بمناسبة مرور الذكرى المئوية الثانية على وفاة الفيلسوف الألماني الكبير عمانوئيل كانط 22/4/1724 - 12/2/1804 تستعاد أفكاره التنويرية التي مثلت قطيعة معرفية مع الفكر التقليدي وتحولاً جذرياً في الفلسفة الحديثة جعلته من أبرز الفلاسفة الأوروبيين من خلال اعادة النظر في العلاقة بين الذات والموضوع وتأسيس فلسفة نقدية مهدت الطريق لثلاثيته المشهورة، "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي" و"نقد ملكة الحكم"، فاتحاً بذلك طريقاً جديداً للعقل، حيث أصبح "من العبث ان يحاول المرء البرهنة على صحة اي شيء يتجاوز نطاق العقل". لقد ساهمت افكار الانسكلوبيديين في العلوم والمعارف والحركة السياسية اليت فجرتها افكار الثورة الفرنسية ومبادئ حقوق الانسان في بلورة الفكر الاجتماعي والفلسفي والتعبير عن موقف فكري واضح يؤكد على ان منبع الافكار هو الواقع الاجتماعي بذاته وتأسيس دولة تنزل السلطة، بما فيها سلطة الافكار، الى المجال الشعبي، وتمثلت بالثورة الفرنسية ومبادئ حقوق الانسان. والى جانب ذلك تفجرت الثورة الفلسفية على يد كانط، التي كانت تدشيناً لفكر نقدي جديد كونت قطيعة مع ما سبقها من فلسفات. لقد سعى كانط الى تهيئة الاذهان لتغيير الانظمة السياسية والثقافية والاجتماعية التي باتت لا تتلاءم مع روح العصر وجعل من فكرة النقد والتقدم الانساني وقدرة العقل البشري، كمصدر وجيه للمعرفة الصحيحة، ومناهضة التفكير الميتافيزيقي، المحاور الرئيسة لتأسيس فلسفة جماهيرية تنويرية كانت الهدف الرئيس الذي سعى عصر التنوير الى تحقيقها. ولكن ما هو التنوير الذي احدث انقلاباً جذرياً ومهماً في الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي في أوروبا؟ كتب كانط عام 1784 مقالاً في مجلة "برلين الشهرية" بعنوان: "ما هو التنوير؟". قال فيه: "التنوير هو خروج الانسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر... ويقع الذنب في هذا القصور على الانسان نفسه عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار الى العقل، وإنما الى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من انسان آخر...". كما أضاف كانط الى ذلك: "ان الكسل والجبن هما علة بقاء البعض من الناس عاجزين وقاصرين طوال حياتهم، بعد ان خلصتهم الطبيعة من كل وصاية غريبة عليهم، وفي الوقت ذاته، فإن الكسل والجبن هما سبب تطوع الآخرين في ان يفرضوا وصاياهم عليهم". نستطيع ان نستنتج من هذا النص المهم، ان هناك مصلحة في ابقاء الناس على قصورهم وعجزهم، وانهم مسؤولون عن ذلك. ويرتبط تطوع الآخرين في فرض وصاياهم عليهم بمصلحة تحقيق السيطرة على القاصرين منهم واستغلالهم، لأن الأوصياء يجدون صعوبة في تحقيق سيطرتهم واستغلالهم لهم اذا لم يكن هناك افراد يعجزون عن استخدام عقولهم، ولكن هناك قلة من الناس استطاعت، بفضل استخدامها لعقلها، ان تتحرر من وصايا الآخرين المفروضة عليهم، وأن للإنسان عقلاً يميزه عن بقية الكائنات الحية ويوجهه نحو العمل المفيد والمعرفة الصحيحة اذا استطاع استخدامه من دون توجيه من انسان آخر، واخيراً ليس هناك شيء يتطلبه التنوير بقدر ما يتطلب الحرية، اي حرية الاستخدام العلني للعقل وفي كل الامور. ويمكننا ايجاز المبادئ الفكرية والاجتماعية التي دعى اليها عصر التنوير بما يلي: اولاً، ان احدى أهم نتائج عصر التنوير هي النزعة العقلانية التي كانت تجسيداً للتقدم والتحرر الفكري والاجتماعي والسياسي الذي واكب التحولات الاقتصادية التي حدثت في اوروبا والتي اعتبرت العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة مثلما اكدت على احترام العقل بل وتقديسه ونبذ الفكر الميتافيزيقي والاسطوري وناضلت ضد الايديولوجية الاقطاعية والكنسية وعملت بلا هوادة من اجل سيطرة العقل لقدرته على فهم وادراك الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ثانياً، قامت فلسفة التنوير على مفهوم "التقدم" الذي انبثق من الايمان بقدرة العقل البشري على التطور والتغيير والتقدم نحو الأحسن والأفضل للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لمصلحة الانسان والمجتمع وكذلك قدرة الانسان على مواجهة التحديات التي تواجهه بفضل قابلياته ومقدراته الذهنية. ثالثاً،اعتبرت فلسفة التنوير المجتمع الانساني بكونه اكثر من مجتمع سياسي، وبمعنى آخر، اكدت على التفريق بين الدولة والمجتمع، وبذلك وجهت الانظار الى الاهتمام بالنظم والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. رابعاً، اتخذ عصر التنوير من مفهوم "المنفعة" خلقاً اجتماعياً واصبح اساساً في التعامل الانساني - وكفلسفة اجتماعية - قيمية فسرت الاخلاق بمفهومي "اللذة والألم" واتخذت من سعادة الاكثرية اساساً لتقرير وتقويم السلوك الاجتماعي. خامساً، انطوى عصر التنوير على طبيعة انقلابية - ثورية قامت على منهج جدلي نتيجة تحالف الطبقة البورجوازية الجسدية مع الارستقراطية وبقايا الاقطاع من جهة، وظهور الحركات الجماهيرية والنقابات العمالية، كرد فعل لها من جهة اخرى، كان هدفها احلال مجتمع ديموقراطي اكثر حرية وعدالة ومساواة. سادساً، اخذ فلاسفة التنوير يفسرون الظواهر الاجتماعية على ضوء القوانين الطبيعية وذلك بسبب انتشار المذهب الحسي كمذهب للبحث في نظرية المعرفة والاهتمام بدراسة الحياة الاجتماعية. كما اتجهت العلوم الى استخدام "التجربة" التي اصبحت لها أهمية خاصة باعتبارها مصدر المعرفة العلمية. كما هو الحال عند جون لوك وديفيد هيوم. والحقيقة انتج عصر التنوير تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات فلسفية واجتماعية مختلفة شملت جميع أوروبا، كان في مقدمها فلسفة التاريخ وفلسفة القانون ونظريات العقد الاجتماعي والاشتراكيات الطوباوية وغيرها التي طبعت تاريخ الفكر الحديث في أوروبا. غير ان عصر التنوير، الذي دعا الى فكرة العقلانية والتقدم الاجتماعي وتأكيد أولوية الانسان وحريته واستقلاليته وجعل سلوكه القاعدة المعيارية لممارساته الاجتماعية لم يحقق ما وعد به، بل ومهد الطريق، كما يقول هوركهايمر وادورنو في كتابهما جدلية التنوير، لتنامي انظمة شمولية لم تأت عبثاً وأخذ المجتمع العالمي بالانقسام وبذلك تنحى الفكر النقدي عن وظيفته واهدافه التي دعى اليها، وهو ما كون شكلاً من اشكال الارتداد على الذات، الذي تمثل بالتحول الى سلطة الدولة الشمولية وسيادة الاقوى وليس الأفضل، الذي قاد الى فكرة "التمركز الأوروبي" التي جرت الى نمو الديكتاتوريات واستمرار الحروب ولتصنيع الثقافة التي انطبعت في أخلاقية الانسان الاقتصادي ومعاييره النفعية حيث اصبح المال والقوة هما مقياس النجاح والتقدم في الحياة.