تعتبر السوق المالية التونسية من الأسواق المتقدمة في العالم العربي نظراً لاستجابتها للمعايير المعمول بها دولياً من جهة، وتوافر عناصر تحفيزية فيها أبرزها ما يتعلق بالخفض الضريبي على أرباح الشركات المدرجة من جهة أخرى. لكن، وعلى رغم هذه الحسنات والاصلاحات الهيكلية، لم تسجل تلك السوق نقلة نوعية إذ بقيت تراوح مكانها منذ عام 2001، ما انعكس ضعفاً على غالبية مؤشراتها. لذا، عمدت الدولة للتدخل عبر تكليف لجنة مهمتها تنظيم استشارة واسعة تشمل جميع المتعاملين في السوق للخروج بتصور جماعي يعيد لها حيويتها ونشاطها اللذين اتسمت بهما منذ منتصف التسعينات وحتى نهاية العقد المنصرم. شهدت السوق المالية التونسية، منذ نحو 11 عاماً، تطوراً ملحوظاً على المستويين التشريعي والبنيوي تعزز مع اصدار القانون 99/92 في آب اغسطس عام 1999، الهادف الى العمل على اعادة انطلاقتها. وأرادت السلطات المختصة من وراء هذه الخطوة، المساعدة في ادخال دينامية جديدة على سير عمل بورصة تونس والتأثير من خلال اثنين من مكوناتها الرئيسية: العرض والطلب على الأسهم. مع ذلك، وفي ما يتعلق بالشق الأول، بقي عدد الشركات المدرجة محدوداً ب45، بينما لم يتجاوز حجم الاصدارات 233 مليون دينار 186 مليون دولار، ما يشكل خمسة في المئة من مجموع الاستثمار الخاص، الذي يبقى بعيداً عن الهدف المحدد ب20 في المئة بنهاية"المخطط العاشر للتنمية 2002 2006". ولم تتجاوز قيمة الرسملة ال3 بلايين دينار تونسي بنهاية كانون الأول ديسمبر 2003، ممثلة نحو 12 في المئة من ناتج الدخل القومي. واستمر هذا الضعف النسبي حتى نهاية شباط فبراير سنة 2004ت، وتراهن السلطات المختصة على انجاز بعض عمليات التخصيص في الفترة المقبلة، ستشمل فتح رأس مال مصرفين محليين أمام الاستثمار الاجنبي. ومن شأن ذلك، حسب توقعات الخبراء الاقتصاديين، تحريك السوق المالية التونسية بسرعة. ومن العوامل الأخرى التي ساهمت وتساهم في محدودية أداء بورصة تونس للأوراق المالية، التبعية الزائدة للقطاع المالي. ويشار الى أن أكبر حالات الرسملة في السوق أكثر من 50 في المئة من الاجمالي تعود الى هذا القطاع المؤلف من المصارف وشركات التأمين والاستثمار. وعلى رغم الجهود التي بُذلت من طرف السلطات المعنية بهدف تنويع الأسهم المتداولة في السوق، بقيت قطاعات أساسية خارج اللعبة، في طليعتها: شركات الاسمنت التي تم تخصيص البعض منها منذ اكثر من سنتين، وشركات الطاقة والاتصالات والنسيج والسياحة والمعلوماتية. وفسرت اللجنة المكلفة بالاعداد للاستشارة ذلك بأنه يبدو وكأن برنامج تخصيص المؤسسات العامة لم يوجه بما فيه الكفاية لدعم السوق المالية. وكأن الحكومة فكرت في البيع أكثر من التفكير في السوق التي تحتاج الى تنشيط، والدليل على ذلك ان أهم عمليات التخصيص تمت خارج اطار السوق المالية. التحسن وتشخيص العوائق بدأت السوق المالية التونسية منذ مطلع الشهر الثالث من هذه السنة استعادة، ولو خجولة، لحيوتها. ويعلم المتعاملون في ردهتها، وشركات الوساطة المملوكة في غالبيتها للمصارف، ان الحوافز الضريبية المقدمة للشركات الراغبة في الانضمام ليست أبدية، وتنتهي مدتها في شباط فبراير سنة 2005. فالوقت أمامها قصير اذا كانت تريد الاستفادة من تلك الميزات. ويراقب الخبراء عن كثب ما تعده الحكومة من اجراءات لأداء جديد أفضل عبر تحويل أجزاء من مكونات الاقتصاد التونسي باتجاه البورصة. وسرى في الآونة الأخيرة الكثير من الشائعات، بعضها مدعوم بمعلومات شبه مؤكدة، عن قرب التحاق بعض المجموعات السياحية الكبرى في البلاد وعدد من شركات المعلوماتية القطاع الذي ينمو باضطراد في تونس بالشركات المدرجة في البورصة. ويفسر الخبراء هذا التحول المرتقب بأنه نتيجة لاقتناع المستثمرين المحليين بنية السلطات المختصة التركيز على عملية تمويل الشركات بواسطة السوق المالية وليس المصارف أو شركات التأمين وحدها. ويتعلق الأمر، بحسب هؤلاء الخبراء، بتحويل"الأموال النائمة"الى استثمارات منتجة. ويعزز هذه الفرضية تشديد الدولة على خيارها بالاستثمار في مجال الأسهم، لأن الشركات المحلية تنقصها الرساميل الخاصة. ومن المؤشرات الدالة على نية الدولة تصويب مسار السوق المالية وازالة العقبات التي تعترض استعادة فعاليتها، التشدد المتزايد حيال المجموعات المسيطرة عليها. لذا تبادر بافساح المجال أمام الآخرين وتشجيعهم على تجاوز عقدة هيمنة بعض الأطراف المالية التي قيل ويقال انها تحظى بدعم من السلطات المالية للسوق. ففي خطوة اعتبرت الأولى من نوعها، وجه مجلس السوق المالية في تونس، نهاية شباط فبراير الماضي، تحذيراً لخمس من هذه المجموعات الرئيسية الزمها بنشر بياناتها المالية لعام 2003، تنفيذاً لقانون سُن في عام 1994 في أعقاب انشاء بورصة الأوراق المالية وهو ما لم تفعله هذه الأخيرة في أي وقت من الأوقات. أما الأهم في هذه الخطوة، فهو تسمية المجلس المجموعات المعنية بالتحذير بالاسم هذه المرة، وهي"الشركة التونسية للبنك"، المصرف التجاري الأول، مجموعة"ستار"للتأمينات، شركة"الخطوط التونسية"، وجميعها من المؤسسات التابعة للقطاع العام. ورأت احدى شركات الوساطة المالية الفرنسية المهتمة بتطور السوق المالية التونسية، مع شراء أحد المصارف الفرنسية حصة في بنك محلي، ان تحذير مجلس السوق المالية في تونس انما أراد اعادة الثقة للمستثمرين بعد تراجع المؤشرات في العامين الماضيين، وبعد تردد عدد من الشركات في التوجه الى البورصة نتيجة سيطرة المجموعات المالية المذكورة عليها. وإذا كانت السلطات المالية المعنية مصرة على تكريس التحسن في السوق المالية، فيتوجب عليها ان تخفف من الانعكاسات السلبية الناجمة عن العوائق الموجودة على صعيد العرض والطلب، وكذلك في سير السوق المالية. ولا تخفي هذه السلطات قلقها من استمرار لجوء المؤسسات للقطاع المصرفي من أجل تمويل استثماراتها بدلاً من التوجه للسوق المالية كما يحصل في الدول المتطورة. وتعزو هذه السلطات السبب الى عدم اجبار المؤسسات المقترضة من المصارف على الافصاح المالي، أو الالتزام بقواعد الشفافية خلافاً لما هو جار في البورصة. وعلى رغم ما تم اتخاذه من اجراءات لمساعدة هذا القطاع على تجاوز الضغوط، بقيت نسبة القروض المصنفة في حدود 20 في المئة من جملة قروض القطاع المصرفي. ومن المعوقات الأخرى على صعيد العرض، تميز الشركات التونسية بطابعها العائلي الذي يفسر عزوفها عن اللجوء للاقتراض من السوق المالية لتمويل استثماراتها، نظراً لما تفرضه هذه الأخيرة من شروط الشفافية التي لا تخدم مصالحها، اضافة الى عقبات أخرى. وفي ميدان الطلب، يعتبر ضعف الادخار طويل الأمد الموجه الى السوق المالية، سواء من قبل صناديق مؤسسات الضمان الاجتماعي أو مؤسسات التأمين، من أهم المعوقات التي تعترض القفزة النوعية لبورصة تونس. اذ لم يدخل الاستثمار بالبورصة حتى الآن ضمن الاستراتيجية المالية لهذه الصناديق التي تملك رساميل ضخمة متراكمة. اما حسابات الادخار في الأسهم التي تم احداثها بغية تنشيط السوق، فيلزمها الوقت الكافي لتثبت جداوها من ناحية، كما انها تتطلب ترويجاً مدروساً وهادفاً من ناحية أخرى. وفي سياق الاشارة للعقبات التي تعترض نمو السوق المالية، لم تتوان اللجنة المكلفة بوضع الاستشارة المطلوبة عن تحميل السوق نفسها جانباً من المشاكل. واستنتجت اللجنة ان الافصاح المالي وضعف الردع الفعلي للمخالفات الى جانب غياب ثقافة مالية كافية من بين المشكل المتعلقة بسير السوق. وهو ما تحاول السلطات المختصة ومجلس البورصة العمل على تفاديه منذ فترة عبر حض الشركات المدرجة على الاهتمام الجدي بتطور أسعار أسهمها، والافصاح التلقائي المستمر عن كل المستجدات التي تتعلق بنشاطها ومتابعة مطابقة التقديرات مع النتائج المحققة، اضافة الى الالتزام بالآجال القانونية لنشر قوائمها المالية. وعلى رغم المعوقات السلبية المذكورة، تبقى بورصة تونس من البورصات الواعدة في منطقة شمال افريقيا نظراً لتوافر الشروط اللازمة للتطور مثل: خفض الرسوم على أرباح الشركات، التوقعات بزيادة الارباح مع تخصيص عدد من الشركات، كذلك عودة اهتمام المستثمرين الاجانب بتلك السوق. وتعزو الأوساط المالية التحسن المتوقع لقرارين اتخذتهما السلطات المعنية عام 2003، الأول على صعيد أرباح الشركات والثاني يتعلق بالطلب على الأسهم، لكونهما بدآ يعطيان ثمارهما مع الربع الثاني من سنة 2004. * اقتصادي لبناني.