أول من أمس، الأحد، كان تقريباً يوماً فلسطينياً، بل ربما عربياً، في مهرجان "كان"، استبق يوم عرض فيلم يوسف شاهين الجديد "الغضب". ففي يوم واحد، جلس الجمهور أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة لمشاهدة حكاية اللجوء الفلسطيني وضياع فلسطين في فيلم يسري نصرالله "باب الشمس"، وفي الوقت نفسه وزع الجمهور الآخر تلك الساعات نفسها على فيلم "معارك حب" للبنانية دانيال عربيد أسبوع المخرجين، وفيلم جان - لوك غودار الجديد "موسيقانا" خارج المسابقة الرسمية. فيلم غودار قد يحتاج الى المشاهدة مرات - كما تُقرأ القصيدة مراراً - قبل أن يدخل في تفاصيله اللغوية كلها. غير ان المهم، هنا، هو ان الفيلم تضمن، من بين خطاباته الكثيرة، خطاباً جديداً يتعلق هذه المرة بالقضية الفلسطينية. ومعروف ان غودار، الذي يشارك للمرة الثامنة في "كان"، كان يفكر منذ أكثر من ثلاثين سنة بعمل سينمائي عن فلسطين... بل انه صور في عمان ما كان مشروعاً لفيلم متكامل، ثم عاد ودمجه في فيلم عن الإعلام عنوانه "هنا وهناك". اليوم تبدو نظرة غودار أكثر كثافة: نظرة انسانية متعددة الأبعاد، تطرح أسئلة قلقة ومربكة أكثر مما تحاول العثور على أجوبة. وهي نظرة تشكل جزءاً فقط من هذا الفيلم الذي يعطيه صاحبه اسماً عاماً هو "الملكوت" ثم يقسمه ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، الفردوس. وهو تقسيم تعسفي. بدأ غودار "يحصد" ثمار جرأته: نقد مؤيد لاسرائيل يستخف به، ويسخِّف كلامه. انتقاد للحوار الذي تجريه صحافية اسرائيلية، من دعاة السلام كما يبدو، مع محمود درويش الذي يقول لها بوضوح: "ان العالم لا يهتم بنا إلا لأنكم أنتم أعداؤنا. انه يهتم بكم أولاً، ولذلك يهتم بنا بعد ذلك". وغضب بخاصة لأن غودار، في الفيلم، كما في تصريحاته الصحافية، قارب في شكل محكم بين ابادة اليهود على أيدي النازيين، وترحيل الفلسطينيين مقتلعين من ديارهم. غودار في هذا الصدد لم يموضع كلماته، ولا صوره. بدا حاسماً قوياً، واثقاً بأن الوقت حان أخيراً لقول كلام كان لا يزال في حاجة الى أن يقال. فهو "يهودي السينما" بحسب تعبيره، يدهشه أن أحداً، من بين الاسرائيليين والفلسطينيين لم يجرِ تلك المقاربة. لكن هذا ليس كل شيء، ففي مشهد من الفيلم يلقي غودار محاضرة أمام طلاب في ساراييفو، وفجأة يريهم، بين ما يريهم، صوراً ليهود يعبرون البحر الى فلسطين، وأخرى لفلسطينيين يعبرون مجرى مائياً الى المنفى... ويقول: "عبر اليهود الماء ماشين فوقه ليدخلوا الابداع الخيالي - يقصد السينما الروائية على سبيل المثال -. أما الفلسطينيون فعبروا في الاتجاه المعاكس ليدخلوا السينما الوثائقية". فيلم "موسيقانا" قصيدة جديدة لغودار، تحوي تنويعاً مدهشاً بين الثقافي والوثائقي، كما تحوي جملة من تلك العبارات الحادة اللئيمة والقاتلة التي كانت على الدوام جزءاً من ريبرتوار صاحب "بيارو المجنون" و"الاحتقار". ومن المؤكد أن "موسيقانا" سيشغل الأقلام المساجلة أكثر مما سيشغل أهل السينما خلال المرحلة المقبلة.