لا تُنسى تلك الترجمات الرائدة التي قدمها الشاعر فؤاد رفقة من الشعر الألماني، وبالأخص تانك الترجمتين الدقيقتين، وهما مختارات من شعر ريلكة وهولدرلن، وقد صدرتا عن دار «النهار» نهاية الستينات، لتضيفا الى المكتبة العربية عملين باهرين لعملاقين من عمالقة الشعر الألماني. جديد شاعرنا بعد رحيله، هو صدور مختارات شعرية عن دار «نلسن»، من تلك الترجمات التي كان يصوغها بحرفة ناصعة وصنعة متينة من دون تكلف، ولغة أمينة، والمختارات هذه المرة تعود لروائي شهير هو الألماني هِرمن هسّه 1877 - 1963، صاحب العمل الروائي الفذ «لعبة الكريات الزجاجية» الذي توّجه ليكون من الخالدين عبر جائزة نوبل عام 1946، ثم كرّت اعماله الذائعة «دميان» ذئب البراري» «سد هارتا» وغيرها الكثير ونُقل بعضها الى العربية. غالبية الكتاب والروائيين العالميين كتبوا شعراً في مطالع حياتهم ونشروه ولقيَ صدى لدى القراء من امثال صموئيل بيكت، بورخيس، هارولد بنتر، ماركيز، كاربنتيه، همنغوا ، هوغو، وهِرمن هسّه الذي اصدر اثني عشر ديواناً شعرياً، وكتب خلال حياته 1400 قصيدة، وكان الى جانب ذلك رساماً وصحافياً، يرسم ويكتب في المجلة التي يعمل فيها، ناهيك عن معرفته الكبرى بالموسيقى التي عكسها في روايته الأهم والأبرز والأشمل «لعبة الكريات الزجاجية». وليس مستغرباً أن يحصد الجائزة التي ألمّت بدقائق وبواطن وتفاصيل في الفن الموسيقي، فهو كان يتقن العزف على بعض الآلات وقراءة النوتة الموسيقية منذ فجر حياته، تلك الحياة التي توزعت اقامتها ما بين مدينة «بازل «السويسرية، ومسقط رأسه في «كالف» المدينة الألمانية. عمل هِرمن هسّه في مكتبة ثم تاجر كتب وصحافياً ورساماً في مجلة، وعاش حياة مديدة، نوعاً ما، حفلت بالسفر والمغامرة والكتابة طبعاً، وقد سطّر ذلك في مذكرات جميلة قرأتها قبل سنوات وكانت احدى أجمل أعمال السِير الذاتية. وهأنذا اقرأ للمرة الأولى أشعاراً لهرمن هسّه الذي عرفته روائياً، أقرأ شعراً مليئاً بالنزعة التأملية، ذات الطبيعة النيتشوية، التي تترك لمعة في الذهن وتقدح زناد الفكر من أجل إعمال التأمل في هذا الصنيع الفاخر المفعم بالإمثولة والحكمة والوجود المتشظي الحافل بالمشاعر والأخيلة والرؤى، صنيع دفع به هِرمن هسّه إلى القارئ لكي يتأمل هذه الشطحات الوجودية النابعة من تجارب حياتية عميقة. تغترف قصائد هِسّه من فن الإصغاء إلى الكون، إلى حركة الريح ومسار الطائر في الهواء، إلى مراقبة النجوم في توحّدها السماوي وتلمّس معنى الكينونة وهي تسبح في هذا المجال الكوني. ثمة تحولات وحلولية مع الكائنات والطبيعة والتوحّد بجمالها المعلوم والمهجوس بقوة اللوامس الفنية والخيال الشعري لدى هِسّه الشاعر: «عائدة إلى آلاف السنين المنسية، تهرب نفسي، حيث العصفور والريح التي تهبّ /أخوين لي كانا، وبي شبيهين،/شجرةً تصير نفسي، حيواناً/نسيج الغيوم،/متحوّلة وغريبة تعود». الروائي الشهير توماس مان، كتب مرة تقريظاً لشاعرية هِرمن هسّه أوجزه قائلاً: « إنه عندليب، أبدع من لغتنا صوراً من أصفى وأرق الملامح، كما أنه يستخرج منها أغنيات وحكماً تعبّر عن أعمق ما في الذوق الفني» من هنا جذبت قصائد هِرمن هسّه طيلة مساره الإبداعي، موسيقيين ومغنين، على نحو لافت، وغير مسبوق حتى على الصعيد العالمي، بحيث غُنّيتْ ولُحّنتْ له في أواسط الستينات 270 قصيدة وقد عمل على تلحينها 305 من المؤلفين الموسيقيين، وهناك الكثير من الألمان يعرفون تينك القصيدتين اللتين لحنهما الموسيقار العظيم ريتشارد شتراوس، اضافة إلى قصيدة «النوم» التي باتت على كل لسان إلماني كما يقول الناقد المتخصص بهرمن هسّه ثيودور ذيولكوفسكي. الشعراء العظام والكتاب الكبار، هم من يولون الحس الإنساني، جلّ عملهم، إن لم يكونوا قدموا هذا الفن وطرق فنائه الذاتي إلى البشرية جمعاء. لقد خبر هرمن هسّه وجرّب وعاش حربين عالميتين، دفعتاه إلى أن يقف إلى جانب الإنسان الجريح في كل حرف كتبه وهجس به. كان الإنسان هدفه الأساسي، الإنسان الضعيف المستهدف من قوى الشر الكبرى، كان يدين بلا هوادة القتلة والخارجين عن القوانين الإنسانية، ولم تكن رواياته ومن ثم قصائده إلا أداة هادية وسط الظلام المحيط بالبشرية، أداة تساعده على المضي بالعيش الكريم من دون أن يحس الكائن البشري بضغط الجزمة العسكرية التي تدهم البيوت الآمنة وتُروّع الشيوخ والنساء والأطفال، وهي تتقدم صوب حريته الشخصية. هرمن هسه كتب لهؤلاء، وعمل متطوّعاً يسعف الجرحى، حتى قبل وقوع الحرب العالمية الأولى. فطبيعته المرهفة والإنسانية مزروعة فيه مثل جزء آخر مركّب في جسده البشري. ولعل قصائده ناهيك عن رواياته هي خير دليل على ذلك، فدعونا ننصت إلى قصيدة «بشر قساة» التي يقول فيها: «لماذا بهذه القسوة نظرتكم /تريد أن ترجمَ كل شيء /أما فيها أصغر الأحلام /هل كل شيء واقع بارد؟ أما في شعوركم شمس تضيء». أما الأغنيات الذائعة فقد ترجم منها الشاعر الرائد فؤاد رفقة أكثر من قصيدة، محاولاً إيصال الجِرْس الإيقاعي والتهويمة الموسيقية إلى العربية قدر الإمكان. وينبغي ألا ينسينّ المرء في هذا المقام، أن القصائد مضى عليها زمن طويل، وأن الشعر الألماني قد تطوّر كثيراً خلال العقود التي تلت الحربين. وهناك قصيدة «في الضباب» وهي من القصائد المغناة الشهيرة، تسعى إلى كشف العزلة الإنسانية في إحدى المراحل المتأخرة من حياة الإنسان: «مدهش هو التجوال في الضباب/ وحيدة كلَ جفنة وحجر/لا شجرة ترى شجرة /كل واحدة وحدها / مليئاً بالأصدقاء كان العالم لي / حين كانت حياتي مضيئة / والآن بعد سقوط الضباب / لم يعد أحد مرئياً /». عبر الترميز والتلميح والدلالة الموحية، استخدم هِسّه الضباب كستار غامض، يعزل الكائنات المرئية بعضهاعن بعض.