صدرت عن دار "غاليمار" في باريس رواية "ورقة من زجاج" للروائي المغربي الذي كتب باللغة الفرنسية، كبير مصطفى عمّي من مواليد1953 في بلدة "تازة" الواقعة قرب مدينة "فاس". وهي الجزء الأخير لثلاثية تحكي معاناة الأطفال المشردين في المغرب، وتستحضر أحلامهم في طور ارتسامها الوردي، كما في طور انهيارها الحالك المُفجع. فالجزء الأول الذي نشرته دار "غاليمار" بالتعاون مع دار "فرونتيير" سنة 1999، وعنوانه "اقتسام العالم" يُسمعنا الأصداء الأكثر عمقاً لخيال بطل الرواية "براهيم". وكان يمكن هذه الأصداء ان تعلو مدوية لولا اسلوب الكاتب في بعثها بهدوء جاعلاً المسار العام للأحداث يشي بما يشبه السيرة الذاتية التي يفرغها "براهيم" في رسالة موجهة الى شخص يهدف منها ان يُعلِمه بوجوده على قيد الحياة. ويبسط أمامه ما زخر به عمره البالغ عشر سنوات، أي منذ التقطه الناس من محطة القطار حيث تركته أمه لكي لا تراه يموت جوعاً، وأودعوه في مركز للأيتام في مراكش. وفي التاسعة من عمره - وكان في ذلك الحين يدعى "ابن القطار" - يتعاطى السرقة، ويعمل حمّالاً، ثم دليلاً سياحياً بعد أن علّمه الحاج "تامي" تاريخ مراكش. وفي آخر المطاف تشح السياحة، ويتطلع براهيم الى الرحيل غرباً. ها هنا يتبين ان الشخص الذي وجهت اليه الرسالة هو رئيس الجمهورية الفرنسية الذي يعتذر عن تلبية رغبته في اختيار فرنسا موطناً. إلا أن الحلم بأوروبا حيث يتدلى الذهب على أغصان الأشجار كما يروي الحكواتيون يقوده الى طنجة وعبور مضيق جبل طارق مختبئاً في عنبر سفينة بين البضائع والصناديق. وما ان يصل الى فرنسا حتى يدرك انه واحد من فقراء العالم الذي تقاسمته الدول الكبرى بعد الحرب، وانه كما انبثق من قاع مراكش سيبقى في قيعان باريس متوارياً مع أمثاله ممن خذلتهم أحلامهم عن عيون البوليس المتربصة بهم لتحشرهم في قاعة الترحيل الى بلادهم. ومع الانتهاء من قراءة الرواية، يكتشف القارئ ان الرسالة لم تكتب، ولم ترسل، بل بقيت تدور في فلك أفكار هذا الطفل المغربي الحالم أحلام فقراء العالم بشيء من العدالة على الأرض، عدالة تنجيهم من العراء وأكل الحشرات، وبقايا القمامات. وفي الجزء الثاني "بنت الريح" الصادر عن "منشورات الفجر" في باريس سنة 2002، تبحث القصة عن شكلها المكتوب الذي سينسجه "تامي" من سيرة الصبية "هانيا" كما حكتها له، على حين تتولى "هانيا" بنفسها سرد أحداثها سرداً شفهياً بادئة من النهاية. فهي بنت أحمد بن عبدالله تفتح عينيهاعلى الحياة في بيت للدعارة تقوم عليه "الغول" المدعوة "الحاجة فتنة" التي لا ترى في الفتيات الصغيرات أكثر من بضاعة ينبغي استثمارها الى أقصى الحدود، وجني ثمارها من جيوب الأثرياء الأميركيين والعرب الذين يرتادون مكناس. ولما استشعرت هانيا هول ما يجري من فظائع في الظلمة القابعة وراء البريق الخادع، ورأت بأمّ عينيها كيف تُباع الأعضاء البشرية وتُشترى من طريق الطبيب اللامرئي "سي محمد"، وكيف يُتجَر بأجساد النساء، وتُبنى - من وراء ذلك - القصور، وتُقتنى أعاجيب "ألف ليلة وليلة"، قتلها القوادون. وكانت، إثر موتها، في طريقها الى الجحيم لولا ان ملاكاً أوسع لها مكاناً آمناً الى حين، إذ تمكنت أن ترى دُنيانا وتُطل علينا بحكايتها العامرة بالعذاب والقسوة قائلة: "أنا ميتة وأتحدث اليكم، أجل، ميتة وأتحدث اليكم... كنت أحلم بإيقاف الزمن، وسد طريقه حتى يعود من حيث أتى... لكني اليوم لم أعد أخشى الموت، بل أحدق في عينيه، ولا يُمكن أن أتوسله...". أما الجزء الثالث الذي نحن بصدد عرضه فيعود ثانية الى فتى تائه يتوجه بحديثه الى القارئ من الصفحة الأولى قائلاً: "صعدت في قطار الليل، القطار المباشر الذي يجتاز المغرب، انزلقت تحت مقعد ورحت أنتظر الوصول الى أقصى سهل الخراب، سهل قرصيف، وأراضي الغرب، ووادي لوقوص. هكذا وصلت الى طنجة، المدينة البيضاء التي لا شيء أبيض فيها، مدينة ضروب البراءة كلها". المدينة ووجهها الابيض يظهر من هذا القطع العرضاني، الذي يكتنفه ظلام الليل، أن الفتى لم ير - بين شرق المغرب وغربه - أي معالم، لأن الكاتب لا يحتفل بالتنوع المكاني احتفاله بالتوغل مع بطله في الطبقات التحتية لمدينة لا يعرف منها الناس الا وجهها الأبيض. فالبطل المنقطع الجذور، الجاهل تاريخ ميلاده، غير المبصر أي بارقة للمستقبل، يشعر انه حر كالنسيم. وما كانت حريته في الحقيقة غير تيهه في المتعرجات العاتمة. وعلى رغم محاولته التشبث بانتماء ما حين عمل مدلكاً للعجوز الاسبانية "هيرتادو"، لم يزدد إلا ضياعاً، إذ اتهم بقتل العجوز للاستيلاء على ثروتها، وصار لقمة سائغة للشرطة وملاحقاتهم الكابوسية التي أجبرته على الاعتراف بجريمة لم يقترفها. وعندما أعيته الحيلة في متابعة السفر، أدرك ان "طنجة" هي قدره الذي لا مفر منه، فهام على وجهه متنقلاً بين حانة "سليمان"، والكاتب الشعبي "طبجة"، وعصابة "الحاج محمد" التي تسيطر على أزقة "طنجة"، ويعيش رئيسها الحاج امبراطوراً و"زير بُنيّات" لا يني يعقد قرانه عليهن، الواحدة تلو الأخرى مقيماً الأفراح على وقع الطبول والزمور ثلاثة أيام، وثلاث ليال. وقد عرض الحاج عليه واحداً من عملين: إما أن ينضم الى قطاعي أقدام الذين لا يدفعون الضريبة للعصابة في آخر كل شهر، وإما أن ينقل العشب المُخدّر من مدينة "شاون" المجاورة، ويضعه في الميناء حيث يتولى موظفون متخصصون تعبئته، وإرساله الى بلاد الشمال أوروبا. ولكنه، بفضل صديقه ونديمه "الدكتور" يعمل بائعاً للسجائر، فيطمئن الى أنه يكسب ما يسد رمقه. لكن خبراء تجارة الدخان في الأحياء الشعبية يضيقون الخُناق على الدكتور ويجبرونه على إغلاق محله. وهكذا تجتذبه دوامة التيه كرة ثالثة، فيطوف في الأزقة باحثاً عن "زينب" ذات الجمال الغامض، فيجدها غارقة في حمأة المخدرات بعد أن استهلكها القوادون، ولطخوا نقاءها الريفي القادم من أعالي جبال الأطلس. فتح الفتى ذراعيه للحياة، فأحب "خديجة" التي علمته ما يكون الحب، ودغدغت مشاعره فكتب لها ما اعتقد انه شعر. غير ان الحياة أعرضت عنه، وما ظفر منها الا بالحرمان والجوع، حتى شف جسمه وصارت تُرى، عبره، عظامه الطرية البيضاء. ومن هنا أتى اسمه: "ورقة من زجاج". ولئن حظي بطل القصة باسم، فمن أين تأتي مكملات حكاية القصة ذاتها؟ لم تكن مصادفة أن يلتقي الفتى الصغير صحافياً يطلب منه أن يبيعه سيرة حياته. لأن السر الذي أوجب ضرورة كتابة حياته، سيمنحه وجوداً مغايراً لوجوده المعبّر عنه في هذا المقطع: "سألني شرطي...: أين أوراقك؟ - أي أوراق؟ لم أمتلك في حياتي أوراقاً. - ما اسمك؟ وما عمرك؟ - من يستطيع أن يقول له ما اسمي، ومن القادر على معرفة عمري بالضبط؟ - من أين أنت؟ - كنت أريد أن أجيبه: ألا ترى انني حجر، لا أعرف من أنا، ولا من أين أتيتُ. اسأل الريح التي قد تعرف من أين أنا. اقبضوا عليها، واحبوسها - كعادتكم - في سرداب تحت الأرض، واستجوبوها حتى تكشف السر، وتقول لكم لماذا لا أملك مظهر الحجارة. "لذا كان قبوله ببيع حياته يوماً عظيماً ناجى فيه النجوم والأمواج والريح والحجارة والليل، ليقول للطبيعة ما لم يبُح به لذاك الذي اشترى حياته. وكأنه استبصر ان المخبوء في الطوية لا بد من أن يحفر مجراه ليلتحق بالقصة القمينة وحدها بالاجابة عن أسئلته الحائرة: "أحسب انني لم يكن لي أب ولا أم أبداً، وانني ولدت من العدم، وأتيت من العدم... من حفرة هائلة حيث توجد كائنات لا وجود حقيقياً لها، ولا أجساد... أحسب انني ابن العدم، وهذا قد يضحكه، أو يُبكيه: من تراني أكون؟ هذه ليست قضيتي". وهذا طبيعي ما دامت الحياة الواقعية قد دخلت في الحكاية، واستحالت الى نص متواتر الايقاعات التي اختار الكاتب الجملة الفرنسية القصيرة لتجسيدها، فبلغ من الشعرية درجة عالية لا يقلل من شأنها تنوع مستويات اللغة الأدبية المستخدمة في الوصف، ولغة الحواري، والحانات، وما شابهها من أوساط القاع الاجتماعي، موضوع "ثلاثية" كبير مصطفى عمّي. * اكاديمي سوري مقيم في فرنسا.