على مدى ما يزيد على40 يوماً، ومنذ إلقاء القبض على رئيس "مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية" سعد الدين ابراهيم في 1 تموز يوليو الماضي، تحولت القضية الى نموذج لقضايا الرأي العام "الخاص"، اذ أضحت مجالاً خصباً لاستعراض الآراء والمواقف المتباينة، واحياناً العضلات، في أوساط معينة في مصر وخارجها. والمؤكد أن قضية استاذ علم الاجتماع المصري - الذي يتبوأ 18 منصباً - أعادت تقويم وتحليل وإلقاء الضوء على نشاط جماعات حقوق الانسان في مصر، والمراكز البحثية والجهات المانحة وتمويل المنظمات غير الحكومية، وأسلوب التغطيات الصحافية في الجرائد المصرية القومية والمعارضة والمستقلة. تحول ابراهيم من شخصية أكاديمية معروفة بعلاقاتها المتعددة ونشاطها في مجالات بحثية الى متهم بتقاضي اموال من جهات أجنبية وتشويه سمعة مصر. وتحول المركز الذي يرأسه من مؤسسة بحثية لها صلات وثيقة بدول ومؤسسات أجنبية وغير اجنبية مثل وزارة التربية والتعليم المصرية الى مكان مشبوه وصم كل من تعامل معه. ولعبت صحف عدة دوراً لا يستهان به في القضية يكاد لا يقل أهمية عن الدور الذي تقوم به نيابة أمن الدولة العليا التي تحقق مع ابراهيم. جريدة "الاسبوع" الاسبوعية هي صاحبة الفضل في اشعال فتيل الحرب الموجهة ضد المركز ورئيسه، التي تسعى حالياً الى دق المسمار الاخير في نعشيهما، إذ دأبت على نشر مقالات محذرة نشاط المركز، ونوعية الابحاث التي يجريها، وحساسية فحواها من اسئلة خاصة بتقويم نظام الحكم في مصر وغيرها. وهي التي حذرت من انعقاد مؤتمرات في المركز بمشاركة وزارة التربية والتعليم المصرية، وضلوعه في قضية تطوير المناهج الدراسية في مصر، مع ما للمركز من ميول الى إدراج قضايا مثل التسامح وتقبل الآخر، وما ينطوي عليه ذلك من قضايا مثل التعامل مع اسرائيل، ووضع الاقباط في مصر. وفي الوقت الذي التزمت الصحف القومية تغطية تفاصيل القضية في حدود ما يرد من الجهات المحققة، كانت "الاسبوع" صريحة في موقفها. وهو ما يتضح من عناوين مثل "مساعدة مدير مركز ابن خلدون تكشف الحقائق ل"الاسبوع": "أودعت 145 ألف جنيه في حساب سعد الدين ابراهيم من حصيلة البطاقات المزورة"، و"الاسرائيليون وحلف الناتو كانوا على اتصال دائم بمركز المقطم" و"مطلب غريب لاسرة مدير المركز: الدعوة لجلب "مستشار محايد" للتحقيق مع سعد الدين ابراهيم" و"القاهرة ابلغت واشنطن رسمياً رفضها التدخل في قضية مدير مركز ابن خلدون". وإن كانت قضية مدير مركز ابن خلدون - على رغم اهميتها وانطوائها على عدد من الأمور المتشابكة والبالغة التعقيد - ليست من القضايا المثارة على مستوى رجل الشارع في مصر، إلا أنها استحوذت على اهتمام رجل الشارع المسيحي. فمنذ إلقاء القبض على ابراهيم، واحاديث اقباط مصر لا تخلو من اسم ابراهيم الذي شملت أبحاثه واهتماماته وتخصصه الاكاديمي في الاقليات، موضوع الاقباط. رئيس تحرير جريدة "وطني" الاسبوعية - لسان حال أقباط مصر - السيد يوسف سيدهم شبه "اجتياح" مركز ابن خلدون "بأيام زوار الفجر الذين كانوا يتحركون في ظلام الليل ليقبضوا على عتاة المجرمين او كبار المعارضين السياسيين او الجواسيس". ويتساءل سيدهم بحسرة: "ومن هو الشخص المستهدف؟ هو شخصية عامة ذات باع طويل في مجال العمل العام من أجل تأسيس المجتمع المدني، والدعوة للنهوض بمعايير الممارسة الديموقراطية، واحترام حقوق الانسان". ويتساءل مرة اخرى ملخصاً موقفه: "لماذا نبرع دائماً في جعل القضية قضية رأي عام أو أمن قومي أو قضية خيانة عظمى قبل أن ينتهي التحقيق؟". صحيفة "الوفد" اليومية - لسان حال حزب الوفد المعارض - تعاملت بحذر مع القضية برمتها، وسمحت لأقلام بالمدافعة الخجولة عن سعد الدين ابراهيم وسياساته بالكتابة على صفحاتها، وذلك على رغم الهجوم الضاري الذي شنته على ابراهيم في افتتاحيتها قبل إلقاء القبض علىه بأيام، متسائلة "الى متى السكوت على هذا الرجل". الاقتصادي البارز الدكتور سعيد النجار كتب مقالاً عنوانه: "تأملات في قضية الدكتور سعد الدين ابراهيم" مذيلاً بجملة "هذا المقال يعبر عن الرأي الشخصي لكاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي وسياسة حزب الوفد"، تاركاً بذلك باب التضامن مع ابراهيم موارباً. وصف النجار قرار "القبض على ابراهيم وحبسه احتياطياً ومداهمة منزله والاستيلاء على بعض الوثائق ومداهمة مركز ابن خلدون ثم اغلاقه، والقبض على عدد من الشبان العاملين فيه" بالصدمة القاسية لكل من عرف ابراهيم. فابراهيم - في تقويمه - استاذ مرموق في علم الاجتماع السياسي ليس في مصر فقط، لكن على الصعيد العالمي، كما أنه نجح في "أن يضع مركز ابن خلدون في مقدم مؤسسات المجتمع المدني العاملة في حقل الديموقراطية والتنمية وحقوق الانسان". وانهى النجار مقاله الدفاعي بدعوة الى أنه "آن الأوان ليتمتع المواطن المصري بحقوقه الأساسية في ظل ديموقراطية حقيقية، تحميه من الاجراءات القمعية الاستبدادية". وأفردت "الوفد" مساحة مماثلة، وإن كانت هذه المرة للهجوم على ابراهيم والمطالبة بإنشاء وزارة لحقوق الانسان بحسب ما كتب الدكتور رفعت سيد أحمد. فهو يرى ان قضية ابراهيم "دعت السابلة الى تصفية الحسابات، وفتح الملفات ونظر الدعاة واصحاب دكاكين حقوق الانسان في مصر الى ان قضية ابراهيم ليست سوى وجه من الأوجه العديدة لحقوق الانسان المنتهكة في مصر". ويتساءل أحمد اذا كان دفاع زمرة من مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الانسان بهذه الحرقة عن ابراهيم، على رغم علمهم بشبهة تعامله مع الأعداء الصهاينة يعد شكلاً من أشكال اعتذارهم عن ماضيهم الثوري؟ ويمضي أحمد في هجومه الضاري على منظمات حقوق الانسان التي يسميها "الفرق المتأمركة والمتصهينة" وهي الجناح الذي كان يمثل الحماية لأمثال ابراهيم. أما جريدة "القاهرة" الاسبوعية فترجمت شعارها "الحرية الحقيقية تحتمل ابداء كل رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب" ترجمة عملية بموضوع عنوانه "الاختلاف مع سعد الدين ابراهيم لا يمنع من القول: صحافة معلومات وليست صحافة محاكمات"، وتوسطت صورة فوتوغرافية كبيرة لإبراهيم العنوان - ويبدو أنها ملتقطة في ندوة أو حوار - عكس "الاسبوع" التي لا تنشر إلا صورة ابراهيم الملتقطة له بعد القبض عليه. وموضوع "القاهرة" يطرح سؤالاً مهماً: "ما الفرق بين حق النقد وحق التجريس؟" أي التشهير. وتبدو فيه نبرة التأنيب واضحة للاسلوب الذي انتهجته الصحافة المصرية في التعامل مع القضية، اذ شددت الصحيفة على أن الصحافي يجب ألا يعطي نفسه حق الحكم، ويجب الا يتورط في الهجوم أو الدفاع بما يؤثر في موقف المحكمة. وهو الرأي نفسه الذي عبرت عنه استاذة علم الاجتماع وقرينة ابراهيم الدكتورة بربارة ابراهيم التي تحدثت الى "الحياة" عن صدمتها من موقف الصحافيين المصريين من القضية تقول: "فوجئنا اسرة ابراهيم بحملة منظمة على صفحات الجرائد تستهدف الدكتور سعد الدين إبراهيم". وعلى رغم تغير نغمة حديث افراد اسرة ابراهيم - زوجته وابنته المحامية راندة وابنه المهندس امير - من تفاؤل وايمان بأن القضية سرعان ما ستكون أشبه بزوبعة في فنجان، وأن هناك لبساً في ما حدث، وأن الافراج عن ابراهيم قريب، الى نبرة لا تخلو من انتقاد لاستمرار سجنه من دون اتهام رسمي، وتعمد الصحافة المصرية الاساءة اليه واصدار احكام مسبقة عليه. إلا أن زوجة ابراهيم تعود الى النغمة المتفائلة، وتقول "علينا ان نتذرع بالصبر، وعلى رغم كل ما حدث، لدينا إيمان قوي في هذا البلد". واذا كان البعض اندهش من موقف الجامعة الاميركية في القاهرة - حيث يعمل ابراهيم بوتيرة متصلة منذ عام 1975 - التي اكتفت بإصدار عدد من البيانات المقتضبة في هذا الشأن، الا أن الدكتورة بربارة ابراهيم قالت: "نحن في غاية الامتنان من التأييد الذي حظينا به من قبل الجامعة الاميركية بمختلف مستوياتها من قسم الاجتماع والعميد ورئيس الجامعة". وكانت الجامعة أصدرت بياناً عنوانه "احتجاز الدكتور سعد الدين ابراهيم" جاء فيه انها تأسف لقرار تمديد احتجاز ابراهيم من دون اتهام، وعبرت عن ايمانها بالنظام القضائي في مصر، واملها في الافراج عنه مع استمرار التحقيقات. اقتضاب الجامعة الاميركية في مساندة ابراهيم قابله تحمس من جانب السفارة الاميركية أيضاً، وان كان الحجم الحقيقي لجهود الاخيرة في هذا الصدد يصعب تحديده. صحيح أن ابراهيم مواطن اميركي - يحمل جواز سفر أميركياً الى جانب الجواز المصري - وهو ما يعطي السفارة حق العمل على مساعدته، إلا أنه ليس مجرد مزدوج الجنسية. فهناك تلميحات بأن قضية ابراهيم سياسية في المقام الأول، بل انها أضحت حلقة في مسلسل توتر العلاقات المصرية - الاميركية، وتراشق الكلمات بين البلدين. بل ان الأمر وصل الى تضمين قضية ابراهيم في مقال الصحافي الاميركي توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" وهو المقال الذي أخرج التوتر المصري - الاميركي الى النور. كتب فريدمان "اعتقلتم سعد الدين ابراهيم، اختصاصي الديموقراطية في الجامعة الاميركية في القاهرة، والذي يحمل جواز سفر اميركياً، ويبدو أن جريمته كانت العمل على ضمان انتخابات ديموقراطية في مصر". اما محطة "سي إن إن" الاخبارية الاميركية فكانت أكثر دهاء في تغطيتها، إذ أوردت نبأ القبض علىه كالآتي: ابراهيم عاش حياة ساحرة كمدافع لبق عن الديموقراطية، الى أن عجز شخص ما في الحكومة المصرية عن "بلع" طريقته. والمؤكد أن نشاط الدكتور سعد الدين إبراهيم ليس من النوع الخفيف الهضم، وإن كان سهل البلع، وهنا تختلف التفسيرات حول معنى البلع.