في متحف تورلينا الإيطالي يوجد تمثال نصفي ليوليوس قيصر. الذي اعتبره مريدوه القاهر الأكبر وكأنه الماشيح. وتمثاله وكأنه الأيقونة. وجه المحارب يبدو رحيماً متوجاً بإكليل الغار. حيث جبهة المخلص تكاد لاترى تحت ذلك التاج الكبير. لكن قيصر قاتل فقط من أجل المجد وتوسيع الأمبراطورية. لذلك فإن تمثاله هذا جاء عملاً فنياً وليس تأريخياً. فجيوش قيصر ، وأمبراطوريته عموماً، لم يهرقوا الدماء من أجل قضية عادلة. فالجندي يجب أن يقاتل من أجل قضية أعظم من مجد الحاكم.إن مفهوم الأمبراطورية لا يزال متعثر التوجه كما كان أيام تحكم قانون المبراطورية الرومانية بأنحاء المعمورة. وصحيح أن بريطانيا والولاياتالمتحدة قد نجحتا في تبرير وعقلنة تواجدهما العسكري في أراض غريبة معتمدتين في ذلك على بنى فكرية. وبنانا الفكرية هي من نوع قدرتنا على إستخراج المواد الولية والكنوز من أراضي تلك الدول وفي المقابل فإننا نعطيها ديانتنا ونساهم في تمدينها وتحضيرها ومساعدتها على تخطي تخلفها. لقد كنا مخطئين في هذا التفكير. وهو الدرس الذي كان على بريطانيا العظمى أن تتلقنه في أفريقيا. وكان على الولاياتالمتحدة أن تتلقن درساً مشابهاً في فيتنام. والدرس هو ببساطة أن الشعوب المستعمرة لا تريد الإحتلال ولا تقبله. إنهم يريدون طردنا وهم يموتون أكثر منا لأن جزماتنا هي الأقوى على أرضهم. لقد أدرك قيصر أن حفاظ قواته على الأرض وعلى السلطة يزداد صعوبة كلما كانت الأرض أكثر بعداً عن روما.قد يكون تحدي الجغرافيا أقل وطأة على الجندي المعاصر لكن المعلومات الآتية من أرض المعركة تعطي ذات الدروس الجغرافية الطابع. وهو عكس ما يتحدث عنه الرئيسان بوش وبلير. اللذان يبدوان يكرران الأخطاء الأكثر سذاجة في التاريخ الكولونيالي من خلال إستغلالهما للعراق.لقد حاول كل من بوش وبلير إقناع العالم بأن إحتلال العراق جاء كخطوة أولى على طريق الحرب على الإرهاب. فكانت شعارات القضاء على القاعدة والتخلص من نظام صدام حسين وغرف تعذيبه. وكانت تلك هي المبررات الاخلاقية للدفع بقواتنا العسكرية الى العراق. وذلك بناء على مثل هذه الذرائع المستهلكة القديمة. ولو دعيت الأشياء بأسمائها وقيلت الحقيقة للجنود ساعة الرحيل لإختلفت الأمور. فجنودنا يعلمون اليوم أنهم يسقطون قتلى في العراق ويتعرضون لتهديد حياتهم لأسباب مخالفة تماماً للأسباب التي أعلنها رؤساءهم قبل الحرب. لقد بدأت الحرب على العراق بكذبة تضخمت بشكل حلزوني في إتجاه أكثر بعداً عن الأخلاقية من البداية وتراكمات اللاأخلاق اللاحقة لها. إن قنابلنا ورصاصاتنا في العراق عاجزة عن التمييز بين البريء والعدو. وفي محاولتنا تحديد مثل هذا التفريق لجأنا الى أساليب وتكتيكات أكثر بعداً عن الأخلاق.كلما إزداد عدد المساجين الموتى في سجن أبو غريب فقدت اميركا وبريطانيا ما تبقى من رصيدها الأخلاقي. لقد قتلنا تاريخنا الذي يصفنا بالمحررين المرسلين من الرب لإنقاذ المقموعين. في لقائه مع مسؤولين فلسطينيين قال بوش أمامهم: « إن الله أمرني بإحتلال العراق «. وعلى العالم الإسلامي اليوم أن يسأل ما إذا كان إله بوش وبلير هو الذي أمرهما بتعذيب المعتقلين في سجن أبو غريب وقتلهم؟. وإذا لم يكن كذلك فكيف يمكن تفسير ما جرى للمسلمين. وهم غير متآلفين مع إله بوش وبلير المسيحي. فهم يؤمنون بالله إله القاعدة وهم رأوا ما سجلته عدسات التصوير في أبو غريب. وهو ما أكد لهم أن المحررين الإفتراضيين لديهم ذات ميول النظام القمعي. بحيث لم يتغير شيء على العراقيين سوى أنه باتت للسجون هناك ادارة جديدة!. وبغض النظر عما اذا كان الارهاب قد استدرج الاميركيين والبريطانيين الى العراق فإن الإيمان يدفع بالمجاهدين لقتال هذه القوات ويستقطبهم من كل البلدان الاسلامية في انحاء المعمورة نحو العراق. وكل مقاتل من القاعدة يؤمن بوجود إله الى جانبه. تماماً كما أقنع بوش وبلير جنودهما بقيامهم بواجب إلهي. وإنه لمدعاة إرباك وإستغراب أن تستمع لتوصيفات رئيس الوزراء البريطاني الهادئة للسلام العراقي بثقة ملفتة تتناقض مع ما نراه من توجه العراق القريب نحو الفوضى الشاملة. من جهته فإن الرئيس الأميركي لا يقبل ،إلا نادراً ، أن يبقى مستيقظاً بعد الساعة العاشرة مساءً. وهو قال لي في مناسبات متكررة « نم جيداً في الليل «. ولا أعلم ما إذا كان هذين الرجلين المؤمنين قد أوليا ثقة أكبر من اللازم لربهما أم لآمريهما!؟. منذ عهد قيصر لغاية إحتلال العراق فإن الأوامر تعكس ذهنية الآمر. والعطل الأخلاقي ( الأميركي – البريطاني ) المصاحب لسوء معاملة سجناء أبو غريب مرتبط بالصراع ما بين أهداف المحاربين وبين مبادئهم الدينية. من الممكن أن يمتلء بوش وبلير بروحانيتهما الدينية. تماماً مثلما يمتليء بها « ملا « مسلم. إلا أن قواتهما العسكرية تحتاج الى معايير محددة للإختيار بين الخير والشر. فهي لا تكتفي بإيمان الرئيس ورئيس الوزراء. إذ أن إيمانهما لا يعدو كونه مسألة شخصية. فعندما قال المسيح بأنه لا يحب القتل فهو لم يضف الى هذه العبارة أية بنود توصيفية تجعلها صحيحة لفترة طويلة لتسمح بالانقلاب عليها لأهداف سياسية معينة. إن غياب الأخلاقيات هي غرغرينا ( الآكلة ) حرب العراق. وهي تتبدى عبر تأكيدات سياسية وحشية. وذلك لا يتبسط في التعذيب ففي حين يموت الجنود والمارينز والعراقيون في الفلوجة يصرح بوش بأن : « القسم الأكبر من مدينة الفوجة قد عاد الى طبيعته «. لقد سقطت أخلاقيتنا في أبو غريب. وهذا السقوط لم يمنع وصف بوش لوزير الدفاع رامسفيلد بأنه « رجل رائع «!. وهو أيضاً لم يمنع بلير عن الإستمرار في العراق كتفاً الى كتف مع بوش. فقطع دابر الأخلاق في ابو غريب عومل على أنه مجرد ممارسة فردية منعزلة عن التهاوي الأخلاقي الذي وقعنا فيه وهو الشكل الأكثر مخادعة ل اللاأخلاقية. هكذا أصبح رمز خيانة المسيح تحويراً لأسطورة القيصر. فبروتوس ،مثله مثل يوضاس، قد أدار ظهره للديكتاتور الذي إدعى حب روما لوقت طويل وعمل على تحسينها. لكن بوش ليس قيصراً بحال من الأحوال. أما بلير فهو لا يستطيع تفادي معطيات ذهنه النير حول موضوع العراق. والمسألة تتلخص بأن إيمانه قد خانه وعليه نهاية أن يعود الى ذهنه ليضع بلاده في مرتبة أعلى من حلفه مع بوش. وهنا تقل أهمية سمعة بلير السياسية في مقابل مصلحة بلاده. وفي الخلاصة فإن إيمان بلير لم يكفه. إن اللبنات الأولى للحقيقة تكون سهلة وسريعة الظهور في كل حرب. ولكن المعركة ممكنة الكسب إذا كانت الأخلاق آخر الهموم. ويبقى الأمل بأن يعود الخير والإرادة الطيبة للصدارة وللتحكم بالأمور. في العراق ليس أسهل من معرفة من هو صاحب القضية الأكثر عدالة. وهنالك دواعي قليلة تجعلنا نعتقد بأن تحالف دولتينا ناجحاً. فحين تختفي الأخلاق من ميدان المعركة تصبح الحرب خاسرة. --------------- مؤلف كتاب : « حرب بوش – العراق والبيت الأبيض والشعب «.