أثار الدكتور سعد الدين إبراهيم بمقاله المنشور في "الحياة" - 17 أيار مايو حول وقائع التعذيب والامتهان الجنسي التي وقعت في سجن أبو غريب نقاطاً عدة تستحق المناقشة، فقد استهل مقاله بالربط بين الحرب والبغاء عندما يصبح الأخير من تبعات ظروف الحروب ومقتضياتها. وهو تحليل لما جرى في سجن أبو غريب أقرب إلى التبرير منه إلى التفسير. ولم يأخذ الكاتب في تحليله أن ما جرى لم يكن بمبادرة ذاتية أو حتى باندفاع تلقائي من الجنود والمجندات الأميركيين، وإنما كان - باعترافهم - عملية منظمة بأوامر من المستويات الأعلى. والواضح من خلال الصور والمشاهد التي تسربت أن الهدف من الممارسات كان إذلال المعتقلين وليس استمتاع الحراس الأميركيين ذكوراً كانوا أم إناثاً بممارسة طقوس جنسية، وإن كانت السعادة البادية على وجوه الأميركيين تشير على نوع من السادية يلازم تلك الممارسات، وهي في الواقع ملازمة لسلوك قوات الاحتلال الأميركية في العراق عموماً وليس في سجن أبو غريب وحسب. وأرجع إبراهيم في مقاله ثورة الرأي العام الأميركي على وقائع التعذيب إلى تقدير الأميركيين لضرورة تمتع الأسير بحقوق الإنسان ما دام خرج من ساحة القتال، وضرب مثالاً بحلبة الملاكمة التي يُسمح داخلها بتبادل اللكم والضرب وفق قواعد معينة، وهو ما لا يسمح به خارجها، فعندها يصبح الأمر اعتداءً وليس لعبة رياضية. والمثال لا ينطبق على العراق بحال، فغزو دولة ثم احتلالها لا يتيح بالمرة للقوة الغازية أن تقتل مدنيين أبرياء من الشعب المحتل، فضلاً عن أن العراقيين بمن فيهم العسكريون من أصغر مجند إلى كبار القادة، أُقحموا في المواجهة العسكرية مع الولاياتالمتحدة ولم يسعوا إليها، هذا بالطبع افتراض بأن صدام حسين ذاته كان يسعى إليها وهو مجرد افتراض جدلي تدحضه قرائن كثيرة. ما أود لفت نظر الكاتب إليه أن استياء الرأي العام الأميركي مما جرى في سجن أبو غريب لا يعني بالضرورة موافقته على ما جرى أثناء الحرب ذاتها، فمن ناحية قامت الآلة الإعلامية الأميركية بحجب كل ما من شأنه استثارة الأميركيين وقت الحرب، فلم تنقل إليهم مجريات الحرب وتفاصيل العمليات العسكرية كاملة، ومن ناحية ثانية جل ما كان يعرفه الأميركيون عن تلك الحرب أنها حرب من أجل تحرير العراق والقضاء على نظام بغيض يهدد مواطنين أبرياء وقد تصل تهديداته إلى أميركا ذاتها، وعليه فهي حرب "عادلة" تستحق من دافع الضرائب الأميركي أن يرسل فيها ابنه أو أخاه ليؤدي مهمة تهدف إلى خير البشرية وحماية الأميركيين وغيرهم من الأبرياء في العالم. ما أثار الرأي العام الأميركي ليس سوى بعض ما جرى ويجري في العراق، ربما كان الأكثر بشاعة وإثارة للتقزز لكن بالتأكيد بقية ما جرى ويجري ليست خيراً خالصاً، ولا يمكن إلباسها ثوب البراءة وعدالة زوراً وبهتاناً، وإذا كانت إدارة بوش نجحت في إقناع مواطنيها بذلك فلا يجب أن نقنع نحن أيضاً أنفسنا به وننساق وراء الغضب من الجزء فنترك الكل. لكنني أتفق مع سعد الدين إبراهيم في ما ذهب إليه من مقارنة مؤسفة بين القيم التي يؤمن بها الأميركيون وتلك التي يؤمن بها العرب قادة وشعوباً، فانخداع الرأي العام الأميركي في وهم عدالة احتلال العراق يعد في الوقت ذاته مؤشراً الى القيم التي يؤمن بها ذلك الشعب وإلا لثار على تلك الحرب من البداية ولأجبر البيت الأبيض على عدم خوضها، أما عن كونه خُدع إعلامياً وسياسياً فتلك قضية أخرى ليست موضوعنا. في المقابل يدعو الوضع عربياً الى الخجل بل الى الأسى، فلا عذر لنا بالجهل حيث المشكلة قائمة أمامنا وواضحة منذ سنوات بل عقود، سواء في العراق أو في بقية الأقطار العربية، ومن ساندوا صدام حسين هم ذاتهم من سعدوا للخلاص منه بل سعوا إليه حثيثاً، وهم ذاتهم الذين تحسسوا رقابهم عندما كشف جندي أميركي الغطاء عن الحفرة حيث كان يختبئ صدام، وكأنهم جميعاً كُشفوا لا صدّام وحده. هذه هي المفارقة، وهي للأسف ليست مفارقة سلطوية وحسب لكنها شعبوية أيضاً، ولا نبالغ في القول إنها لو لم تبدأ من القاعدة لما وصلت على القمة ولما تمكّن قادتنا من استغلالها واستغلالنا بها. * كاتب مصري.