ألوان الربيع الكثيرة تملأ شوارع باريس منذ بضعة أيام، بهت لون الأبنية الذي سيطر على العاصمة الفرنسية مدة فصل الشتاء. مشهد باريس مورّدة فاجأني، انني لطالما ظننت أن مرور المواسم في المدن لا يغيّر إلا الطقس، وأن تغيّر شكل المكان وألوانه مع تغيّر الفصول، شيء خاص بالقرى والغابات والجبال. لطالما ظننت أن المدن هي مساحات تخلو من الخضرة والنبات والطبيعة وأن الحياة وألوان الربيع لا تمرّ بالحجر والباطون. خلال مكوثي في بيروت، كان تغيّر الفصول يعني تغيّر درجات الحرارة والرطوبة فقط. والخروج من بيروت الى الجبال المحيطة والقرى كان ضرورياً لمن يود رؤية اشكال الفصول وألوانها المختلفة. بيروت لا تتغير ألوانها مع المواسم، بل يخفّ وهج لونها الوحيد أو يقوى. ولكن باريس دليل على أن المدن تُقاس الحضارة فيها من خلال كمية الخضرة فيها، وأن إبادة الطبيعة والنبات ليست شرطاً لبناء المدن وازدهارها. الربيع يلوّن باريس كأنه ماكياج على وجه قضى فصل الشتاء بلون بشرة ذابلة أو بلون الحجر الكامد. ألوان تكسر من حدّة العمار والحجر الجامد الذي لا يتأثّر بمرور الفصول، ولا حتى السنين. باريس حيث بعض الحدائق أشبه بالغابات واحات واسعة في قلب المدينة، نضيع فيها أو لا نعود نرى سطوح الأبنية خلف أعالي الأشجار. كأننا نضيع عن المدينة فيها، في حديقتها، في جنتها. الشوارع أيضاً فيها أشجار وألوان ربيعية. وأنواع من النبات تجعلنا ننتقل خلال نزهاتنا من شارع أشجاره حمر الى شارع أشجاره صفر ثم الى شارع أبيض. الربيع ظهر فجأة بألوانه الكثيرة، كما تغير الطقس بين يوم وآخر، وقبل موعده الرسمي ببضعة أيام. لكل شجرة لونها وثمارها وشخصيتها التي تعود الى جذوعها التي صمدت، عارية، منذ فقدت أوراقها في فصل الخريف الماضي، كأنها أمل الربيع في فصل الشتاء البارد، أو ذكراه. باريس في أجمل أيامها وحللها إذاً، بعد شتاء بارد اشتكى الفرنسيون من قسوته، وقبل الصيف الذي يقترب بخطى ربيعية، والذي يخيف الفرنسيين كلهم، وينتظرونه بترقّب ويأخذ احتياطات ضرورية في حال كان الصيف المقبل كما الماضي، حينما أدّت موجة الحرّ، النادرة في فرنسا، الى مقتل آلاف المسنين والعجائز. تجربة لا تزال حية في ذاكرة الفرنسيين الذين يعتبرونها أسوأ كارثة طبيعية حصلت في فرنسا منذ سنين كثيرة. ولكن كما يصعب التحسّر على برد الشتاء الماضي أو الشعور به أمام مشاهد الربيع الرائعة، يصعب قليلاً التفكير بالصيف المقبل أيضاً. الفرنسيون بدأوا يأخذون وقتاً اضافياً خلال تنقلهم في شوارع باريس التي اعتادوا في فصل الشتاء، على قطعها مسرعين وعيونهم شاخصة الى الأرض. باريس تغريهم الآن بحلة الربيع وتجعلهم ينظرون الى الأعلى، الى السماء الزرقاء والى الأشجار والى جمال المدينة الذي لا نراه إلاّ حين ننظر الى الأعلى. الفرنسيون والفرنسيات، بخاصة الشباب منهم يحتفلون بعودة الشمس الخجولة، بالاستفادة منها. نراهم مستلقين بثياب البحر التي يرتدونها تحت ثيابهم، على الحشيش الأخضر في الحدائق العامة، يتشمّسون في أوقات فراغهم، وبعضهم يجلس في ظلّ الأشجار، فالاختباء من الشمس طريقة أخرى للاستمتاع بها. باريس في الربيع مختلفة جديدة وملوّنة. وأنا تعلّمت أن بعض المدن يتغيّر شكلها مع المواسم كما الحقول والجبال. وبتّ أعرف أن في فصل الخريف المقبل، ستقع أوراق الأشجار، صفراء، مهترئة وجافة، فتملأ شوارع باريس، مشهد لطالما ظننته خاصاً بكتب الشعر أو قصص الأطفال.