولى تحدث بالضرورة تراكمًا في الثروة بينما قد لا تؤدي الثانية إلى ذلك، كما أن حكم الفرد الذي لا يحترم الدستور ولا يطبق القانون ولا تحدد حركته قواعد ديموقراطية هو حكم لا يجد من يردعه أو يزجر حركته في التعامل مع المال العام، وسوف يظل نموذج الرئيس الافريقي الراحل موبوتو سيسيكو وغيره ممن حكموا في إطار الفردية والتسلط نموذجًا صارخًا للسطو على المال العام وتكديس المليارات في الحساب الخاص من أموال الشعب الفقير، كما أن النموذج الآسيوي الذي تجسده شخصية سوهارتو رئيس إندونيسيا السابق هو تعبير آخر عن المرض نفسه الذي اختلطت خلاله الثروة بالسلطة في مزيج قبيح ما زال الشعب الإندونيسي يدفع فاتورته حتى الآن. ... إن ما أريد أن أقوله هو أن سعينا في هذه المرحلة التي تواجه فيها أمتنا أخطر ما واجهته ربما في تاريخها كله يدعونا إلى ضبط إيقاع حياتنا السياسية والاتجاه نحو ترشيد أنظمة الحكم والسعي نحو الدولة العربية الحديثة التي تقوم على أسس واضحة من الانفتاح السياسي والالتزام الدستوري وتستند إلى عناصر تحدد العلاقة بوضوح بين الثروة والسلطة وتضع حدًا لفساد السياسات وانحراف النظم، ولعلنا عند هذه النقطة نشير إلى بعض المظاهر المطلوبة في الدولة العربية العصرية من خلال العناصر الثلاثة الآتية: أ إن الشفافية أصبحت أحد المعايير الأساسية للحكومات السوية لأنها هي التي تعطي مصداقية الحكم وتفرض هيبة الدولة، ولذلك فإن غياب الشفافية يسمح بتراكم أسباب القلق الاجتماعي بل ويمهد للانهيار السياسي، ولست أشك في أن البيئة الحاضنة للإرهاب إنما تزدهر في ظل أنظمة تخلط بين الثروة والسلطة وتختفي معها الشفافية وتتراكم فيها التناقضات والشائعات والأقاويل. ب إن التفاوت بين الطبقات أو دعنا نقولها بصيغة أخرى إن تدني مستوى المعيشة هو أمر يؤدي إلى حالة من التردي السياسي الذي تحكمه بيروقراطية مترهلة يدعمها جهاز وظيفي عفن، لذلك فإنني لا أشك أيضًا في أن التوزيع العادل للثروة يرتبط بالتركيب المتوازن للسلطة، ونحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالبحث في هذه المعادلة التي تعتمد عليها النظم في استقرارها وسلامة أوضاعها. ج إن التعامل الصادق مع الحقائق واختفاء الأكاذيب هي لوازم النجاح لأي نظام سياسي أو غير سياسي، فالشعوب لا تغفر لمن يخدعها، ولا تنسى من يسطو على مقدراتها، وما زلت أكرر أن الحكم الفردي يجلب كل الأمراض السياسية ويفتح الباب لعوامل الضعف الاجتماعي، ولن نتمكن في عالمنا العربي من الخلاص من مشكلاتنا والخروج من المأزق التاريخي الذي نواجهه إلا بصحوة حقيقية تجعل السلطة تعبيرًا حقيقيًا عن روح الأمة، كما تعطي الثروة لشعوبها صاحبة الحق الطبيعي فيها. ... إننا عندما نتابع أخبار الديموقراطيات الناضجة في عالمنا المعاصر فإننا نكتشف أن الذين يفقدون مواقعهم السلطوية ومراكزهم الاجتماعية إنما يدفعون أحيانًا ثمن انحرافات بسيطة أو أخطاء محدودة، ولكن حساسية تلك المجتمعات لمفهوم الصدق ورفضها للخداع مع ارتفاع درجة المصداقية لديها تمثل كلها عوامل أساسية مؤثرة في تشكيل ضمير المجتمع وكيان الدولة، ولعلنا ندرك ذلك مع تزايد الهجمة الشرسة علينا وارتفاع حدة الانتقاد لنا والربط المتعمد بين الإرهاب وبيننا بل وتلفيق التهم لأنظمتنا. ... إن ديننا متهم، وقوميتنا مطاردة، وواجبنا هو إعادة ترتيب البيت العربي لمواجهة ما جرى من تحولات، وما طرأ من تغيرات، ولعل قضية العلاقة بين الثروة والسلطة تدفعنا إلى تأكيد الشورى وترسيخ الديموقراطية والاعتراف بأن قرار الجماعة أفضل من قرار الفرد وأنه "ما خاب مَن استشار"، ويجب أن نعترف أن دوران النخبة وتداول السلطة في ظل دولة القانون التي تحترم حقوق الإنسان وتوازن بين طوائف المجتمع وتسعى إلى تطوير التعليم والارتقاء بالثقافة وتوطين التكنولوجيا هي في مجملها لوازم مطلوبة للدولة العربية في هذه الظروف الدولية الحرجة التي يسعى فيها خصوم حضارتنا إلى تجريدنا من ثروتنا بل وتعطيل عوامل الصحوة لدينا. لذلك فإن قضية العلاقة بين الثروة والسلطة في الوطن العربي تمثل واحدًا من ملفات تصحيح صورتنا، وتعزيز مكانتنا، والارتقاء بقوميتنا. كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.