يدرس العلماء ظاهرة"الثقب الأسود"في اعماق الفضاء. واستنتجوا منذ زمن أن ليس بمقدور الضوء أو المادة الفكاك من قوة الجاذبية فيه، تلك الدوامة الهائلة التي تسحب كل ما يقترب منه الى الداخل، حيث تنهار كل القوانين العلمية المعروفة. وهناك من يرى أن الثقب الأسود بمثابة بوابة تقود الى بُعد كوني آخر مواز لكوننا. لكن ربما لسنا بحاجة الى الذهاب الى اعماق الفضاء لندرس الثقب الأسود، فهناك ما يشبهه تماماً في عالم الأعمال: النفق الذي يربط فرنساوبريطانيا تحت بحر المانش! واذا كنا لا نكاد نعرف شيئاً عما في داخل الثقب الأسود الفضائي، فنعرف أن الثقب الأسود تحت المانش يبلغ 50 كلم طولاً، مثلما تعلمنا ان كل قوانين ادارة الأعمال تنهار في داخله مثلما تنهار كل القوانين العلمية في نظيره الفضائي. واذ يهدد الثقب الفضائي بشفط كل ما يجاوره، فقد بينت التطورات الأخيرة في شركة نفق المانش يورو تانل ان نظيره الأرضي يهدد بسحب كل الشركات الأوروبية التي في مداره الى فوضاه الداخلية. وتتلخص هذه الفوضى بروح المبادرة القوية غير المعهودة من أصحاب الأسهم، الذين قرروا أخيراً طرد مجلس الادارة، ما سيفتح عهداً جديداً يضطر فيه أعضاء أي مجلس مقبل الى مراعاة ما يريده المساهمون بكل ما أمكن من الدقة. الفاعلية العملية للنفق، في ربطه بريطانيا ببقية أوروبا، ليست موضع نقاش. فقد جعل البريطانيين، للمرة الأولى في تاريخهم، على ارتباط أرضي مباشر وسريع مع أوروبا، بكل ما يعنيه ذلك اقتصادياً وثقافياً. وفي الأرقام ما يكفي لايضاح ذلك، ومن بينها أن مجموع السيارات التي استعملت النفق من بريطانيا الى فرنسا وبلجيكا عام 2003 زاد على 2.7 مليون سيارة، اضافة الى 1.3 مليون شاحنة و72 ألف حافلة ركاب. أما خط قطار"يوروستار"، الذي ينطلق من محطة واترلو في لندن، فقد نقل خلال السنة نفسها ما يزيد على ستة ملايين مسافر. لكن هذا النجاح العملي لم يجلب للشركة المالكة الربح الاقتصادي المنشود. وأصبح النفق ثقباً أسود ابتلع أموال الألوف من صغار المساهمين. وكان ما شجع هؤلاء على المشاركة التخفيضات الخاصة لهم عند استعمال النفق، أو حتى عبوره مجاناً. واذ لم يتوقع كثيرون أن الأسهم ستحقق مردوداً كبيراً فلا بد انهم توقعوا أن تحقق ربحاً معقولاً وقتاً ما، لكن ذلك لم يحصل. ولا يحتمل مستقبلاً أن يتحسن الوضع بما يكفي لكي يستطيع المستثمرون بيع أسهمهم وتحقيق أي نسبة من الربح. وهكذا ابتلع النفق أموال المساهمين وكذلك المبالغ الطائلة التي حصلت عليها الشركة من البنوك. وعندما وقعت رئيسة وزراء بريطانيا مرغريت ثاتشر ورئيس فرنسا فرانسوا ميتران الاتفاق على انشاء النفق عام 1986 كان من بين نصوصه عدم مساهمة الحكومتين في التمويل. ويعرف عن فرنسا استعمال المال العام للقيام بمشاريع بنى تحتية جريئة، الا ان التمويل العام قضية سياسية كبيرة في بريطانيا وعارضته ثاتشر دوماً لأسباب سياسية. ومن هنا جاء تمويل النفق من القطاع الخاص، أي المساهمين والقروض المصرفية الشركة الآن مدينة للبنوك بأكثر من 11 بليون استرليني/ 19.5بليون دولار. وتبين بعد اكمال النفق ان تقديرات المردود كانت مبالغة، واضطرت الشركة في مرحلة مبكرة الى اعادة جدولة الديون، فيما تجاوز مجمل الكلفة ضعف التقديرات الأصلية. ووجدت الشركة تعقيدات كبيرة في اعادة تنظيم البنية المالية للمشروع، ففي واحدة من المراحل بلغ عدد البنوك ذات العلاقة أكثر من 200 بنك، وقام البعض من هذه ببيع ديونه الى مقرضين آخرين تطلعوا الى تحقيق ربح سريع وليس الاستثمار على مدى طويل. وجرت محاولات لاقناع الحكومتين الفرنسية والبريطانية بالمساهمة لكنها فشلت، اذ ان حكومة كل من البلدين من دون شك لا تريد اغلاق هذا الجزء المهم من شبكة المواصلات، لكنها في الوقت نفسه تدرك انها اذا ساهمت في أي شكل من الأشكال ستواجه من شركات الطيران والنقل البحري تهمة الاخلال بمبدأ حرية التنافس. المشكلة بالنسبة إلى الشركة هي عدم كفاية المدخول لتغطية الفوائد المترتبة على القروض. وليس من السهل زيادة أسعار استعمال النفق لأن هناك عقداً يحدد السعر. وحتى لو نجحت الشركة في زيادة السعر فان ذلك سيضعف قدرتها التنافسية أمام خطوط الطيران والملاحة التي تعرض أسعاراً مخفضة للرحلات. وجه الشبه الآخر بين نفق المانش والثقب الأسود في اعماق الكون هو غموض ما يجري داخله، فمثلما يحاول العلماء استنتاج ما يدور داخل ثقب أسود وتأثيراته الممكنة في ما حوله، تنظر دوائر الاعمال العالمية بتوجس الى أوضاع نفق المانش وكيف سيستمر في العمل مستقبلاً. وسبب توجس دوائر الاعمال والاهتمام من الاعلام كان الأحداث الاستثنائية التي شهدها الاجتماع السنوي العام للشركة في فرنسا أخيراً. وتم في الاجتماع العاصف الذي استمر أكثر من تسع ساعات طرد مجلس الادارة بأسره واستبداله بمجلس جديد ورئيس جديد. واذا لم يكن هناك ما يثير الاستغراب في اقصاء مدير أو حتى مدراء عدة، فإن طرد مجلس بأسره أمر نادر تماماً، وجاء ليكلل حملة واسعة بين المساهمين الفرنسيين الذين يشكلون 60 في المئة من المجموع مقابل خمسة في المئة فقط من بريطانيا وشارك هؤلاء بكثافة في الاجتماع، اذ رفضوا اقتراح المجلس تعيين فريق محاسبة قانوني جديد للشركة. قد يقول البعض أن ذلك يبرهن على أن الديموقراطية بخير في الشركات الفرنسية، لكن التحرك لم يكن عفوياً بل كان وراءه نيكولاس ميغوي، الصحافي الذي يطمح الى دخول عالم السياسة. واستطاع ميغوي الحصول على دعم الوف المساهمين الذين خاب أملهم باداء أسهم الشركة. والوضع الآن أن على مجلس الادارة الجديد لشركة نفق المانش تعيين فريق محاسبة بأسرع ما يمكن، لأن قوانين فرنسا تعتبر افتقار أي شركة الى محاسبين قانونيين جريمة تستوجب العقاب. ويخشى الكثيرون من المدراء من انتقال عدوى التدخل الجماعي من المساهمين ضد مجالس الادارة الى شركات أخرى، ويؤكدون أن هذا النوع من الديموقراطية قد يضر بالجميع في النهاية. والواقع أن خلفيات القضية تثير الكثير من التساؤلات، من بينها أن السلطات الفرنسية تدرس حالياً عمليات بيع وشراء أسهم الشركة السنة الماضية. فعلى رغم ضعف حسابات الشركة وعدم تقديم أي مردود على الأسهم، بينت الاحصاءات أن عدد المساهمين ارتفع العام الماضي من 700 ألف الى مليون، فيما ارتفع سعر الأسهم بين أيار مايو وأيلول سبتمبر من دون سبب واضح. وذكرت صحيفة"لو موند"أن قاضياً فرنسياً يحقق في مزاعم بتلاعب ميغوي بأسعار الأسهم، وهو ما نفاه ميغوي بقوة الى صحيفة"فاينانشال تايمز"البريطانية. من الصعب ان نرى كيف ستتمكن الادارة الجديدة من النهوض بالشركة، فديونها الى البنوك هائلة، ولدى مخالفة الشركة لاتفاقاتها مع البنوك - وهذه المخالفة أصبحت الآن أمراً شبه محتم - ستستولي البنوك على الشركة، ما يؤدي الى خسارة صغارة المستثمرين لأسهمهم عندما تحوّل البنوك ديونها الى أسهم. بعد الاجتماع العاصف أخيراً احتفل الوف المساهمين بانتصارهم على مجلس الادارة. لكن ربما كان اعضاء المجلس المطرود أجدر بالاحتفال. فالطرد نفسه أمر مزعج، لكنه كان يعني هربهم من الثقب الأسود، وحلول مجلس الادارة الجديد محلهم فيه. التوقعات من هذا الأخير كثيرة والمهمة شبه مستحيلة، وسيحرص الاعلام على تسليط الضوء على كل تحركاته. والارجح ان لجوء المجلس الى تقنيات ادارية راديكالية أو غير مألوفة سيعجل من استيلاء البنوك عليه وتعيين مجلس ادارة جديد خاضع لها. انشاء النفق انجاز رائع بكل المقاييس. لكن الاعتقاد بامكان تمويله وادامته من القطاع الخاص لم يكن واقعياً، لأن الاستثمار الخاص يتطلب مردوداً معقولاً على المدى القريب. هكذا فالوضع ان البنوك قد تجد نفسها في الثقب الأسود نفسه، من دون أمل بالخلاص الا اذا تمكنت يوماً ما من اجتذاب مستثمرين جدد عن طريق وسائل مالية تعتمد على المداخيل الجارية وليس رؤوس المال الثابتة. محام بريطاني