نشر نيروز مالك أولى قصصه، عام 1969، وأصدر تسع مجموعات قصصية طبعت في دور نشر عدة، وقد اتجه الى كتابة الرواية من مطلع التسعينات، وأول رواية تطبع له هي "زهور كافكا" الصادرة حديثاً عن مركز الانماء الحضاري في حلب... عندما قرأت الرواية وجدت تشابهاً كبيراً بين أحداثها وأحداث رواية "سلالم الشرق" لأمين معلوف، لكنني دفعت هذا الوهم، فلا يمكن كاتباً أن يضحّي بسمعته الأدبية ليغرف من ماء الآخرين، وقد يكون هذا من باب توارد الخواطر ليس رلا، أو من باب وقع الحافر على الحافر، فأعدت قراءة العملين، وبدأت تدوين الملاحظات، فوجدت بعض التطابق بين العملين في ما يخص الشخصية الرئيسية في كلا العملين، أو في الخطوط العامة دون التفاصيل. "عصيان" بطل رواية سلالم الشرق يذهب الى فرنسا للدراسة، وهناك لا يكمل تعليمه، بل ينخرط في المقاومة، ويتعرّف على فتاة يتزوجها في ما بعد، ثم يعود الى الوطن فيضعه أخوه الأكبر في مستشفى الأمراض العقلية، ليكون وصياً عليه، وتنتهي الرواية بخروجه ولقاء زوجته. كذلك يذهب "جمال الحلبي" بطل زهور كافكا الى باريس للدراسة، وهناك يتعرّف على مجموعة من المنفيين السياسيين، وعندما يرفض العودة الى البلد يخطفه أخوه الأكبر، ويعود به ليضعه في مستشفى للأمراض العقلية، ليكون وصياً عليه، وتنتهي حياته بالانتحار... ... هذا ملخص متواضع لرواية "سلالم الشرق" التي تذخر بالأحداث والحروب والكوارث، مما سيشكل تاريخ المنطقة ونزاعاتها، وتمتد على أكثر من نصف قرن. وانعكس ذلك على أبناء المنطقة في تصرفاتهم وسلوكهم وطرائق معاشهم وأضف الى ذلك الفنيّة العالية المركبة التي سيّرت أحداث الرواية. وبفنيّة عالية أيضاً سنجد كثيراً من الأحداث متلاحقة بين العملين، وذلك بعد تفكيك أو إعادة ترتيب الحوادث. تبدأ رواية "سلالم الشرق" بهذه الكلمات "هذه القصة لا تخصّني، فهي تروي حياة إنسان آخر بكلماته الخاصة، التي قمت بترتيبها فقط". بهذه اللعبة الفنيّة يقصّ الراوي ما حدّثه به عصيان، عن تاريخ العائلة والأحداث التي مرّت عليها. أما في "زهور كافكا" التي تبدأ من حيث تنتهي "سلالم الشرق"، فإن المريض المفترض أنه مريض نفسياً جمال الحلبي، يعطي أحد أطبائه الراوي مظروفاً ليقرأه، وهو عبارة عن قصة حياته، يقول: "تناولت المظروف وأنا أعِدُه، أن أعيده له فور انتهائي من قراءة ما يحوي من أوراق". ويتابع: "وإلى هنا تنتهي يوميات مريض جمال الحلبي" الأصح: المريض. هذه اللعبة الفنية استخدمتها الرواية كثيراً في السنوات الأخيرة، ولكن أمين معلوف قدّم لها باستهلال منطقي مقنع، لخّص جملة ما تريد أن تقوله روايته، منذ الصفحة الأولى، عن المرأة التي أحبّ وعن لقاءاتهما وجنونهما ومعتقداتهما وخيباتهما، وعن أسرته الغريبة والنوسان المستمر، من الجنون الى الحكمة، ومن الحكمة الى الجنون. وهذا تماماً ما سيقوم به جمال الحلبي في عمل نيروز مالك، مع اختلاف كبير بين الأصل والصورة. ... يتعرف راوي "سلالم الشرق" على بطل الرواية من خلال صورة موجودة في أحد كتب التاريخ المدرسية، وهي صورة لجمهرة من الناس تصطف على رصيف الميناء، وفي العمق باخرة تملأ الأفق، تاركة قطعة من السماء، وتحتها تعليق يقول: بأن عدداً من رجال البلد القديم ذهبوا خلال الحرب العالمية الثانية، لكي يقاتلوا في أوروبا، ضمن صفوف المقاومة، وبأنهم استقبلوا لدى عودتهم كأبطال. وسط ذلك الحشد ظهر رأس شاب مندهش ذو شعر فاتح اللون، تقاسيم وجهه ناعمة وطفولية بعض الشيء، وها هو الآن أمامي في باريس. هكذا تعرّف الراوي إليه، ومن هنا تبدأ الحكاية. في تقنية الحكاية سنجد كاتباً آخر، هو نهاد سيريس، وقد استخدم الأسلوب ذاته في روايته "حالة شغف"، الصادرة عن دار عطية. عندما يقول الراوي: "بل كل ما هنالك أنني سمعت ما سأرويه واضطررت لكتابته وسأشرح لكم آنفاً كل حيثيات الموضوع... سادتي. وسيريس سيمضي أبعد من ذلك ليفتح روايته هو الآخر بمشهد الصورة وخلفيتها، لتكون مدخلاً الى عمله الروائي، فقد عقد فصلاً معنوناً بما يلي: "كيف ظهرت وداد البريئة في صورة مع المفوّض السامي". "كانت جموع الناس تتموّج ذهاباً وإياباً، بينما استمرّت الفرقة الموسيقية عزفها للمارشات العسكرية، حتى ضاق رصيف المحطة بهم. وكان على الدرك إبقاء الناس بعيداً عن العربة التي سينزل منها الوفد، كي يتسنّى للمفوّض السامي الاقتراب ومصافحة الوطنيين العائدين من باريس، فوقفوا وفق أن تظهر عربة القطار من الخلفية. وفي اللحظة التي برق فيها اللامع، ظهرت وداد حاملة حقيبتها على سلّم العربة، فظهرت بالتالي في الصورة التذكارية التي وزّعت على جميع الصحف المحلية وصحف العاصمة". جمال الحلبي أيضاً يوصف بأنه رقيق، حسّاس، إلى كونه عصبي المزاج، من أسرة غنية، لها نفوذ وسطوة، ولا أبالغ إن قلت لك كما تروي الممرضة "إن أسرته تستطيع أن تحرّك البلد بمن فيها بإصبع واحد من أصابعها". ويتكرّر مثل هذا الكلام كثيراً من دون أن يغيّر في مجرى الأحداث، أو يحدث تأثيراً فعالاً، بتجاوز القول الى الفعل، اللهم خطف الابن من باريس، بينما يحدّد عصيان وضع أسرته بجملة واحدة: "إنه يتحدّر من عائلة حكمت الشرق طويلاً". وبعد أن يصل الى فرنسا يقول: "لقد أتيت الى فرنسا أثناء الحرب لكي أتابع دراستي وعرفت آنذاك رجالاً من المقاومة". أما جمال الحلبي، فقد قال أبوه: "اذهب إليها باريس ادرس في إحدى جامعاتها، أريد أن يحصل على شهادة عالية". وفي باريس يلتقي بمجموعة من المنفيين السياسيين، يعملون برعب ضد السلطة في بلدهم لا بل إنه يختار لهم أسماء حركية تذكرنا بالنضال العمالي في الخمسينات، من مثل أبو أحمد، أبو زهير، محمود، عصام. وينضم إليهم هو الآخر، بشكل سلبي، وكمنفي جديد، ضحية أبّ متسلط، قادر على كل شيء حتى على تحطيم ابنه، إن استدعى الأمر... وخلال ذلك يدور حوار، يذكرنا بأيام الواقعية الستالينية، والصراع الطبقي. في فرنسا يستأجر عصيان غرفة ويمرّ على ساحة شارل ديغول، التي كانت تدعى ساحة النجمة، ويقرّر أن يتعرّف على امرأة، أجمل امرأة على الإطلاق. أما جمال الحلبي، فيصل الى باريس ويستأجر غرفة، ثم يتسكع في ساحات المدينة "قبل أن أعود الى البيت، قضيت ليلتي في مقهى النجمة الآفلة، في الساحة الخامسة. ومنذ اليوم الأوّل فكرت بجدية في البحث عن فتاة". "وسأعتبر يوم وصولي الى باريس هو يوم ميلادي ولكن الحلم أعادني مرة ثانية إلى حياتي الماضية". أما عصيان فيقول "في فرنسا كنت أستطيع أخيراً تحقيق أحلامي الخاصة". ... يتعرّف عصيان على كلارا شريكته في أعمال المقاومة، ويكون بينهما حب عميق، سينتهي بالزواج مستقبلاً، بينما يتعرّف جمال الحلبي على ميشلين ويقضي معها أوقاتاً ممتعة، متناسياً حبيبته... ن/ الممرضة التي نفي بسبب حبه وإخلاصه لها... ولا تترك هذه العلاقة السياحية أثراً في مسار الأحداث. وهذا يعود الى عدم معرفة الكاتب بالحياة الاجتماعية الفرنسية، وانعكس ذلك على علاقة جمال الحلبي بباريس، إذ يذكر بعض الأماكن العامة، من دون أن يغوص في خصوصيتها، إنها أمكنة عامة، عبارة عن مقاه وشوارع، تصلح لأن تكون في أي مدينة. إذا استثنينا التسميات... إنه يقف أمام النهر في باريس، يتساءل بسذاجة: "سألت نفسي: هل هو السين يا ترى؟"... تبدو صورة باريس باهتة، لا حيوية فيها، حتى انها تفتقد الجانب السياحي المتميّز الذي تتمتع به، ولا أدري ما هي الحكمة من اختيار هذه المدينة لتكون مسرحاً لبعض الحوادث في الرواية، حيث يلتقي بطل الرواية بمجموعة المنفيين المراقبين بسلطة الوالد ويتسكع في بعض أحيائها أو يتناول القهوة والنبيذ في حاناتها، وفيها يقحم كافكا في العمل من دون أن يكون له دور فاعل حتى في ردود الأفعال التي تنتج عن المونولوغ الداخلي بينهما. ويموت والد عصيان، وتمرّ به بعض الأحداث العاصفة، فيصاب بالحمى وعندما تنخفض حرارته، يصبح مختلاً معتوهاً غير متوازن "يمكن القول بأنني كنت أتصرّف بطريقة غريبة". ويحاول أن يكتب رسائل الى زوجته، لكنه يعجز عن ذلك "هكذا قرّرت التراجع عن فكرة كتابة الرسالة، بانتظار أن أتعافى كي أستطيع الكتابة، كان الوقت ليلاً، وعدت الى النوم بهدوء، وبعد دقائق عدّة، قفزت من السرير وأضأت النور، ثم أخذت ورقاً وقلماً وبدأت الكتابة وتكرار القراءة والتصحيح والشطب والتسطير وإعادة الكتابة". أما جمال الحلبي، ففي السنة التي توفي والده، آلت الأمور الى أخيه الأكبر، وها هو يحاول أن يخط رسالة إلى... ن "طوال مساء أمس، لم أستطع أن أخط رسالة إلى... ن لقد مزّقت أكثر من عشرين ورقة بيضاء، بعد كتابة سطر أو سطرين عليها، كنت لا أستطيع التعبير عمّا أحسّه في اليومين الآخرين، ظللت ساعات الليل كلّه أكتب وأمزّق وأدعك الأوراق، وما إن أكتب السطر الأول والثاني حتى أشعر بأني لا أقدر على التعبير. تتواتر الأحداث بعد موت والد عصيان ووالد جمال الحلبي، ويصبح الأخ الأكبر كليهما القوّة المادية المسيطرة التي تفرض هيمنتها ونفوذها وبطشها بقوة المال. في "سلالم الشرق" يصبح سالم، الأخ الأكبر، أحد رجال الأعمال في البلد "جنى سالم الملايين، وكان دائم السفر، صنع اسماً وسمعة حسنة". وعندما أراد عصيان الذهاب الى حيفا، لأنه كان قلقاً على زوجته، يطلب منه أخوه الانتظار، ريثما تأتي سيارة تنقله الى هناك "ثم فجأة فتح الباب وانقضّ علي أربعة رجال بلباسهم الأبيض، أمسكوا بي، ثم أوثقوني، فكوا حزامي، وخزة في الردف، ثم فقدت وعيي". "هكذا وجدت نفسي، في التاسعة والعشرين من عمري، في مصحّ... من مستوى راق خاص بالمجانين الأغنياء. عندما استيقظت رأيت جدراناً نظيفة وباباً معدنياً أبيض اللون وفتحة زجاجية". ولا يختلف وضع بطل نيروز مالك كثيراً عن هذا الوضع، عندما يروي ما أصابه: "اختطفت من باريس بعد أن رفضت العودة الى البلد، بناء على رغبة أهلي وضعوني في طائرة خاصة وجلبوني الى هنا العناصر الأربعة الذين أشرفوا على التحقيق معي، قبل وصول شقيقي الكبير وتسلّمي منهم الى القصر مع خدمين هكذا أشرفا على قيادتي وجعلي هادئاً رصيناً، أنا أعتقد بأن المعاملة التي أعامل بها في المستشفى، لا يعامل بها إلا أبناء ملوك، وسادة عظام... انظر حتى الأصحاء لا يحلمون بالعيش في المكان الذي أعيش فيه، قد لا تصدّقون أن الجدران كانت من المرمر والكراسي المذهبة مزينة بالحرائر والديباج، أما الأرضية فكانت تلمع بأضواء خافتة". هذا نموذج مثالي لتوارد الخواطر، بين كاتبين لم يلتقيا إلا عبر مهنة الكتابة. وكانت نهاية حكاية نيروز مالك بانتحار جمال الحلبي، وتحوّل المبنى الذي كان فيه الى كومة من حجارة وتراب وأسياخ حديد، كأن زلزالاً قد ضربه من الداخل، فانهار بعضه فوق بعض. أما أمين معلوف، فقد أنقذ مجنونه بتبرير مقنع على خلفية الحرب الأهلية، وحوّل الدمار والموت الى أخيه. "وجد أحد رجال الأعمال ويدعى سالم كتابدار، والذي كان وزيراً في الخمسينات ميتاً تحت أنقاض منزله المبني فوق رابية متنازع عليها قرب بيروت". حظيت رواية "زهور كافكا" بترجمة سيئة، وتجلّى ذلك في تخلخل بنيان الجملة تركيباً ونحواً، كما في قوله "لأنه لم يتعرّفوا بعد على هوية المريض أو: أريد الإمساك لها...". ويضاف الى ذلك الخيال الفقير والحلول العجائبية، الموغلة في سذاجتها... يمكن الحديث كثيراً عن "زهور كافكا"، ولكنني أكتفي هنا بتوارد الخواطر التي جعلتني أتتبع الكاتبين في قراءة متأنية لأثبت أن الحافر يقع على الحافر، حتى أنه يكاد أن يأخذ مكانه، وخصوصاً إذا عرفنا أن كلا العملين استخدم أسلوب المذكرات داخل العمل. إن "سلالم الشرق" تعنون فصولها هكذا: صباح الخميس، مساء الخميس، إلى الجمعة والسبت والليلة الأخيرة ونهار الأحد. بينما تحتل المذكرات اليومية في "زهور كافكا" نصف العمل وتكون اليوميات على الشكل التالي: 5/7 صباحاً، 7/12 عصراً، باريس الخ... ولا أدري ماذا أسمّي ذلك ؟!! هل هو توارد خواطر، أو أكثر من ذلك. * "سلالم الشرق" - ترجمة منيرة مصطفى - الطبعة الثانية 1998 دمشق - الناشر ورد للطباعة والنشر والتوزيع. * "زهور كافكا" - نيروز مالك - الناشر: مركز الإنماء الحضاري حلب - الطبعة الأولى 2000. * "حالة شغف" - نهاد سيريس - الناشر: دار عطية - الطبعة الأولى 1998