أمطار متوسطة إلى غزيرة على 4 مناطق    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هذال بن سعيدان    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    البليهي: مشكلة الاتحاد انه واجه الهلال وكل المدافعين في اتم الجاهزية    وزير الاتصالات: بدعم ولي العهد.. المملكة تقود أعظم قصة في القرن ال 21 في الشمولية وتمكين المرأة    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    غزة.. الاحتلال يبيد العائلات    أمريكا: نحذر من انهيار البنوك الفلسطينية    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    الهلال يكسب الاتحاد بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    خادم الحرمين لملك البحرين: نعزيكم في وفاة خالد آل خليفة    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    للأسبوع الثاني.. النفط يواصل صعوده    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    "طويق" تحصل على شهادة الآيزو في نظام الجودة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    «الأمم المتحدة»: السعودية تتصدر دول «G20» في نمو أعداد السياح والإيرادات الدولية    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    أحلامنا مشروع وطن    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    «الخواجات» والاندماج في المجتمع    لعبة الاستعمار الجديد.. !    فأر يجبر طائرة على الهبوط    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    نسخة سينمائية من «يوتيوب» بأجهزة التلفزيون    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    يوم مجيد لوطن جميل    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    مسيرة أمجاد التاريخ    الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل".. الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل"    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نهضة إسلامية متجددة
نشر في الحياة يوم 25 - 05 - 2004

قبْلَ أيّام احتفلَ المسلمون في كلّ مكان بذكْرى عَطِرة ومناسبةٍ جليلة، ألا وهي ذكْرى موْلدِ المصطفى صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم. وبَعْد أيّام، في 1 و 2 حَزيران يونيو 2004، سيُعْقَدُ في إسلامَ باد برعاية وزارةِ الخارجيّة الباكستانيّة ندوةٌ دوليّة حوْل"منظّمةِ المؤتمر الإسلاميّ: التّحدّي والاستجابة، الاعتدالُ المستنير".
فكيف نَسْتَلْهِمُ الذّكْرى العَطِرة لإنارةِ السّبيل وحَشْدِ العزائم وشَحْذِ الأنفس؟ ماذا نفعلُ في هذه الظُّلمة إزاءَ التّحدّياتِ التي تُوَاجِهُ الأمّة؟
أستذكرُ في هذه الّلحظةِ الحَرِجة ما قالَهُ الجَدُّ المؤسّس، عبد الله بن الحسين طيّب اللهُ ثراه، في نعمةِ الإسْلامِ على العرب المذكّرات:"إنّ انْبلاجَ نورِ الإسْلامِ من بطحاءِ مكّة كان العلامةَ القاطعة لاتّحادِ قبائلِ العربِ المتفرّقة... ولكوْنِهم من عُنْصرٍ واحد ولهم لِسانٌ واحِد، فالعملُ على جَمْعِهِمْ وتأليفِهِمْ، وحَمْلهمْ على عَقيدةٍ واحدة، وتَوْجيههمْ وِجهةً واحدة، يجعلُهُمْ قادرينَ على الظّهور واحتلالِ الموْقعِ العالَميّ الذي هُمْ أهْلٌ له. وهكذا فبنعمةِ الله قد هيّأ الباري لهذه الأمّةِ السّعيدة تلك المزايا، وشرّفَها بخاتمِ الأنبياء والمُرْسَلين. وكان العهدُ النّبويّ قد تمّ فيه اعتناقُ العربِ الدّينَ المُبِين، وتمّ فيه اتّحادُهُمْ للقيامِ بما أوْجَبَهُ عليْهم...".
بهذه الكلمات المعبّرة، وضعَ جَدّي إصبعَه على موْطن دائنا الذي ما زال، مَعَ الأسف، وبَعْد مرور السّنين، على حالِه: الفُرْقة والشّرذمة، وعلى سرّ ارتقائنا: اعتناق الدّين الإسلاميّ الحنيف. وهو يكتبُ بهذه البساطةِ الآسِرة مِنْ مُنْطلقِ النّهضةِ الفكريّةِ العربيّةِ الإسْلاميّة الشّاملة.
تأتي الذّكرى العَطِرةُ سنةً بَعْدَ سنةٍ، ونحن لا نحتفلُ ولا نحفلُ بها إلاّ بالإنشاء والمراسم. كذلك نستقبِلُ المؤتمرَ تِلْوَ المؤتمر بكلامٍ فوْقَ كلام مِنْ دون فِعْلٍ أو عَمل.
ألمْ يحنِ الأوان للتّفكُّرِ والتّدبُّر؟ لإيجاد الحلولِ الموْضوعيّةِ المُبْدعة النّابعةِ من إرثنا الحضاريّ وفكْرِنا الهادف؟ الحلولِ التي تُمكّنُنا مِن المشاركةِ في بناء"حضارةٍ إنسانيّةٍ واحدة ترتكزُ على عشرة آلاف ثقافة"ميرشيا ماليتسا"جامعة البحر الأسود"بُخارست، رومانيا؟لا شك أنّ الاستسلامَ لليأس بحُجّةِ الضَّعْفِ وعدمِ القدرةِ على العطاء الحضاريّ سيؤدّي إلى الأُفولِ والاندثار. فالتّحدّي هو تحدّي البقاء. وعلينا أنْ نستجيبَ بالنّهوض بثقافتِنا بشتّى الأساليبِ والأدوات.
علينا أنْ نُدركَ أن بروزَ الولاياتِ المتّحدة قوّةً عُظْمى وحيدةً في العالَم قد فرضَ علينا - عَرَباً ومُسْلمين - وعلى العالَم بأسره، واقعاً تاريخياًّ جديداً يجبُ التّعاملُ معهُ بذكاء وموْضوعيّة، وبالكثيرِ من الوضوح. فأمامَنا على أرضِ الواقع قضايا حيويّةٌ لا يُمكنُ تجنُّبُها أو التّنصُّلُ منها أو تأجيلُها. هنالك التّطرُّفُ بأنواعِه، ومعه الفَقْرُ والجهْلُ والقَمْعُ والاحتلالُ في العراقِ وفِلَسْطين. وهنالك تعدُّدُ المَرْجِعيّات وتنافُسُها في كلّ شأن، خصوصاً في إدّعائها احتكارَ الحقيقة. وهنالك رفْضٌ للآخَرِ المختلِف والمُعارِضِ والمُتعدِّد، بصرْفِ النّظر عن طبيعةِ مساهماتِهِ ونوْعيّةِ إنجازاتِه. كلُّ واحدةٍ من هذه القضايا كافيةٌ وحْدَها لإثقالِ كاهلِ الأُمّة وتثبيطِ عزائِمها واستنفادِ مصادرِها ومواردِها. ولمْ يَعُدْ بالإمكان تصديرُ هذه القضايا إلى الأجيالِ القادمة أو حتى التّغاضي عنها، لكي لا نبدِّدَ - بمرور الزّمن - ما نملكُهُ مِنْ سُبُلٍ ووسائلَ لمعالجتِها واستئصالِها. لا بُدَّ أنْ نبدأَ نحن أنفسنا بمعالجةِ أوْضاعِنا وأنْ نُبادرَ إلى الإصْلاحِ الجذْريّ من دون اجترارِ الشّعارات واحتكار الرّؤى: بإرادتِنا نحن، ومن واقعِ تجربتِنا، واستناداً إلى طاقاتِنا وإمكاناتِنا. فلا مجالَ للسّلبيّة بَعْدَ الآن! انظروا كيْفَ أصبحَ التّطرُّفُ مقْروناً بالإسلام والمسلمين.
لقدْ تمَّ اختطافُ رسالةِ الإسلام السّمْحَةِ العادلة على يدِ مجموعاتٍ مُغْرِضة، حوّلت الدّينَ الحنيف إلى أداةٍ للقتلِ والتّدميرِ والتّخْريب لتنفيذِ غاياتها ومآربِها. فهي تحلِّلُ وتُكَفِّرُ مِنْ تشاء، وكما تشاء، من دون حسبان للقواعدِ والأصولِ الإسلاميّة الصّحيحة التي تحاولُ أنْ تستمدَّ شرعيّتَها منها. هذه الفئاتُ لمْ تأتِ مِنْ فراغ ولمْ تُزرع بيْننا زرْعاً. بل نَمَتْ بيْننا وهي تتغذّى على مصائبِ الأُمّة ومِحَنِها، وتستندُ في فكرها إلى الجهْلِ والحِقْدِ والكراهية.
بإمكانِ الأنظمةِ السّياسيّةِ في العالَميْن العربيّ والإسْلاميّ أنْ تُسْهمَ في حَلّ مشكلةِ التّطرُّفِ هذه بالتّفكيرِ الإيجابيّ الخَلاّق، وليس برفْضِ الواقعِ والهروبِ منه. وبتشجيعِ المشاركةِ الفاعلة في الشّأنِ العامّ التي تُغَلِّبُ المصلحةَ العامّةَ على المصالحِ الشّخصيّةِ الضّيّقة مِنْ خلال نَهْجٍ وسَطيّ إسلاميّ عَقْلانيّ راشد يُسهمُ في بناء الواقع الجديد بإرساءِ الأسُس والأُطرِ المستنيرة التي مِنْ شأنِها أنْ تُمكّنَ الإنسانَ العربيّ والمسلم مِنَ التّصدّي للتّحدّياتِ التي تواجِهُ حاضرَهُ ومستقبَلَه. إنّ دعوةَ سيّدِنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى إشراكِ الجميع في العمليّةِ النّهضويّةِ الإنسانيّة تشكِّلُ حافِزاً لنا لنتذكّرَ، ونُذكّرَ، بأهمّيّةِ الحديثِ النّبويّ الشّريف الذي يَحُثُّنا جميعاً على الاستفادةِ القصوى من الوقتِ والعمل، حتى في أسوأ الظّروف وأحلكِها. قال صلّى اللهُ عليه وسلّم:"إنْ قامت السّاعةُ وبِيَدِ أحدِكم فسيلة، فإنِ استطاعَ أنْ لا يقومَ حتّى يغرِسَها فْليَفْعلْ".
واجبُنا أيضاً أنْ نُذكّرَ في جميع المنابرِ الدّوليّة بأن مُجْملَ ما تُنفقُهُ الدّولُ النّامية على التّسلُّح والتّسْليح يُناهزُ 900 بليون دولار، بالمقارنة مع 50-60 بليون دولار فقط تُنْفِقُ على أوجهِ التّنمية! أضفْ إلى ذلك إنفاقاتِ الدّولِ الصّناعيّةِ المتطوّرة على منظوماتٍ أمنيّةٍ متشدّدة لمكافحةِ"الإرهاب"، بالرُّغْم من معرفتِها أنّ الفقرَ وانعدامَ الأمْنِ الاقتصاديّ وذوبانَ الطّبقاتِ الوسطى هي مِنْ أهمّ الأسباب التي تُؤدّي إلى تغذية التّطرُّف. فالتّعاونُ الدّوليّ الوثيق لمكافحة هذه الظّاهرة المتفاقمة يجب أنْ يتجاوزَ الغاياتِ الأمنيّةَ الصُّلبة إلى الأمنِ الإنسانيّ، المستنِد إلى توْفير الحاجاتِ المعنويّةِ والوجْدانيّةِ والرّوحانيّة للإنسان وإلى احترام كرامتِهِ وحقوقِه، وإلى التّعاون الأمميّ الكُلّيّ، بأبعادِهِ العلاجيّةِ والوِقائيّة والثّقافيةِ التّنمويةِ المُسْتدامة. وعالَمُنا العربيّ والإسلاميّ يشكِّلُ"رقعة"شاسعة، جغْرافيًّا وديمُغرافيًّا. فلا بُدّ له أنْ ينهضَ بدورٍ بارز في هذا الصّدد من خلال المساهمةِ في محاربةِ الفَقْر والحِرْمان بأشكالِهِ المختلِفة.
يجدرُ بنا أنْ نبدأ كما أرادَ لنا رسولُ الهُدى والإيمان: مِنْ أنفسِنا، من داخلِ البيْتِ العربيّ الإسلاميّ. عليْنا أنْ نتذكّرَ أنّ الغالبيّةَ العُظْمى من الضّحايا، من متضرِّري الحروب، من الّلاجئين والنّازحين في العالم، هم من العربِ والمسلمين. لقد آنَ الأوان لتفعيلِ الأغلبيّةِ العاقلة في مجتمعاتِنا الصّامتة حتّى الآن إلى حَدّ بعيد لتقولَ كلمتَها المُدويّة في وجْهِ دُعاةِ التّطرُّفِ والعصبيّةِ الدّمويّة التي تُضْعفُ نسيجَنا وتماسُكَنا الدّاخليّ، ولتَحْفِزَنا على التّعاونِ وتفعيلِ جهودِنا من خلالِ منابرَ وسطيّةٍ شعبيّةٍ مُسْتنيرة تعكسُ مكامنَ قوّتِنا وقدرتِنا الحقيقيّة على التّعامُلِ مَعَ مشكلاتِنا وأزماتِنا.
يا حبّذا لو استطعْنا أنْ نوحِّدَ مرجعيّاتِنا الدّينيّةَ لما هو خيْرُ هذه الأمّةِ والعالَم أجمع، وأنْ ننضويَ نحن، ونُشجِّعَ على ثقافةِ الانضواء، أفراداً وجماعات، تحت خيْمة شريعتِنا السّمْحة الدّاعيةِ إلى العدالة والسّلام وبناءِ الحضارة العالميّة الإنسانيّة الواحدة المتعدِّدةِ الثّقافات. لقدْ دعوْتُ غَيْرَ مرّة من على منابرَ عدّة إلى ضرورة سموّ الدّين على السّياسة، من خلال العمل على رفْعِ قِيَمِنا الدّينيّة المقدّسة فوْقَ الاعتباراتِ السّياسيّةِ الدّنيويّة. إنّ هذه الدّعوةَ تستلزمُ احترامَ المكانةِ الجليلة للسّلطةِ المعنويّةِ لمدنِنا المقدّسة: القدس الشّريف ومكّة المكرّمة والنّجف الأشْرف وغيْرِها، لتساهمَ بفعاليّةٍ في نهضتِنا المأمولة. وهذا يَقتضي بدوْرِه تفعيلَ الحوار بيْن المذاهبِ الإسلاميّة، الحوارِ الذي يدعو إلى التّكافُلِ والتّلاقي والتّكامُلِ في ما بيْننا.
دعونا نعمل من الدّاخل لإصلاحِ أحوالِنا، لدعم إخوتِنا في العراقِ وفِلَسْطين. إنّ الجرحَ النّازفَ في العراق، نتيجةَ ظُلْمِ مَنْ تحمّلَ المسؤوليّة والاحتلالِ الأجنبيّ سواء بسواء، يتطلّبُ تدخّلاً قوياً وسريعاً من هيئة الأممِ المتّحدة لتتحمّلَ مسؤوليّاتِها وتعملَ على إعادةِ السّيادةِ إلى الشّعبِ العراقيّ. وقد كتبْتُ وناديْتُ مِراراً بضَرورةِ أنْ نُصغيَ باهتمامٍ أكبر إلى ما يريدُه الشّعبُ العراقيّ. فهل من المعقول أنْ يُعيَّنَ نظامُ حكْمٍ للعراق بإنابةٍ لا يُجمعُ عليها أهلُ العراق أنفسُهم؟ أين ذهبَ حقّ تقريرِ المصير؟ أُكرّر: ليس هنالك من بديل عن استعادةِ الشّعبِ العراقيّ لسيادتِهِ على كاملِ بلدِه، واختيارِهِ نظامَ الحُكْم الذي يريدُهُ لنفسه.
أمّا أهلُنا وإخوانُنا في فِلَسْطين، فلا بُدّ من إيجادِ حلّ لمُعاناتِهم الطّويلة. هم يستصرخون الغوْثَ من عالَمٍ احترفَ الكيْلَ بمكياليْن"فيكادُ لا يَبْزغ فجرُ نهارٍ جديد دون شَهيدٍ أو فقيدٍ أو جريحٍ أو أسير. إنّ السّلامَ العادلَ والشّامل هو مبتغانا، هو السّلامُ القائمُ على العدْلِ والإنصاف، وعلى حقّ تقريرِ المصير لأهلِنا هناك ولجميعِ الشّعوبِ المظلومةِ في العالَم.
إنّ المصيرَ المُظْلمَ الذي يتهدّدُنا يتطلّبُ منّا جميعاً إعادةَ التّفكير في مفاهيمِ وجودِنا وثوابتِ قضايانا العربيّةِ والإسلاميّة. ولعلّ من أهمّ أسباب فُرْقَتِنا وتشرْذُمِنا وتحوُّل مِنْطقتِنا إلى ساحةِ صراع غيابَ منظومةٍ للأمن والتّعاونِ الإقليميّ فيها، في وطننا الإسلاميّ الكبير، على غرارِ الأقاليمِ الأخرى في العالَم.
السّؤالُ الذي يطرحُ نفسَه هو: كيْف لنا أنْ نتحرّك من أجل الإقليمِ الإسلاميّ الكبير الذي يمتدُّ من المحيطِ الأطلسيّ إلى تخومِ الصّين؟ والجواب: لا بُدّ من العمل ضمنَ منْظومةٍ مُتكاملة تُوحِّدُ الجهود للقضاء على عواملِ الوهِْن والفُرْقة، فنتمكّن من القضاء على الفتنِ الدّاخليّة وما يؤججُها من أسباب: ما ظهَرَ منها وما استَتر.
عُدْنا، إذاً، إلى الفكْرِ التّعدُّديّ، بكُلّ إيحاءاتِهِ وإيماءاتِه.
وحتّى لا نُسرفَ في اللّهاثِ وراء آمالِ"التّعدُّديّة"أو وراء ارتقاء سلطةِ الأمم المتّحدة إلى الدّرجة التي تستطيعُ معها السّيْطرةَ على مواضعِ الخَلَلِ المتناميةِ في النّظام الدّوليّ، يجبُ أنْ نعترفَ أنّ التّعدُّديّة المنشودة واجهتْ صعوباتٍ كبيرةً منذ البداية، ولا تزال.
ولمّا كان تخطّي مثلِ هذه الصُّعوبات أمراً عسيرَ المنال، فقد رأيتُ أنّ التّقدّمَ ربّما يتحقّقُ خطوةً خطوة، بمراحلَ ومقارباتٍ متعاقبة. في الإطارِ الشّرق أوسطيّ، مثلاً، كرّرْتُ غيْرَ مرّة الدّعوةَ لتوجُّهٍ تعدُّديّ من أجل معالجةِ القضايا الإنسانيّةِ والاقتصاديّةِ والأمنيّة، على غرار سيْرورة عمليّة هلسنكي"لكنْ بفارقٍ واحد، هو أنّ دعْوتي استندتْ إلى مبدأي الحِوارِ والتّعاون بيْنَ شركاء بهدفِ التوّصُّل إلى مفهومٍ مشترَك لحقوقِ الإنسانِ وللازدهارِ والأمْن، وأنّها لمْ تكن كسيرورة هلسنكي مبادرةً تستهدفُ خصماً، أي تعريةَ الاتّحادِ السوفييتيّ وإحراجَه عبْرَ حقوق الإنسان. إنّ مشكلاتِنا الرّئيسيّةَ في الشّرق الأوْسط هي النّزاعاتُ المسلّحةُ والفَقْر. من هذا المُنطلق، كانت دعْوتي إبّانِ حربِ الخليج الثّانية العام 1991 لعقد مؤتمرٍ حول الأمن والتّعاون في الشّرقِ الأوْسط. وكرّرْتُ هذه الدّعوة العام 1993 على شكلِ مقترَحٍ محدّد قُدّمَ إلى رئاسةِ مؤتمرِ الأمن والتّعاون الأوروبيّ التي كانت آنذاك للسويد. ولا أتردّد هنا في تكرار أنّ التّعدُّديّةَ المطلوبة لمِنطقةِ الشّرق الأوسط يجب أنْ تمضيَ يداً بِيَد مَعَ محاولاتٍ جادّة تأتي مِنَ الدّاخل لترسيخِ مبادئ الدّيمقراطيّة وحقوقِ الإنسان والأمنِ والتّقدُّم.
وتجدرُ الإشارةُ في هذا المقام إلى مبادرةٍ أخرى جاءت العام 1995 على شكل سيرورةِ برشلونة الأوروبيّة المتوسطيّة. وما زالتْ هذه، بالرُّغْم من كلّ شيء، الإطارَ الشّاملَ لمعالجةِ قضايا الأمنِ والتّعاونِ الثّقافيّ والاقتصاديّ والتجاريّ بيْن دولِ الاتّحادِ الأوروبيّ والشّركاء المتوسّطيّين.
أما بالنّسبةِ الى الحديثِ الدّائرِ عن إصلاح"الشّرق الأوْسط الكبير أو الأكبر"، فإنّني أُكرّرُ أنّ ما نحتاجُهُ للشّرق الأوْسط هو سيرورةٌ أو عمليةٌ مِنَ الدّاخل وليس"حصانَ طروادة". فعلى هياكلِ الحاكميّة Governance أنْ تتطوّرَ سلميًّا إلى أشكال أكثرَ تمثيلاً. وقد يكمنُ الجواب في مبادرة تأتي من المجتمع المدنيّ في هذه المِنطقة الشّاسعة الممتدّة من إفريقيا الغربية إلى الباكستان، وتنطلقُ من حركةٍ إسلاميّةٍ وسَطيّةٍ غيْرِ منحازة من أجلِ السّلام، أي من منبرٍ أو منتدى إسلاميّ عالَميّ يستندُ إلى شبكةِ مكوّنةٍ من كلّ مؤسّساتِنا المعنيّة، ويُخاطبُ العربيّ وغيْر العربيّ من خلال دراسةِ كلّ ما يتعلّقُ بتاريخِ الجانبِ الآخَر وتُراثِه.
يبقى السّؤال: هل في استطاعتِنا في العالَمِ الإسلاميّ أن نُعيدَ"هيكليّتَنا الثقافيّة"من أجل المشاركة مع أميركا وأوروبا، أو مع الثّمانية الكبار، بحيث تتحوّلُ الخطوطُ الأماميةُ إلى ميادين تلاقٍ وتلاقُحٍ في الأمن والتّعاونِ والتقدّم؟ مرّةً أخرى أقول إنّ المنتدى الإسلاميّ العالَميّ المنشود قد يتكفّلُ بذلك.
هذه دعوةٌ لأخْذِ زمامِ المبادرةِ بأنفسِنا، وبسرعة قبْلَ أنْ تضيقَ بنا السُّبل. فلا تبقى لدينا خيارات، على قلّتِها ومحدوديّتِها الآن. لنخرجْ من دائرةِ التّلقّي والتّأثُّر إلى حراكِ العملِ والتّأثير.
* رئيس نادي روما ورئيس منتدى الفكر العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.