خيراً فعلت الروائية العراقية المقيمة في باريس عالية ممدوح وهي تنشر متابعتها عن رواية "المفتون" للمفكر العراقي الراحل عزيز السيد جاسم الذي قضى اثناء سجنه بعد اعتقاله مساء 15 نيسان ابريل 1991 في محلة شارع السعدون في بغداد. وظهرت متابعة القاصة العراقية في ملحق "تيارات" في 16 ايار مايو 2004. ولعالية ممدوح الحق في ان تثير تساؤلات عن صدور الرواية الآن بعد مضيّ هذه الفترة الطويلة على كتابتها. وخشيتها مبررة في ضوء هذا التاريخ، وكذلك في ضوء ما تراه مختلفاً عن كتابات المفكر الراحل. لازمت عالية ممدوح المفكر والكاتب والروائي منذ قدومه الى بغداد، ولغاية مغادرته إياها. اي انها تعرفه خلال النصف الأول من السبعينات على اقل تقدير، وبحكم صداقتها، لها كل الحق في ان تبحث بحثاً مدققاً. ولها يرجع الفضل في عودتي الى النص وقراءته وهو في شكل كتاب صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. نص رواية "المفتون" تيسر سنة 1987، ولربما كُتب قبل ذلك. لكنني اعلم ان عزيزاً لم يكن مهتماً بنشره كثيراً، ودفعته الى سمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب مرتين: مرة مع رواية "الزهر الشقي" و"الديك وقصص أخرى"، وكلاهما ظهر خلال 1987، ومرة مع نسخة مصورة من "دراسات نقدية في الأدب". وظهر الأخير سنة 1995. لكن "المفتون" لم تظهر. كانت النسخة مركونة على آلة تعيسة مع تصويبات بخط يد الراحل. وأودعتها عند طابعة حاسوب، فأجادت في إعدادها، باستثناء كلمات مطموسة استعصت عليها فأعنتها في قراءتها وفك طلاسمها. وهي لا تعدو عدد اصابع اليد. اما النقط المتعددة التي تلازم كتابة الراحل فهي جزء من كتابته، ولا يود تدخل احد في ذلك. ونهرني مرة عندما أبدلت كلمة بأخرى وحذفت بعض النقاط من مخطوط له. عرضت النسخة الجديدة على ناشرين في الأقل، احدهما من خصوم النظام السابق والآخر من خيرة المثقفين، فتقاعسا الى ما لا نهاية. ثم جاء صديقي محمد شاهين فحمل المخطوط الى الصديق ماهر الكيالي سنة 2003، فظهرت الرواية بعد اشهر. والنسخة المعدة هذه جاءتني من بغداد، وحملها إليّ نجل الراحل حيدر والذي رتب الراحل عبدالوهاب البياتي سنة 1997 -1998 قضية لجوئه انسانياً. جاءني حيدر بمخطوط آخر هو مسرحية "الجذر"، لكني أوصيتهم بإبقاء كل كتاباته على حالها لحين ان ينعم الله على العراق بالاستقرار، فأزور الأهل، وأطلع على أوراق الراحل، كما هي. وأظن ان في هذا التوضيح ما يفيد، ويضيف الى مقدمة الناشر. وأقول ان المخطوطة قرأها دارسان اثنان على الأقل قبل نشرها، وكتبا عنها. اما لماذا لم تنشر الرواية طوال هذه الفترة، فأود ان اشير الى ان قائمة المنع التي طاولت كتب عزيز السيد جاسم لغاية 1982 تجاوزت احد عشر كتاباً، وحتى كتاب "حق المرأة" الذي اصدرته المؤسسة العربية جرى التعامل معه على اساس "التداول المحدود"، بما يعني تحريم ظهوره في الأسواق، وكذلك الحال بالنسبة ل"جدل العلاقة المعقدة بين المادة والمثالية" الصادر عن دار النهار سنة 1981. وأتلف كتابه "علي بن ابي طالب: سلطة الحق" سنة 1988. وعندما بدأت سنة 1996 نشر "عزيز السيد جاسم: سيرة لم تكتب" في جريدة "اخبار الأدب"، جرى تدخل رسمي او شبه رسمي لمنعي من المواصلة وجرى تحذير الجريدة المذكورة في شكل مبطن. واستغرب الأديب الروائي جمال الغيطاني مثل هذه التدخلات في امر لا يعدو ان يكون سيرة لكاتب منذ مطلع حياته! اريد ان اقول ان الحصار المضروب على كتب عزيز السيد جاسم لم يكن هيناً: وهذا هو حصار سلطة عتية في حينه، وكذلك حصار فئات لا تقل قهراً. الرواية، كما هي الآن، نص كتبه عزيز السيد جاسم ولم يخضع لتشذيب او تعديل. اما وقد أوجدت الروائية الصديقة منفذاً للاستفسار، فإنني ذهبت الى الرواية مطبوعة ومنشورة، وقرأتها: ترى اين مختلفها ومؤتلفها مقارنة بكتابات الراحل عزيز السيد جاسم؟ لو بقي فاروق البقيلي حياً وهو صديقه وأحد حوارييه في السبعينات، وزاره خصيصاً في الثمانينات وفي المقهى الذي عرفه معتكفاً له، لكفانا مؤونة الإجابة، لأن عزيزاً اودع لديه مدفون اسراره، وبعض اوراقه، ومنها "مناجيات السبعين" الصوفية، وكذلك الحوار الموسع عن الثقافة والسلطة الذي نشرته جريدة "البيان" في دبي في صفحات ملحقها في اربعة أعداد ما بين 1998 و2000. عزيز السيد جاسم متنوع غزير صاحب موقف، كما تؤكد عالية ممدوح، كما انه صاحب مجموعة من الرؤى التي تتفاوت. لهذا اعدت قراءة الرواية، فوجدتها من بين الأكثر تماسكاً، لأنها ليست حوارات، انما هي مسعى لاصطياد لغات الجماعات المختلفة المهنية والسياسية، وكذلك لغات العصابيين، ووضعها في داخل بناء محكم تجسده شخصيتان، تجتمعان حباً وتنافراً، شباباً واكتمالاً، هما الطبيب النفساني هارون والفني يوسف اليعقوبي. ولم يكن اختيار اسم يوسف ويعقوب وجمال يوسف عبثاً، كما هو واضح من التسمية. وكذلك هارون. إن الحاضن الأسطوري - الديني جامع اول للروي، لكن الأخطر هو الانتقال بهذا الحاضن الى امراض الدولة الحديثة، دولة ما بعد الاستقلال، وهو موضوع عزيز السيد جاسم الأثير كما تعرف الروائية عالية ممدوح التي لازمته وشغفت به طوال ايام النقاوة الثورية. هارون الذي تتكشف صورته لاحقاً لم يكن محط شغف يوسف اليعقوبي لحاجة الأخير الى العلاج، على رغم بديهية ذلك، وإنما لأمر في نفس يوسف الذي، كما نعلم لاحقاً ايضاً، انه عذّب شاباً، وأصيب جراء ذلك بانفصام شديد يتوزعه زمناً بين نصف عام وآخر. فكان يتخذ من جماله سبيله لبلوغ النسوة، لا سيما زوجات معذبيه في السجن وبناتهم، في شحنة حقد خاصة يبررها ثورياً. والانفصام يحلله يوسف نفسه بعد ان عجز عنه هارون ص184، لأن يوسف ادرى بأمره. وكان من جراء التعذيب نحوله الجسدي الذي ابقاه "أمرد"، بغريزة تستنفذ طاقتها عبر جماله الأخاذ. وبينما حمل يوسف حقداً على ابيه السركال الذي شارك في تعذيب الفلاحين، وتصور هارون انه قاتل ابيه لا محالة، كان يوسف يصحح له في الصفحات الأخيرة، ان زاهراً، ابن الفلاح القتيل غافل، هو صاحب الثأر لأبيه 187. اما يوسف فيبقى لغزاً يعجز هارون عن حله: إذ تصوره جاسوساً مرة 105، يراقبه عن بعد ومعتوهاً وسافلاً مرة اخرى. اما في "المصحة العقلية" في الصفحات الأخيرة، فإن يوسف يكشف عن عمله السياسي كعضو ارتباط ما بين الهاربين السياسيين وعوائلهم 181. لكنه يضع مجموعة افعاله في مفهوم يعرفه كل من قرأوا للراحل وهو يميز ما بين الفعل الثوري وامراض الطفولة اليسارية. الشاب اليعقوبي يبرر لنفسه فوضويته الحادة: "ربما يضيف الثوري المقطوع عن الفاعلية الثورية الى نفسه هواية الاحتراف الخبري، والتحدث عن جرائم قتل وسرقة واغتصاب، يلمعها تلميعاً ثورياً 197". وفي مكان آخر يضيف هارون في تحليل انعكاسات "الخلل الآسيوي" على الوضع الجاري: "حين ضاعت الامبراطوريات بعد ضياع الفتوحات، بقي الهاجس الأمبراطوري، والحس الاستيلائي، الذي لم يكن امامه موضوعاً للعمل، فأصبح المواطن هو موضوع التطبيق، موضوع الاستيلاء الامبراطوري. إن كل السيوف والرماح والسكاكين والسنابك التي كانت تستخدم في الفتوحات، أطبقت على رأس المواطن وصدره، وعلى وجوده بأكمله..." 163. ينبغي ان نتذكر ان الرواية تنشد الى الاثنين، وترحل معهما، وهما يبحثان عن الأمر الآخر: هارون ساعياً الى داخل مريضه، وجولاته، وصولاته ما بين القرية والمدينة، ويوسف الذي يتابع الطبيب عن بعد وقرب. الرواية هي ثورة البحث، تنقطها هذه الشروح كلما وضعت الحال داخل مهاد اكبر وحاضن اوسع. لكن الطبيب هارون يعي انه ليس مثالاً كاملاً: "لست مثالاً صافياً 124". وحتى عندما يعجب باستحياء بأم يوسف المطلقة وببيداء، كان يعي انه موزع ما بين "الريف والمدينة في تناقضهما... لكنه مع ذلك احس بأن ما بين خافقيه شيئاً من هنا، وشيئاً من هناك 153". لكنّ الرواية تنتهي بهارون عاجزاً عن فهم اسرار يوسف لحين قيام الأخير بالاعتراف، بينما فوجئ هارون بيوسف عارفاً عنه انه كان قيادياً بين الطلبة والفلاحين. لكنه تنحى عن العمل السياسي ولاذ بمهنة الطب النفسي. وبين رحلتي البحث، وحوارات الشخوص المختلفين من امثال بيداء ونجوى وسالم اليعقوبي والد يوسف وخلف الأعور، تظهر امامنا صورة للعراق ايضاً. تاريخ القهر الإقطاعي قبل 1958، ثم إخفاق الثورة، وانتحارها، وضياع الفلاح داخل العمل السياسي تحت وصاية الأحزاب بعد التحرر من وصاية الإقطاع ص134. والرواية تقدم مثل هذه التمثيلات سريعاً 80- 81، 87- 90 لأن انشغالها بالسياسي يتم من خلال الرحلة النفسية في دواخل هارون ويوسف اليعقوبي، ومعادلات ذلك موضوعياً في التنقلات داخل المدينة، وبينها وبين الريف. لكنّ سؤال عالية ممدوح وارد ايضاً. فما الجامع بين هذا النص وغيره من كتابات عزيز؟ إن كتابة السيد جاسم تضمر هذه الإشارة الى فشل الثورات الوطنية، وتبادل الأدوار فيها على حساب المواطن، و"توثين" الزعامات والشعارات، وادعاء الحقيقة المطلقة. إنه يرجم لوائح التحريم التي سادت منذ 1952. وما يجمع هذه الرواية بغيرها كثير: فالشخوص من امثال هارون يتكررون بأشكال مختلفة، وهاجس التجسس للسلطة يتكرر موضوعاً، وكذلك الريبة والالتباس داخل الحركات السياسية 106. ومثل هؤلاء شخوص من امثال السيد اوديج المعتوه الذي يستعيد ادوار الديكة في "الزهر الشقي"، كما في "المفتون" ص 108، ومثل ذلك موضوع المنامات ص114- 115، الذي يتكرر انطلاقاً من سورة يوسف ومروراً ب"الزهر الشقي"، والمقارنة مهمة في هذا المجال. ورواية عزيز السيد جاسم للحب تتكرر: "الحب الحقيقي هو الذي ينمو تحت مقصلة الرعب 151". وهو ما يجسد حياته المملوءة بمحطات السجون ودوائر التعذيب ما لا يقل عن 12 مرة. رواية "المفتون" هي محصلة اخرى لذهنية عزيز السيد جاسم وهي تمتلئ هاجساً بالذي يجري داخل العراق: فما كان يحذر منه في "الثوري - اللاثوري" و"الانتهازية في العمل السياسي" خلال 1969- 1970، اكتمل امره في الثمانينات: وبرزت الصنمية على اشدها. وتخلى الناس عن السياسة، واستقالوا إن تمكنوا من ذلك. ولكن، كما تنذر الصفحة الأخيرة من الرواية، لا مفر. فالمعتزل مصيره الاعتقال ايضاً. هكذا يقرأ الراحل رحيله، وهكذا يبدو "هارون" الأفصح لساناً والأقدر موهبة. مكبلاً هو الآخر بالمصير الحتمي للدمار الذي ينشره الصنم ويبذره "التوثين". كل ذلك جرى في رواية تلجأ الى الاستبطان كثيراً والتصريح قليلاً.