حين يكتب الشاعر سيرة ما، له أو للآخرين، أو حتى للمكان، فإن كتابته تأتي مضمخة بالشعر، إن على صعيد العبارة الشعرية، أو على مستوى المخيلة والتخييل اللذين يسوقان الكتابة إلى منطقة يتقاطع فيها الشعري مع "السيري" في قدر كبير من مساحتيهما. ونحن هنا لا نفتقد السيرة، لكن تضميخها بالشعر على المستويين المذكورين يأخذها إلى منطقة أخرى ليست هي السيرة الخالصة، وليست شعراً بالتأكيد. في هذا الاتجاه تذهب كتابة قاسم حداد في "ورشة الأمل" من حيث هي كتابة "سيرة شخصية لمدينة المحرّق" من جهة، ومن حيث هي تنطوي على تأملات وعلى قدر من التخييل واللعب الشعريين من جهة ثانية. ومن خلال ذلك ينفذ الكاتب/ الشاعر إلى الجمع بين سيرته وسيرة المدينة، حيث يكتب عن المدينة في لحظة تقاطعها مع الرؤية الإنسانية التي أنشأته ضمن تجربة كان لها الدور الأكبر في صوغه ثقافياً وإنسانياً وإبداعياً، مقدماً مزيج الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبصوت الطفل غالباً، الصوت الذي يعزز شعرية النص. وقد بدا في بدايات "السيرة" أن قاسم حداد يكتب ما يشبه "داغستان بلدي" التي اشتهر رسول حمزاتوف بها، لكن ما سيأتي بعد سيكشف أنه يذهب مذهباً آخر. الشاعر هنا لا يلتزم عناصر السيرة التقليدية، على رغم وجود هذه العناصر، لكنه يتجاوزها ليمنح "سيرته" تلك الأبعاد الشعرية. يستحضر الوقائع الواقعية والشخوص بملامحهم الحقيقية، كما يستعيد على لسان طفله وبمشاعره الطفلية أشكال المعاناة والألم التي عاشها ذلك الطفل مع أهله ومع مدينته. لكن تلك الوقائع وأولئك الشخوص وهذه المعاناة تأتي مرفوعة إلى مستوى الأسطورة، وتلتبس فيها رؤية الطفل البسيطة برؤية الشاب والكهل والشيخ، فنجد أنفسنا أمام نص تجتمع فيه المتناقضات في بناء منسجم تحكمه روح إبداعية خلاقة. سيرة مدينة المحرّق هي سيرة كائن أكثر منها سيرة مكان. كائن يضم الكائنات البشرية والطبيعية من شجر وحجر وبحر... التي تحضر في الكتابة عبر صور شديدة الحميمية. كائن يصفه الكاتب في لحظتين باهرتين من الاكتشاف، لحظة اكتشاف "مدينة الأبواب المفتوحة دائماً"، ولحظة اكتشاف المدينة بصفتها "ورشة الأمل". في اللحظة الأولى يرى الشاعر مؤلف سيرة مدينته أن هذه المدينة كانت، ولا تزال، بالنسبة إليه المدينة التي لن يصادف فيها، سواء كان طفلاً أم شيخاً "حدوداً فاصلة بين داره وعائلته وبين الدور والعائلات الأخرى... لأن ظاهرة الأبواب المفتوحة سأصادفها بأشكال مختلفة..."، أي ضمن ما يسميه "الآلية الحيوية الغنية بالنماذج البشرية والتجارب والمشاعر" حيث تعرّف على "شبكة من علاقات البشر" وتحسس "المعنى البسيط والعميق لضرورة الفرد في المجتمع وحيوية تقاطعه مع الآخرين"، لأن الأبواب المفتوحة كانت على حد سواء "مفتوحة للضيف وللمحتاج كما كانت مفتوحة للمتظاهرين والهاربين من بطش الشرطة". وفي اشتباك وتقاطع مع هذه اللحظة تأتي اللحظة الثانية حيث تكون مدينته "مشروعاً لا يكتمل إلا إذا اتصل بحيوية الأمل الإنساني". ولمسألة الأمل هنا أبعاد ترتبط بأسئلة الشعر الأولى، الأسئلة المرتبطة بالحياة اليومية وبالسؤال الجوهري في الوجود في آن واحد. أسئلة الحرية والعدالة، وأسئلة النضال السياسي والاجتماعي، وكذلك الأسئلة المرتبطة بالكدح والكفاح والمعاناة من أجل حياة أفضل، أو من أجل كسب ما يكفي لسد الرمق في أسوأ الأحوال أو أفضلها، من دون إغفال لسؤال الجمال الحقيقي. وفي كلتا اللحظتين ترتبط الأشياء ببعضها بعضاً ارتباطاً عضوياً أو بنيوياً، فلا انفصال للسياسي عن الاقتصادي والاجتماعي، ولا فصل بين هذه كلها وبين الثقافي. مثلما لا ينفصل ما هو تاريخي عما هو راهن. وليس بلا دلالة الذهاب إلى ربط اسم مدينة المحرق بواحد من ملوك الحيرة وهو المحرِّق الذي اشتهر بحرق خصومه السياسيين، من دون أن يكون لهذا الربط أي سند تاريخي. ذلك كله وسواه من أسئلة تطرحه هذه الكتابة من دون مواربات أو تزويقات، وهي وإن كانت تتلبس لبوس الشعر أو اللغة الشعرية، إلا أنها كتابة سردية بامتياز، سردية في اختيارها الوقائع والشخوص وتقديمها في ما يقارب الصيغة الروائية، وفي حملها على المستوى الأسطوري، وما يلبسها قناع الشعري الذي يبقي الحياة كلها خارج نطاق الواقعي، بل يقارب الواقعية السحرية في "أسطرتها" للواقعي ذي الوقع والتأثير العميقين في حياتنا. في أتون التجربة لا مجال هنا لمقاربة تفاصيل هذه الكتابة السيرية التي تسجل يوميات حيناً، وتنشغل بروح الأشياء وجوهرها حيناً آخر، لكنها تظل مهجوسة بأعماق ذلك الطفل الذي يرتبط مصيره بتلك المدينة التي هي "سواد البحرين"، أي "مصدر حياتها، بالمعنى الواقعي حيناً، والمجازيّ حيناً آخر". وهو ما يجعلنا نكتفي بالتقاط هذ الروح الجوهري الذي يحكم النص "السيري"، سواء تعلق الأمر باليوميات التي يجرى تناولها بسردية واقعية تكشف طفولة بائسة ومعاناة حقيقية، أو تعلق برسم معالم شخصية طفل يتشكل في أتون التجارب القاسية والصعبة في مواجهة "أعداء" كثر، أولهم الإنكليز والسلطة المحلية، وليس آخرهم الفقر الذي يدرك الطفل ملامحه حين يضطر إلى مساعدة الوالد في إعالة الأسرة. من أكثر "الأمكنة" ارتباطاً بذاكرة الشاعر، مدرسة الهداية التي شهدت نزوعه المبكر الى الأدب والشعر في المرحلة الابتدائية، حيث أرشد خطواته الأولى نحو الشعر الأستاذ عبدالحميد المحادين الذي كان جاء تواً من مدينة الكرك الأردنية متحمساً للأدب ويكتب الشعر آنذاك. وهو الذي سيقول عنه قاسم في ما بعد إنه أستاذ ولم يكن مدرِّساً، ليفرق بين مدرس مخلص للماضي وللمنهج المقرر، وأستاذ مخلص للمستقبل وابتكار المخيلة. فمن خلال محادين وقف حداد أمام الحرية عبر الموقف من قوانين وأوزان الخليل الشعرية التي قال له المحادين إن عليه ألاّ ينشغل بها، وكانت هذه نقطة انطلاق لمواجهة الحرية إلى اقصى حدودها. صور وشخصيات صورة الأب هي واحدة من الصور التي توقفنا مطولاً أمام صورة تنقض الكثير من صور الأب في الكتابة العربية. تنقض الرغبة في "قتل الأب" التي كرّستها كتابات كثيرة، حيث يسعى سارد هذه السيرة إلى رسم صورة أسطورية للأب "المختلف" الذي يتساءل حيال عاطفيته وارتفاع درجة الحنان لديه "كيف يمكن أباً مثل هذا أن يموت؟". وكثيرة هي التفاصيل الحميمة التي تدعم هذا السؤال الاستنكاري وتكرس الإجابة بأن هذا الأب لا يموت! وليس الأب هذا سوى أنموذج لشخص الأب الكادح من أجل عائلته وأبنائه، لكنه الأنموذج الأعلى الذي لا يتورع عن "صلب" ابنه الوحيد على خشبة في باحة البيت، ليس لأنه سرق نقوداً مخصصة لخبز العائلة، بل في الأساس حتى يتعلم ألاّ يسرق الآخرين، لأنهم لن يرحموه، فالأب يعاقبه ويقول له إنني أعاقبك "قبل أن يعاقبك الآخرون". وهذا منتهى الحرص "القاسي" من أب على ابنه الوحيد. البحر شخصية أخرى من أقوى الشخصيات حضوراً في هذه السيرة. فهو واقعي وميثولوجي/ أسطوري في آن واحد. بحر حميم ودافئ ومعطاء، في جانب، لكنه الكائن الذي يأخذ الرجال في رحلة ويعود من دونهم حين تهب العواصف والصواعق، يعود متقمصاً "دور رجل البريد البارد"، ويروح يروي للنساء والأطفال روايات اختفاء الرجال، وعندما تعاقبه النسوة بالنار نكتشف أن لا ذنب له، وأنه ضحية مثل الرجال الذين فقدهم، لأنه لا يمكن تخيل بحر بلا رجال، وأنه ليس سوى ماء غزير يمنح الأرض ميزانها. وما بين هذين الحدين من الواقعية والأسطورية تقع التوصيفات الأساسية للكائنات التي يتناولها كاتب سيرة المحرق هذه. لذا تصعد هنا لغة الشعر وروحه فتحتل حيزاً أساسياً في السرد، لأن الشعر هو الصانع الأول للتراجيديا، وقاسم هنا، كما في كثير من قصائده، هو صانع ماهر لنص بملامح التراجيديا. الجبل كائن آخر من الكائنات التي ينسجها قاسم ببراعة ويمنحها ملامح ربما ليس فيها، وخصوصاً الجبل الأخضر في عمان الذي يذهب إليه الشاعر في رحلة "أسطورية" خارج سياق "سيرة المحرق"، ولكن في سياق علاقته بالأمكنة الفخمة ورغبته في اكتشاف أبعادها الأسطورية أو خلق هذه الأبعاد. هذا الاكتشاف الذي يكشف لنا نحن القراء شهوة الكتاب والمبدعين عموماً بخلق الأسطورة، بل حاجتهم النفسية والوجودية الى خلق هذه الأسطورة لما يمكن أن تحققه لوجودهم من توازن. فصعود الجبل الأخضر ينبغي أن يكون أسطورياً حتى تكون له تلك القيمة العليا. لكن الجبل الأخضر يكتسب قيمته وأسطوريته من ذاته أيضاً، وليس من مجرد الكتابة عنه بهذه الطريقة أو تلك، يكتسبها من كونه حصناً للثوار، ومن المياه الهائلة التي يرسلها للناس، إلى درجة أن الناس يبادلونه ماء بماء، فنرى، على غير الطبيعي، صعود الماء إلى الجبل في قنوات تخرق القانون الطبيعي. ومن هنا يلتصق به أهله وساكنوه الذين يبدون وقد اكتسبوا بعداً أسطورياً، وحين يكتب عنهم الشاعر يبدو كمن يكتب عن كائنات تاريخية مغرقة في القِدم. ولا تقل أسطورية عن الرحلة إلى الجبل رحلة الطفل إلى "عين نجم" في الإحساء، خصوصاً الطريق الصحراوي الذي يقود إلى تلك العين. والأسطرة هنا تتعدى تضخيم المكان وتجميله وتصويره إلى رسم العلاقات الإنسانية الحميمة في لحظات متباينة بين الجمال والرهبة، لحظات تهاجم الذئاب فيها سيارة الرحلة، فنرى انكماش الناس وحدبهم على بعضهم بعضاً، ونرى حكمة المرأة التي ترمي إلى الذئاب المسعورة بالدجاجات المعدّة لطعام المرتحلين. وأخيراً، كثيرة هي الدفقات العاطفية المؤلمة التي يواجهنا بها نص قاسم هذا، ولا يمكن الوقوف على جمالياتها وتفاصيلها، ولكن تجدر الإشارة إلى واحدة منها تتمثل في العلاقات الحميمة والقاسية في آن واحد بين مجموعة أفراد العائلة التي وجد قاسم نفسه فيها في طفولته. ففي الصفحات 130 - 135 شيء من حكايات الفقر والبؤس الآدمي يندرج تحت مسمى "قوت لا تموت"، وهنا ترتفع درجة غليان العاطفة حد البكاء مع النص. ترتفع وتيرة العويل الإنساني حين تضطر العائلة إلى مشاركة البقر طعامها من نوى التمر.