يتفاوت أداء البورصات المغربية الثلاث الدار البيضاءوتونسوالجزائر العاملة حتى الآن في منطقة شمال افريقيا وفقاً لطبيعة السوق المالية نفسها وانفتاحها على المستثمرين الأجانب واستقطابها للمدخرين المحليين وحجم تعاملاتها وقدرات الشركات المسجلة فيها وعددها. وعلى رغم الآمال التي علقها بعض الخبراء الاقليميين وحتى بعض المحللين في شركات الوساطة المالية الأوروبية على هذه البورصات لتأسيس بيئة استثمارية جذابة وواعدة، تجعل منها خلال وقت قصير نسبياً، أسواقاً مالية ناشئة تستفيد من اخطاء وأزمات الأسواق الأخرى، إلا أنها بقيت ضمن حدود معينة لم تتمكن من اختراقها عندما حانت الظروف المواتية. ويعزو الخبراء أسباب هذا الاحجام الاختراقي لمعطيات ذاتية وموضوعية في آن معاً. ففي الوقت الذي يحمل هؤلاء شرع القيمين على بورصة الدار البيضاء الذين وصفتهم الصحافة المغربية باسم "الغولدن بوي" بفتح ردهاتها على مصراعيها أمام المضاربين المعروفين مثل جورج سوروس وغيره، وتسهيل مهامه في جمع أسهم أفضل الشركات في محفظته المالية وبيعها لاحقاً محققاً أرباحاً هائلة والخروج نهائياً من السوق المالية المغربية، يرى هؤلاء الخبراء بأن بورصة تونس بقيت على نهجها المحافظ ولم تنفتح امام المستثمر الأجنبي من جهة، بينما لم تقم ادارتها بالجهد المطلوب لتغيير عادات المدخرين المحليين ودفعهم للتوجه الى السوق المالية بدل البقاء أسرى المصارف التجارية وشروطها القاسية. أما فيما يتعلق ببورصة الجزائر، الحديثة العهد بالمقارنة مع جارتيها، فإنها لم تتمكن حتى اليوم من الاقلاع. ولم تتمكن ادارتها على رغم محاولات تحسيس الأوساط المالية في البلاد وحملات الدعاية التي ترافقت مع مشاريع التخصيص المطروحة من تنشيط مبادلاتها ولا زيادة الشركات المسجلة فيها والتي لم تتجاوز حتى اليوم الأربع. ما هي حقيقة أوضاع هذه البورصات في المرحلة الحالية؟ وهل ستتمكن ادارات هذه الأسواق المالية المغاربية من تصحيح أدائها عبر الاستفادة من الأخطاء التي ارتكبتها في السابق، وتتمكن بالتالي من كسر الحواجز التي منعتها من الانضمام الى دائرة الأسواق الناشئة في العالم؟ اسئلة تحاول ادارة هذه البورصات بالاشتراك مع شركات الوساطة العاملة فيها ومع خبراء وزارات المال في الدول الثلاث المعنية الاجابة عنها من خلال التشاور المستمر والندوات الهادفة، والنقاشات العلنية عبر وسائل الاعلام، المرئية منها على وجه الخصوص، بانتظار الاعلان عن القرارات والقوانين الجديدة والسياسات المعتمدة في هذا الشأن، ستبقى بورصات هذه المنطقة عرضة لتذبذبات وتردد حذر ومراوحة تمنعها من إحداث الانطلاقة المنشودة. سوق الدار البيضاء المتخبطة شهدت بورصة العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية انخفاضاً منتظماً منذ نحو ثمانية عشر شهراً دفع المستثمرين الى هجرتها. ولا يتعلق الأمر هنا بتصحيح فني لأدواتها ولا لمسارها بل بوصفية سيئة للغاية تسيطر على مقدراتها. ولم تنجح المحاولات التي قام بها بعض المحللين لانقاذ ما يمكن انقاذه، لكن سرعان ما تحولت مداخلاتهم الى نوع من الدوران في فراغ. على أية حال، يمكن القول بأن من أسباب الانخفاض المسجل في الفترة المذكورة كان نتيجة حتمية لإرهاصات ومبالغات ومضاربات فاقت حدود المنطق. ووصل الأمر ببعض القيمين على بورصة الدار البيضاء للاقتناع بأن سوقهم المالية أصبحت تنيناً توازي قوته المالية تنينات الأسواق الآسيوية التي ما لبثت الأيام أن أظهرتها على حقيقتها. وفي عام 1993، هبت أسعار الأسهم بصورة اصطناعية في البورصة المغربية على رغم كون حركتها لم تكن تعكس أي فعالية انتضاجية على مستوى السوق. كذلك، لم يأت كبار المستثمرين إلا بعد التأكد من حدوث الطفرة، مفضلين التعامل بأسهم الشركات العقارية. ومن ثمة، بدأت التجاوزات مع قيام وزارة التخصيص بحجز "كوتا" للأفراد؟ مما شجع هؤلاء على الاستثمار وفق فكرة ثابتة ألا وهي تحقيق ربح كبير ومضمون. فكان بنتيجة هذا التوجه أسفرت جميع المؤسسات التي تم تحويلها للقطاع الخاص أرباحاً للجميع. ولعبت هذه العملية دوراً في شد الأسعار الى الارتفاع على المدروس في حين لم تقم الشركات الكبرى المدرجة في البورصة - ما عدا "البنك التجاري المغربي" و"مجموعة الأمان للتأمين" - بواجباتها في كبح جماح هذه اللعبة وفرض التصحيح المطلوب في حينه. اليوم، أصبح حجم المردود ضعيفاً للغاية بالنسبة لجميع الأسهم المعروضة، كذلك بالنسبة أيضاً لمعدلات نمو الشركات المعنية، وتجدر الاشارة في هذا السياق الى نقص السيولة في السوق مقابل زيادة في حجمها لدى المتعاملين، مما زاد في حدة الأزمة. من جهة أخرى، لم يؤد ارتفاع عدد الشركات المسجلة الى تحسين ملموس في وضعية هذه السيولة الا بشكل ظرفي وليس بنيوي، كما أنها لم تعزز بأي شكل من الأشكال الثقة التي فقدت مع الأيام على الساحة المالية. ومن الأسباب الأخرى التي أضعفت أداء بورصة الدار البيضاء، الأخطاء التي ارتكبتها شركات الوساطة المالية التي التزمت مراراً بشراء أعداد كبيرة من الأسهم من المستثمرين الأجانب وبيعها سلفاً بالمفرق. فالخطورة في الأمر هنا هو كون قيمة هذه الصفقات كانت تتجاوز ببعيد رساميل هذه الشركات. ارتكابات أغمضت هيئات الرقابة أعينها عنها طوال فترة طويلة. وفي الخامس من أيار مايو الجاري، تابع مؤشر بورصة الدار البيضاء خطه الانحداري بالوتيرة نفسها مسجلاً تراجعاً بنحو 13.6 - نقاط، مما حدا بوزير المال، فتح الله ولعلو، الى التدخل المباشر من خلال التصريح الذي جاء فيه "ان هذا التدهور مبالغ فيه وهو غير مبرر، إذا ما تم النظر الى الأسس الاقتصادية والمالية الصلبة للشركات المسجلة في البورصة. بمعنى آخر، أراد الوزير المختص الاشارة الى وجود عوامل خفية تساهم في افتعال التخبط الحاصل، المؤدي للتراجع في أداء السوق. على أية حال، فإن المستثمر الصغير الذي خسر حتى الآن الجزء الأكبر من مدخراته، لم يعد يهمه البتة سماع ترداد هذه النظريات الاقتصادية للمرة المئة طوال عام 1999 وخلال الشهور الأربعة الأولى من السنة 2000. في المقابل، سارع أرباب المهنة، وتحديداً شركات الوساطة وتلك التي تدير المحافظ المالية الذين لم يعد بامكانهم ضبط اعصابهم، الى دق أبواب وزارة الوصاية، أي المال، بهدف الضغط على مسؤوليها للتحرك سريعاً وانقاذ ما يمكن انقاذه قبل فوات الاوان. فمن بين هذه المقترحات، تأتي بالدرجة الأولى مسألة تسريع تطبيق مشاريع اصلاح السوق المالية الذي تم اصدار بعض القوانين الخاصة بها والتي لم تأخذ طريقها الى حيز التنفيذ، وكذلك اخراج البعض الآخر منها من اطار عمليات التحميل الانشائية التي يتولى بعض خبراء الوزارة صياغتها والتي تمنع بالتالي صدورها منذ فترة. وإذا كانت الاجتماعات التي عقدت بين الوزير ولعلو والمعنيين بشؤون بورصة الدار البيضاء لم تفصح عن نوايا الحكومة، كما لم تفضي للاعلان عن اجراءات محددة ملزمة، إلا أنها عملت في المقابل على طمأنة جميع المتضررين لناحية اصرار الدولة على التدخل لوقف التراجع بأي ثمن. فكان بنتيجة ذلك ان ارتفع المؤشر العام تدريجاً في الاسبوعين الماضيين بنسبة 3 في المئة. ويعلق أحد كبار المصرفيين المغاربة على هذا التحول بالقول: بالرغم من تفاؤلنا حيال هذا التطور الايجابي إلا أنه لم يأت في سياق انطلاقة مالية فرضتها لعبة السوق وانما نتيجة مبادرات وزير المال التي شجعت الشركات والمستثمرين على تلقف الرسالة السياسية الموجهة اليها. وتشهد بورصة الدار البيضاء حالياً حركة مكثفة بحيث وصل حجم التعاملات الأربعاء العاشر من أيار الماضي الى ما قيمته 105 ملايين درهم الدولار = عشرة دراهم تقريباً. يبقى السؤال: هل يمكن اعتبار هذا الارتفاع الجديد بمثابة تصحيح لمسار السوق ام مجرد رد فعل آنية على تحرك وزارة المال. الجواب لا بد وأن يأتي عبر ارتفاع أسعار الأسهم وثباتها. ... وسوق تونس المحافظة خلافاً للبورصة المغربية، لم تفتح بورصة تونس ردهاتها على مصراعيها أمام المستثمرين الأجانب على رغم الاغراءات التي قدمتها شركات الوساطة المالية الأوروبية. ولقد فضلت السلطات المختصة التروي وعدم الانجرار وراء سراب الأرباح الكبيرة وضخامة حجم التعاملات التي يمكن أن تجنيها البورصة من وراء عمليات تأخذ غالبيتها شكل المغامرة والمضاربة. وذهبت هذه السلطات أبعد من ذلك عبر اصدار تعاميم داخلية الى إدارة السوق المالية والشركات المتعاملة فيها، تشدد من خلالها على ضرورة عدم التسرع بالبت في طلبات المستثمرين الأجانب والتوجه نحو استقطاب ادخارات المستثمرين المحليين وجذب نشاطاتهم نحو السوق. فكان بنتيجة اعتماد هذه السياسات المحافظة والحذرة على السواء أن تجنبت البورصة التونسية الهزات ولم تتأثر عملياً بكل الأزمات التي ضربت الأسواق المالية العالمية في الأعوام الثلاثة الماضية. وإذا لم تكن الأرباح التي تحققت هائلة كما كان يريد بعض الوسطاء إلا أنها بقيت في حدود المعقول، محافظة على وتيرة منتظمة وهادئة في ارتفاعها وذلك بعيداً عن أية مخاطر. في هذا السياق، تشير التقارير الصادرة عن بورصة باريس بأن السوق المالية التونسية واكبت حسن أداء الاقتصاد الوطني بشكل عام. فالنتائج الايجابية - ولو المتواضعة - التي سجلتها معظم أسهم الشركات المطروحة في البورصة، جاءت لتؤكد هذا التشخيص. فمن خلال المقارنة التالية، يتبين بأن حجم التعاملات انتقل من 236 مليون دينار تونسي الدولار = 1.23 دينار بنهاية العام 1998 الى 554 بنهاية العام 1999، أي بزيادة مقدارها 134 في المئة. كما تضاعف المؤشر العام "تونس اندكس"، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 276 نقطة للفترة نفسها. ولقد أدى هذا التطور الايجابي الى جذب العديد من المستثمرين المحليين ولعب بالتالي دخول ست شركات جديدة على اللائحة دوراً في تعزيز الثقة بنشاط السوق. مع ذلك، لم يشهد المؤشر القفزة المتوقعة له في الفصل الأول من العام الجاري، بل بقي يراوح مكانه. ولقد حدت هذه الوضعية المستمرة منذ بداية العام 2000 بأسهم بعض الشركات الفاعلة التي وصلت الى مستويات عالية الى التراجع محدثة انعكاساً سلبياً على الشركات الأخرى. ويرى بعض الخبراء المحليين بأن اقتصاد البلاد مرتبط بجانب منه بوصفية البورصة ونموها. لذا، فإن تجديد انطلاقة هذه الأخيرة مرهون الى حد بدخول شركات جديدة للردهة تعطي دفعاً وحيوية جديدة. في هذا الاطار، يعطي بعض المحللين الماليين تصوراً مفاده ان 25 في المئة من أصل 200 شركة كبرى في البلاد موجودة في البورصة في حين أن الباقي يتردد بدخلوها. لذا، يتجب على السلطات المختصة تشجيعها على خوض غمار هذه التجربة عبر الفوائد الضريبية والقيام بحملة دعائية لتحسيس المدخر المحلي للتوجه الى السوق المالية بدل البقاء على عائداته السابقة بالتعامل مع المصارف التجارية. دخول الادخار العام الميدان يعزز الثقة بالسوق المالية ويوسع اطار تعاملاتها، كذلك يعطي قواها خيارات أكبر في مجال استثماراتهم. بمعنى آخر، فإن تجزئة المخاطر هي عنصر عقلاني ومطمئن في البورصات الناشئة. بورصة الجزائر: صعوبة في الإقلاع تعاني بورصة الجزائر الأحداث في منطقة المغرب العربي من معوقات بنيوية تمنع انطلاقاتها. وتخيم الأجواء التشاؤمية على المتعاملين والمستثمرين في حين لم يتجاوز عدد الشركات المسجلة الأربعة منذ انشائها. ويتعلق الأمر بشركات "ارياد صطيف العقارية" وشركة "صيدل" للصناعات الدوائية وشركة "أوراسي" للفنادق و"سوناطراك" للهيدركربورات. من ناحية أخرى، لا تزال حركة الرساميل ضعيفة، ونتيجة لعدم وضع سياسة اعلامية تحفيزية، تعطي بورصة الجزائر صورة مشابهة لإحدى الادارات المحلية. ولم تتمكن ادارة هذه السوق المالية بالرغم من محاولاتها المتكررة حث الشركات المسجلة على خلق خلايا تقوم بدور الترويج تجاه المستثمرين. من ناحية أخرى، تسعى هذه الادارة بالتعاون مع بعض الشركات الكبرى والوزارات والمجموعات المالية والمصارف تسريع وتيرة انضمام عدد من المؤسسات للبورصة. ويدور الرهان حول أربع شركات هامة وهي: "الشركة الوطنية للغاز الصناعي" و"الشركة الوطنية للدهان"، و"شركة القطن الهيدروفيلي" و"فندق الجزائر". وكانت ادارة البورصة قد توقعت أن يصل عدد الشركات المسجلة في الأشهر الست الأولى على انطلاقة عمل هذه السوق الى نحو عشرين شركة تشمل قطاعات متنوعة بدءاً من البتروكيماوية، وصناعة الاسمنت والصناعات الغذائية - الزراعية والسياحية وصناعة الأدوية. فبعد مرور عامين على ذلك، لم تنضم للائحة سوى أربع شركات، وتتردد السلطات في اتخاذ المبادرات بهذا الشأن بتجميد عمل البورصة ولجم انطلاقتها والحد من توسعها. في ظل هذه المعطيات التي يتفاوت فيها أداء البورصات المغاربية وفي ظل إحجام المستثمرين والمتعاملين عن مواكبة التطورات المطلوبة وضخ الرساميل اللازمة، وفي غياب سياسات ترويجية مدروسة وحديثة لن تجد الأسواق المالية في منطقة المغرب العربي طريقها لدخول نادي الأسواق الناشئة في وقت قريب بالرغم من كتابات الباحثين والاقتصاديين المحليين في هذا الموضوع. * اقتصادي لبناني.