فقدت مصر في الاسبوع الاول من شهر نيسان ابريل آخر عمالقة العصر الليبرالي العربي، الدكتور سعيد النجار الاقتصادي البارز، والقاضي الدولي لمنظمة التجارة العالمية، عن سن يناهز أربعة وثمانين عاماً. كان سعيد النجار ليبرالياً شاملاً، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة، وبهذا المعنى كان ابناً وفياً للعصر الليبرالي العربي الاول، الذي بدأت بذوره الجنينية في أواخر القرن التاسع عشر مع النهضة العربية الحديثة، التي رمز لها الطهطاوي، وعلي مبارك والافغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد. وترعرعت هذه البذور الجنينية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وأينعت ثورة 1919 في مصر ودستور 1923، وهي الفترة التي ولد فيها سعيد النجار 1920 لأسرة من اعيان الريف في محافظة البحيرة. توفي والده وهو في السابعة من عمره، وكان هو أصغر إخوته الذين كانوا قد قطعوا قسطاً وافراً من تعليمهم، لكن رحيل الاب تزامن مع الكساد الاعظم في نهاية عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، ما ادى إلى فقد الاسرة لمعظم املاكها، وعدم القدرة على ان يسير في ركب اخوته الذين سبقوه في الانتهاء من المرحلة المتوسطة. ولكن والدته صممت على ان يستكمل تعليمه، وباعت مصوغاتها، وبعد ذلك ما ورثت من عائلتها لكي يبقى سعيد في مدارس دمنهور الابتدائية ثم الثانوية، ثم ليلتحق بكلية الحقوق في جامعة فؤاد الاول، حيث تتلمذ على عملاق الفقه القانوني عبدالرزاق السنهوري باشا. كان جزء من حماسة الام لتعليم ولدها الاصغر يرجع الى نبوغه الظاهر، الذي تجلّى في انه كان دائماً اول دفعته في كل مراحل الدراسة، ومن ذلك انه كان الاول على خريجي كلية الحقوق العام 1940، وكان اوائل هذه الكلية المتميزة والوحيدة في ذلك الوقت يعينون وكلاء نيابة، ويتدرجون في سلك القضاء إلى ان يصبحوا مستشارين او وزراء. وفعلاً عُيّن سعيد النجار معاوناً ثم وكيلاً للنيابة في مدينة الاسكندرية، لكن استاذه عبدالرزاق السنهوري استدعاه إلى القاهرة، وأغراه بأن يصبح معيداً، وان يتدرج في سلك التعليم الجامعي، الذي كان يتمتع باحترام شديد في ذلك الوقت. وبمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واستئناف ارسال البعثات الدراسية، حصل سعيد النجار على احدى هذه البعثات لدراسة الاقتصاد السياسي، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة لندن، وهناك تتلمذ على جيل آخر من كبار الاساتذة والفلاسفة وعلماء الاجتماع - من بينهم هارولد لاسكي، وبرتراند راسل، وكارل بوبر، وكان لمحاضرات هذا الاخير عن المجتمع المفتوح اشد وأبقى الاثر على سعيد النجار، طوال بقية حياته. وحينما عاد سعيد النجار إلى مصر العام 1950 لكي يعمل مدرساً في كلية الحقوق، التي تخرج فيها قبل عشر سنوات، احتضنه السنهوري باشا مرة اخرى، واحتفى به، ودعاه مرات إلى منزله، حيث تعرّف بأفراد الاسرة ومن بينهم ابنة السنهوري الوحيدة التي وقعت في حب سعيد، وفرح الاب بهذا التطور الذي انتهى بزواج سعيد، دام ثلاثين عاماً، ورزق منها بطفلين قبل ان ترحل عن عالمنا. تلاقت ليبرالية سعيد بليبرالية استاذه السنهوري وأدى ذلك إلى اصطدامهما المبكر مع ثورة تموز يوليو 1952. ووصل هذا الصدام إلى اقصاه في شباط فبراير 1954 حيث كان السنهوري رئيساً لمجلس الدولة وهو بمثابة المحكمة الدستورية العليا، التي كانت تميل في احكامها إلى مناصرة الديموقراطية، وهو ما كان يعني بدوره دعم اللواء محمد نجيب في صراعه مع عبدالناصر، حول ما اذا كان الجيش يعود إلى ثكناته، ويترك السلطة لحكومة مدنية منتخبة ديموقراطية كما كان يريد محمد نجيب وخالد محيي الدين، وقلة من الضباط الاحرار، أم يستمر الجيش في السلطة لسنوات اضافية عدة، إلى ان تحقق الثورة اهدافها، وهو ما كان يريده جمال عبدالناصر وأكثرية الضباط الاحرار. ولكي يمنع الفريق الاخير السنهوري باشا ومجلس الدولة من اصدار أي فتوى تدعم موقف الفريق الاول فقد اوعزوا إلى عدد من عمال النقل في القاهرة الكبرى بالتظاهر ضد الديموقراطية، فساروا في تظاهرة إلى مبنى مجلس الدولة واقتحموه وقاموا بالاعتداء على الدكتور السنهوري، الذي كان في الستين من عمره، وكادوا يقتلونه لولا تدخل العاملين في مجلس الدولة من الموظفين والعمال ورجال القضاء لانقاذ الرجل ونقله إلى اقرب مستشفى وقد ترك هذا الحدث اثراً عميقاً في السنهوري وصهره الشاب سعيد النجار، فتركا مصر في أقرب فرصة تالية، حيث عمل السنهوري استاذاً للقانون في جامعة بغداد، في اواخر الخمسينات، ثم مستشاراً قانونياً لحكومة الكويت في اواخر الستينات، اما صهره الشاب سعيد النجار، فقد التحق بعدد من المنظمات الدولية كمستشار اقتصادي. وكما ظل السنهوري وفياً لمبادئه إلى نهاية حياته في اوائل السبعينات، ظل صهره سعيد النجار وفياً لمبادئه الليبرالية إلى ان وافته المنية أخيراً، اي بعد معلمه بأكثر من ثلاثين عاماً. كان آخر منصب تقلده سعيد النجار، قبل العودة النهائية إلى مصر في اوائل التسعينات، هو محافظ البنك الدولي ممثلاً لمصر والمجموعة العربية. وتزامنت عودته مع اخذ مصر بسياسة الانفتاح الاقتصادي وآليات السوق وكان هو من اقوى دعاتهما، ومع ذلك فقد كانت مسيرة هذا الانفتاح متعثرة. واشار بعضهم على الرئيس مبارك ان يستعين بالدكتور سعيد النجار لتصحيح ودفع المسيرة، وفعلاً اجتمع الرئيس بالدكتور النجار، وعرض عليه ان يكون نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، ويتولى قيادة المجموعة الاقتصادية. وعرض د. النجار بدوره رؤيته للاصلاح الاقتصادي، والتي لا يمكن ان تتم بنجاح الا اذا صاحبها اصلاح سياسي ينطوي على تحول ديموقراطي حقيقي، فالليبرالية الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من الليبرالية الشاملة - سياسة واجتماعاً وثقافة - وكان هذا كلاماً جديداً يسمعه الرئيس لاول مرة، ورأى ان ما يطرحه د. النجار يصعب تحقيقه في ذلك الوقت واعتذر الرجل عن عدم قبول المنصب الرفيع، والذي كان يسيل له لعاب كثير من المشتاقين للسلطة. واختار الرجل بارادته الحرة ان يكون داعية إلى الليبرالية، من خلال تنظيمات المجتمع المدني والمنظمات الاهلية غير الحكومية فأنشأ جمعية "النداء الجديد"، كما انضم إلى مجلس امناء مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية، والمنظمة المصرية لحقوق الانسان، واصبح داعية للمساواة الكاملة للمرأة مع الرجل، والاقباط مع المسلمين. وتصدى للقضايا الساخنة، مصرياً وعربياً وعالمياً، وكان دائماً واضحاً متسقاً اميناً في مواقفه وافعاله في الحياة العامة، كما كان يتمتع بنزاهة نادرة وشجاعة فائقة. وتجلى ذلك في رئاسته للجنة المصرية المستقلة لمراقبة الانتخابات العام 1995 والعام 2000 ثم في رئاسته للجنة الوحدة الوطنية في اعقاب الاحداث الطائفية، التي وقعت في بلدة الكشح في محافظة سوهاج، في عامي 1998 و1999/2000 وكان يدرك تماماً ان تصديه لهذه المهمات يثير عليه حنق الاجهزة الرسمية في الدولة المصرية. ولكن الرجل لم يبال. فقد كان ارضاء الضمير بالنسبة اليه أهم الف مرة من ارضاء اي مسؤول. وظل الرجل زاهداً في السلطة والثروة إلى نهاية حياته. ووصل اداء سعيد النجار إلى القمة في ارضاء ضميره وإغضاب المسؤولين حينما انفجرت قضية مركز ابن خلدون في حزيران يونيو 2000 والتي تفاقمت خلال السنوات الثلاث التالية. وهو المسؤول الاول عن تعبئة المثقفين المصريين والعرب والمنظمات الحقوقية العالمية لنصرة المتهمين في تلك القضية، وكانت شهادته في المحاكمات الثلاث قمة في الادب السياسي. ومن اقواله المشهورة في احدى هذه المحاكمات، انه قضى ستين عاماً يدرس اسباب تقدم الامم وتأخرها، وهو يدرك الان أهم اسباب التخلف في مصر اذ ان افضل ابنائها مثل احمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم أجبر على الهجرة إلى الخارج إذ انتهى الامر ببعضهم - واشار بيده إلى المتهمين في القضية - خلف القضبان. ان سعيد النجار عملاق انساني، ورمز للديموقراطية ومناضل فذ من أجل الحرية وحقوق الانسان، فرحمة الله عليه، ودعاؤنا ان يجود القدر بأمثاله لمصر والامة العربية. * كاتب مصري