كتب هيرمان هيسه 1877 - 1962 في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي عدداً كبيراً من القصص القصيرة التي تأخذ شكل الحكايات الخرافية، الغربية والشرقية، الى جانب الأعمال الأخرى التي كتبها ونشرها في تلك الفترة التي شهدت مآسي الحرب العالمية الأولى، واللهاث المحموم لسباق التسلح الذي لم ينته بالحرب العالمية الثانية، وكان التطور الصناعي المتسارع يشكل اغراء اضافياً مستمراً لمزيد من التدمير الآلي، الذي تصدى له هيسه بسلاح الكتابة الابداعية. في "الحكايات الخرافية" تعريب أسامة أسبر، دار نينوى، دمشق 2001 دعوة الى اكتشاف العالم من حولنا، في الطريق الى اكتشاف الذات المحاصرة في حدود ضيقة، في منزل، أو في قرية، أو مدينة، أو وطن ضيق، مهدد بجنون التقنية التدميرية من الخارج، أو الفساد الآلي من الداخل، كما هو حال المانيا التي كتب عنها هيسه، وكشف عن بؤس الحياة فيها في ظل الحروب الانتحارية التي اشعلتها القيادات الفاشية والنازية، وصادرت الحريات الفردية والعامة من خلال عسكرة المجتمع والسلطة. كتب ستيفان زفايج رسالة الى رومان رولان في خريف عام 1915 يقول فيها: أحببت كثيراً أحدث كتب هيسه "كنالب" حيث نجد فيه صورة المانيا كما لم يعرفها أحد، حتى نحن الألمان... كان هيسه قد بدأ حياته العملية كبائع للكتب، وهي المهنة التي منحته فرصة اضافية لاكتشاف آفاق مختلفة من الثقافات الجديدة والقديمة غرباً وشرقاً، وحينما بلغ الحادية والعشرين من عمره نشر مجموعة شعرية، وانتظر خمس سنوات أخرى لينشر روايته الأولى "بيتر كامينسند"، ثم نشر أربع روايات قبل ان يصدر روايته المثيرة "دميان" في عام 1919 باسم مستعار هو اميل سنكلير، بطل احدى حكاياته الخرافية "إذا استمرت الحرب"... في عام 1911 قام هيسه برحلة الى الهند تركت بصماتها على حياته وأعماله في شكل واضح، فدخلت التقاليد الهندية والصينية في نسيج شخصيته، وتزاوجت مع تقاليده المسيحية المنفتحة التي تلقاها في طفولته، حيث يتذكر انه تعلم قبل السنوات الأولى للدراسة كل ما هو مهم وثمين في الحياة. ومع اهمام هيسه بمتابعة نشاطاته الابداعية والصحافية، حيث كان ينشر بعض رواياته مسلسلة في الصحافة، الى جانب موضوعاته المناهضة للنزعات العسكرية والحروب، فإنه كان مولعاً بالحياة في الطبيعة الصامتة، فعاش ثلاث سنوات في بيت ريفي على ضفاف بحيرة كونستانس، قبل أن يبني بيتاً خاصاً به في ذلك المكان عام 1907، حيث كان يمارس الرسم الى جانب الكتابة. وفي ربيع عام 1919 أقام في منطقة سويسرية نائية. ويذكر هيسه ان الآخرين من حوله كانوا يسمونه "البوذي"، ولا يجد رداً مناسباً على هذه الحال سوى الضحك، ولو حاولنا ان نتبين ملامح "الوجه الشرقي" لهيرمان هيسه لوجدنا فيه مزيجاً من غاندي وعمر الخيام ولاوتسي. ينظر هيسه الى الشعر من زاوية خاصة به، فيراه في المرتبة الأعلى من مراتب الحكمة، ويذكر في سيرته الذاتية انه حينما بلغ الثالثة عشرة من عمره كان واضحاً له انه يريد ان يكون شاعراً، وليس غير ذلك، ولكنه اكتشف، شيئاً فشيئاً، تلك الحقيقة المؤلمة، وهي ان اي انسان يستطيع ان يصير معلماً أو وزيراً أو طبيباً أو موسيقياً أو رساماً... لكن لكل مهنة شروطها من التعلم والتدريب في البداية، أما الشاعر وحده فهو ليس كذلك، فمن الممكن ان يكون شاعراً بارزاً ومشهوراً، ولكن من المؤسف ان هذا لا يتحقق الا مع الموت، حيث تبدو الحياة قصيرة لتعميق التجربة. وانعكست هذه الرؤية الخاصة للشعر في اثنتين من الحكايات الخرافية، احداهما عن شاعر غربي، وهي بعنوان "لعبة الظلال" وتجري أحداثها في قلعة شبه مهجورة تطل على مستنقعات نهر الراين، والثانية عن شاعر صيني يعيش في بلدة على شاطئ النهر الأصفر، وهي بعنوان "الشاعر". في "لعبة الظلال" يعيش الشاعر فلوريبيرت في أصغر غرفة في القلعة التي غادرتها الحاشية بعد اختفاء البارونة اللعوب، فانتقل البارون الى برج في مؤخرة القلعة، وكان الشاعر قد كتب قصائد غزلية وقصصاً في صحبة البارونة الطروب، ولكن روحه البسيطة هدأت، فلم يكتب شعراً، وانما كان يتذكر الشعر حينما تهب الرياح أو تتحرك الغيوم وتهتز الأشجار، حيث يعيش قصائد لا يستطيع ان يغنيها لأنها من دون كلمات، وهو يشعر ويحلم بها أحياناً، في المساء، ويبث من حوله مشاعر الحب والجمال حينما يلتقي بأطفال القرية المجاورة ويلعب معهم، أو يلاطف النساء أو الفتيات، وينحني للسيدة الجميلة بحب صاف لا يشبه حب كل الرجال المولعين بجمالها، فهو شاعر وصل الى حال يعيش فيها الشعر ويحسه ويحلم به من دون كلمات. وفي أمسية حالمة كان الشاعر يحمل باقة ورد أبيض، كقصائده التي لم تكتب، فدوّت في الصمت المعتم رصاصة حمقاء بعثرت باقة الورد الأبيض الذي اختلط بدم الشاعر، صريع الحب والبراءة والجمال. وفي حكاية "الشاعر" الصيني، هان فوك، مغامرة بحث عن المعرفة، يقوم بها شاعر شاب، يؤجل موعد زواجه من حبيبته لكي تتاح له فرصة لتطوير تجربته والتزود بالحكمة من شيخ عجوز غريب يسكن كوخاً عند منبع النهر العظيم، في الجبال الشمالية الغربية، وهناك فقد هان فوك الإحساس بالزمن في صحبة العجوز الحكيم، "معلم الكلمة التامة"، ومرت سنون طويلة قبل ان يختفي العجوز من كوخه الذي تهزه العاصفة، وبدأت أسراب الطيور المهاجرة تحلق فوق الجبال القريبة قبل أوانها. حمل الشاعر هان فوك مزهره الذي كان يدندن به ألحاناً لشعره، ثم عاد الى بلدته بهيبة الحكماء واستقبله الناس بالحفاوة التي تليق بالرجال الكبار المتميزين، ولكنه وجد ان أهله وخطيبته وأقرباءه قد ماتوا كلهم، وسكن في منازلهم ناس آخرون، وفي مساء ذلك اليوم كان الناس يحتفلون بعيد المصابيح عند ضفة النهر، فاتكأ الشاعر على شجرة في العتمة وعزف على مزهره ألحاناً لم يسمع الناس مثلها من قبل. وإذا كان هيسه قد نشر مجموعة شعرية وكتب قصائد لم ينشرها، فإنه كان يحلم بأن يكون موسيقياً ورساماً، وانعكست أحلامه على كتاباته، وعلى الحكايات الخرافية، حيث يمضي بطل قصة "حلم الفلوت"، أو المزمار، بعيداً لكي يمتّع الناس بعزفه، كما طلب منه والده، واختلطت معزوفاته الجميلة في الدروب البعيدة بأصوات الطبيعة، وحينما التقى بفتاة في احدى الغابات، غنى لها عن الحب فأعطته قطعة من الخبز، ولكنه لا يريد الخبز، فظل يغني طويلاً حتى ابتسمت له وأغمضت عينيها وأغلقت فمه بشفتيها، ثم مضى ليكتشف العالم ويغني له، في رحلة طويلة لا رجعة منها...