خصوم رجب طيب أردوغان داخل تركيا يتهمونه بأنه بدأ يزيح النقاب عن وجهه الحقيقي بتكريس مسافة بينه وبين اسرائيل والانطلاق في سياسة تقارب شاملة مع العرب والعالم الاسلامي. بعضهم استشفّ في مواقفه عودة الى خط رئيس حزب"الفضيلة"الاسلامي نجم الدين أربكان، فمن خصومته الأخيرة مع العسكر والرئيس سيزر على ادماج خريجي المدارس الدينية في الجامعات الحكومية الى التفاهم مع سورية في كثير من القضايا التي كانت موضع خلاف وصولاً الى التهديد باستدعاء السفير التركي من تل أبيب احتجاجاً على المذابح التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة، بدت الحكومة التركية مقبلة على انعطاف تدريجي في علاقاتها الاقليمية لكن من دون التخلي عن التحالف الاستراتيجي مع واشنطن الذي ثبّتته زيارة أردوغان للولايات المتحدة والذي ستعززه القمة الأطلسية في اسطنبول الشهر المقبل. وما يلفت الانتباه في السياسة التركية على مدى الأسابيع الأخيرة هو ظهور مؤشرات متلاحقة دلّت الى تباعد بين أنقرة وتل أبيب، اذ وصف الأتراك اطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين بكونه ارهاب دولة، فيما قطعوا خطوات ملحوظة في اتجاه الاقتراب من الجيران والعالم الاسلامي عموماً. فعدا عن التهديد الذي أطلقه وزير الخارجية عبد الله غل بسحب السفير التركي من الدولة العبرية واعلانه عن ترفيع درجة التمثيل الديبلوماسي لدى السلطة الفلسطينية الى مستوى سفير، بدت الاتفاقات العسكرية الموقعة في السنة 1996 مع اسرائيل في حكم المجمدة بعدما لجأت الحكومة أخيراً الى خمس شركات تركية لتكليفها بتحديث آليات عسكرية، وهي أعمال كان يعهد بها لشركات اسرائيلية وأميركية. واتخذ هذا القرار أردوغان بنفسه بصفته رئيس"اللجنة التنفيذية للصناعات العسكرية"، ولا يمكن فصل هذه الخطوة عن الدفء الذي باتت تتسم به علاقات تركيا مع سورية والعرب عموماً في مقابل البرود الذي صار يلف ما كان يعرف بمحور تل أبيب - أنقرة. كذلك لوحظ أن تركيا رشحت رسمياً البروفسور أكمل الدين احسان أوغلو للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الاسلامي في خطوة عكست الرغبة في طي صفحة الجفاء مع البلدان الاسلامية، وهي التي ترددت قبل حضور المؤتمر التأسيسي للمنظمة وأرسلت في الأخير وزير خارجيتها نتيجة المعارضة الشديدة من الكماليين الذين اعتبروا تلك الخطوة تراجعاً عن علمانية الدولة. وشمل هذا الاتجاه الانفتاحي اليونان أيضاً العدو اللدود لتركيا اذ كسر أردوغان الجليد المتراكم على الطريق المؤدية لأثينا بزيارته التاريخية اليها مطلع الشهر الجاري، مانحاً بذلك صدقية لاستغنائه التدريجي عن اسرائيل التي كانت تبدو الحليف القوي الوحيد في المنطقة وسط محيط عربي وهيليني معاد. الا أن هذه الخطوات الجديدة ليست سوى بدايات ولا تعكس تغييراً جذرياً في تحالفات تركيا الاقليمية، فزيادة على الالتزام الأطلسي القوي لا يزال التعاون مع الدولة العبرية مستمراً وعكسته الزيارة الأخيرة لوزير البنى التحتية الاسرائيلي جوزف باريتسكي الى أنقرة، وان انتهز النواب الأتراك تلك المناسبة لفتح النار على سياسة الدولة العبرية. وصفقة المياه والمعاهدات العسكرية مع اسرائيل لا تزال قائمة وان لم تبق العلاقات في المستوى الذي كانت عليه في سنة 1996. ومثلما لمّح أردوغان خلال حديثه أخيراً لأعضاء حزبه الى أن الصراع مع العلمانيين على اصلاح التعليم هو في مثابة"سباق ماراتوني لكننا لا نزال في بدء الطريق"وطلب اليهم أن يكونوا"صبورين"، يمكن التكهن بأن هذه الرؤية تنسحب أيضا على الشراكة التركية - الاسرائيلية، فأردوغان يعرف من تجربة سلفه أربكان أن السياسيين الأتراك يحترقون اذا ما هددوا الثوابت الكمالية ومن ضمنها العلاقة الخاصة مع اسرائيل، لكن ربما تكون مذابح شارون أعطته للمرة الأولى الذريعة المقنعة للخروج تدريجاً من عباءة الرؤية الكمالية للتحالفات الاقليمية تمهيدا لمصالحة تركيا مع التاريخ والجغرافيا. لكن ما هو استعداد العرب للتفاعل مع هذا الميل التركي نحو مراجعة المنظور الكمالي؟ والى أي مدى هم مستعدون لاستثماره؟