المملكة تدعم الإجراءات التي اتخذتها لبنان لمواجهة العبث بأمن مواطنيها    وزير الدفاع يبحث مع نظيره الأمريكي جهود إرساء دعائم الأمن والسلم الدوليين    محافظ جدة يُدشّن الحملة الوطنيّة المحدودة للتطعيم ضد شلل الأطفال    الأهلي والنصر يواجهان بيرسبوليس والغرافة    وزير الاقتصاد: توقع نمو القطاع غير النفطي 4.8 في 2025    النفط ينهي سلسلة خسائر «ثلاثة أسابيع» رغم استمرار مخاوف الهبوط    بحث التعاون الاستراتيجي الدفاعي السعودي - الأميركي    المملكة العربية السعودية تُظهر مستويات عالية من تبني تطبيقات الحاويات والذكاء الاصطناعي التوليدي    يانمار تعزز التزامها نحو المملكة العربية السعودية بافتتاح مكتبها في الرياض    "السراج" يحقق رقماً قياسياً جديداً .. أسرع سبّاح سعودي في سباق 50 متراً    «سلمان للإغاثة» يدشن مبادرة «إطعام - 4»    أمير الشرقية يرعى لقاء «أصدقاء المرضى»    الشيخ السليمان ل«الرياض»: بعض المعبرين أفسد حياة الناس ودمر البيوت    عاصمة القرار    الحجامة.. صحة وعلاج ووقاية    محمد بن ناصر يدشّن حملة التطعيم ضدّ شلل الأطفال    يوم «سرطان الأطفال».. التثقيف بطرق العلاج    منتدى الاستثمار الرياضي يسلّم شارة SIF لشركة المحركات السعودية    الأهلي تعب وأتعبنا    ترامب وبوتين.. بين قمتي «ريكيافيك» و«السعودية»!    الترمبية وتغير الطريقة التي ترى فيها السياسة الدولية نفسها    الحاضنات داعمة للأمهات    غرامة لعدم المخالفة !    "أبواب الشرقية" إرث ثقافي يوقظ تاريخ الحرف اليدوية    مسلسل «في لحظة» يطلق العنان لبوستره    عبادي الجوهر شغف على وجهة البحر الأحمر    ريم طيبة.. «آينشتاين» سعودية !    الملامح الست لاستراتيجيات "ترمب" الإعلامية    بيان المملكة.. الصوت المسموع والرأي المقدر..!    الرياض.. وازنة القرار العالمي    القادسية قادم بقوة    يايسله: جاهزون للغرافة    وزير الموارد البشرية يُكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز في دورتها ال 12    أمين الرياض يحضر حفل سفارة كندا بمناسبة اليوم الوطني لبلادها    إنهاء حرب أوكرانيا: مقاربة مقلقة لهدف نبيل    وزير الاقتصاد يلتقي عددًا من المسؤولين لمناقشة مجالات التعاون المشترك    جازان تقرأ معرض الكتاب يحتفي بالمعرفة والإبداع    بينالي الأيقونة الثقافية لمطار الملك عبد العزيز    جولة توعوية لتعزيز الوعي بمرض الربو والانسداد الرئوي المزمن    جامعة نجران تتقدم في أذكى KSU    شرطة الرياض تضبط 14 وافداً لمخالفتهم نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    على خطى ترمب.. أوروبا تتجه لفرض قيود على استيراد الغذاء    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لدولة الكويت    بموافقة الملك.. «الشؤون الإسلامية» تنفذ برنامج «هدية خادم الحرمين لتوزيع التمور» في 102 دولة    آل الشيخ: نعتزُّ بموقف السعودية الثابت والمشرف من القضية الفلسطينية    أمير نجران يكرّم مدير فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة سابقاً    جمعية الذوق العام تنظم مبادرة "ضبط اسلوبك" ضمن برنامج التسوق    تحت 6 درجات مئوية.. انطلاق اختبارات الفصل الدراسي الثاني    "كبدك" تقدم الرعاية لأكثر من 50 مستفيدًا    خبراء يستعرضون تقنيات قطاع الترفيه في الرياض    استمع إلى شرح موجز عن عملهما.. وزير الداخلية يزور» الحماية المدنية» و» العمليات الأمنية» الإيطالية    جدد رفضه المطلق للتهجير.. الرئيس الفلسطيني أمام القمة الإفريقية: تحقيق الأمن الدولي يتطلب دعم مؤتمر السلام برئاسة السعودية    انتقلت إلى رحمة الله في المنامة وصلي عليها بالمسجد الحرام.. مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي آل زيدان وآل علي رضا في فقيدتهم «صباح»    عدم تعمد الإضرار بطبيعة المنطقة والحياة البرية.. ضوابط جديدة للتنزه في منطقة الصمان    «منتدى الإعلام» حدث سنوي يرسم خارطة إعلام المستقبل    تآلف الفكر ووحدة المجتمع    فجوة الحافلات    عبدالعزيز بن سعود يزور وكالة الحماية المدنية الإيطالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مناقشات الإصلاحات التي يتكاثر مقترحوها ... سندها تعليل ضعيف للفقر والثروة . بناء السوق الرأسمالية الليبرالية .. يلابس المساواة والتبادل والعلانية على حد واحد 2
نشر في الحياة يوم 21 - 04 - 2004

في 1950 كان 80 في المئة من سكان الهند أميين، على حين كانت الولايات المتحدة تعد 80 في المئة من غير الأميين قبل قرن تام، وفرنسا 60 في المئة. وهي ذيل للمركب. ولكنها رفعت النسبة الى 83 في المئة، في 1900، وأثر التعليم في إنتاجية العمل الصناعية، يومذاك، ضعيف. فالسبب في حبو الرأسمالية وتعثرها ليس رأس المال الآلات ولا العمل. وعليه قد يكون السبب العلاقة بين الجهتين او الطرفين. ففي اوائل القرن التاسع عشر كان مدار المنازعات الاجتماعية البريطانية على إلزام العامل تشغيل ستة انوال معاً، على حين كان العامل الهندي يشغل نولاً واحداً، ويمتنع من تشغيل اثنين. واندلعت اضرابات 1928 في الهند رداً على امتناع اصحاب العمل من زيادة الأجور، وعلى إلزامهم العمال بتشغيل عدد اكثر من الآلات. ويخلص مؤرخ الاقتصاد من هذا الى ان الأجور العالية وجه ملازم من وجوه النماء الرأسمالي، وعامل من عوامل تعاظم الإنتاجية الرأسمالية وتطورها التقني، وتجديدها اساليبها وطرائقها. ولكنها تفتقد الشرعية الاجتماعية والمعنوية في المجتمعات التابعة.
وتطور الأجور المقارن مصدق على الفرق: فكان الأجر اليومي لل"فاعل" البريطاني في 1780 يساوي نظير ثمن 6 الى 7 كلغ من القمح، وكان يتقاضى زميله الهندي، يومها، نظير 5 الى 6 كلغ. ولكن اجر العامل البريطاني، في 1910، قفز الى نظير 33 كلغ، بينما خسر اجر العامل الهندي جزءاً زهيداً من تيمته او بقي على ما كان عليه قبل قرن وثلاثين عاماً. فليست "سلبية" العامل الهندي السبب في الركود الرأسمالي الوطني، بل امتناع الرأسمالي من اعتبار حافز العامل على العمل، وحسبانه العامل آلة صمّاء او كمّاً هملاً. وسن هنري فورد، احد مجددي الرأسمالية الأميركية في مطلع القرن العشرين، إشراك العامل في العمل من طريق الأجور العالية، وتنسيق تقسيم العمل في الفريق الواحد وبين الفرق، سن ذلك قانوناً عاماً.
"الماركة"
ويدعو العامل الى العمل المنتج - على ستة انوال مثلاً - الذي ينجم عنه فائض، امور مثل الصحة البدنية والتربية والتعليم والضمان الاجتماعي وهو سنّه بسمارك، الألماني، المتسلط، استمالة لعمال ألمانيا الى منافسة اقرانهم البريطانيين. فإذا لم يتسع صدر نظام الإنتاج لمثل هذه البواعث، واحتمى بتعرفات عالية او ارتمى من غير تبصر في دوامة المنافسة، تراخت مفاصله ومقوماته، واستهلك، بعد بعض الوقت، وفرة العمل العضلي والبسيط، وبددها على غرار الاتحاد السوفياتي، وانتهى كسيحاً مثله. وتقيم على هذه الحال المجتمعات التي يقتصر اسهامها على الحلقة الوسيطة من الإنتاج، اي حلقة إنجاز العمل نفسه، من غير حلقته الأولى، التصميم، والثالثة، التسويق والتقديم بين يدي المستهلك. فهاتان الحلقتان هما مصدر الشطر الأكبرمن العائد. ففي احتساب شطور تكلفة السلعة الواحدة، يتقاضى العامل الذي ينجز السلعة، وتخرج من يديه معدة للاستعمال، نحو 4 في المئة من سعرها المتداول. ويبلغ ثمن المواد الأولية التي تدخل في السلعة، الى ثمن الآلات والمخازن وفوائد القروض المصرفية، وتكلفة الشجن والتصدير، نحو 17 في المئة من السعر نفسه. وال21 في المئة هذه تترك 79 في المئة غامضة المصير... ولما كانت حملات الدعاية التي تجندها الشركات الكبيرة وجهاً بارزاً من التسويق، لم تقل تكلفة الحملات هذه للسلعة الواحدة عن زهاء 6 في المئة من ثمن المبيع. وتتقاضى المنشأة نفسها حصتها لقاء الأعمال الإدارية، والممثلين والنفقات الرأسمالية والاستثمارية والتخزين وعوائد اصحاب الأسهم 10 في المئة، متوسطاً محتسباً على حد ادنى.
ويؤدي هذا الى بيع المنشأة سلعتها، بسعر الجملة، بثمن يبلغ 50 في المئة من سعر المفرق في المحل. وتتقاضى الفرق، وهو نصف الثمن المسدد الى صندوق او حاسوب البائع، حلقات او اطراف شبكة التوزيع والتسويق: من العاملين في هذه الحلقات الى ايجار محال البيع، وعائد رأس المال المستثمر، وتكلفة التخزين، وعائد اصحاب الأسهم. وعلى هذا فالتكلفة الاجتماعية للسلعة تساوي تكلفتها المادية، على المعنى الضيق. وشطر راجح من التكلفة الاجتماعية يسدد من طريق حملات الترويج والدعاية وتجهيز المحال التي تتولى البيع واختيار البائعين والبائعات، هو ثمن الوجه غير المادي، المعنوي او "الأدبي" على معنى الملكية الأدبية، من السلعة. وهذا الوجه هو متعلقات وسم السلعة او "الماركة" التي تنتهي الى حمل السلعة، وتعريفها، وتقريبها من المستهلكين.
اليابان... مثالاً
وجلي ان اهل البلدان "النامية" الذين يضع التنقيل الصناعي انجاز شطر متعاظم من السلع بين ايديهم، لا يضطلعون بالأجزاء او الحلقات المجزية من اخراج السلعة الى السوق والتدال. فلا التصور ولا الرسم الأولي، ولا الاختبارات، ولا القروض، ولا الترويج، ولا المخازن، ولا النقل، ولا محال البيع او معظمها، يتولاها اهل البلدان "النامية". ويفاقم الخلل تشطير الاقتصاد الجديد، سعر السلعة تشطيراً غير مسبوق، ولا مثال له في الاقتصاد التقليدي. فالسلعة الأولى، او الوحدة الأولى التي "تتضمن" الرسم والاختبارات والوجه "الأدبي"، ويدور عليها الترويج والتعريف، تستغرق القسم الأعظم من ثمن السلعة، وليس انتاجها المادي والنمطي المكرر. وهذا الإنتاج هو الذي يوكل الى بعض البلدان النامية، ولا يسع معظمها إلا الاقتصار عليه وعلى عائده القليل.
وتسمية هذه الحال "استغلالاً" افتئات على معنى الكلمة. فما تشكو منه البلدان التي تحبو على طريق النمو هو استبعادها من الاستغلال، وضعف احتياج البلدان الرأسمالية إليها، وإلى عملها إلا احتياجاً هامشياً وثانوياً. ولا يقوم الاحتياج هذا بأود البلدان النامية، ولا يدخلها فعلاً الدائرة الرأسمالية. فالمسلمون، وفيهم الأندونيسيون والباكستانيون والمصريون والإيرانيون من البلدان الكثيرة السكان، يعدون خُمس سكان العالم و6 في المئة من ثروته. ولا يعزى هذا الى معتقدات الناس، ولا إلى نزولهم موضعاً من الأرض. فكثرة منهم قريبة من اليابان، البلد الآسيوي الذي لم يقتصر على اللحاق بالغرب بل تخطى معظم بلدانه، ولم يستنفد طاقاته على رغم عقد ونصف العقد من أزمة اقتصادية واجتماعية مستعصية.
واضطلع المثال الياباني بدور راجح في نشأة البلدان الناشئة وأسواقها. ومعظمها يقع في دائرته الجغرافية. وطوال نيف وقرنين كان اليابان منكفئاً على نفسه. فلم تجز السلطات اليابانية "الشوغونية" من 1636 الى 1854، الا لسفينة غربية واحدة في السنة التردد الى مرافئ البلد. وفي 1854 أرغم القومندان بيري، الأميركي، قائد بارجة حربية، اليابان على فتح موانئه وأبوابه للتجار الأجانب، اميركيين وأوروبيين. فكان ان زادت الأسعار ستة اضعاف في ستة اعوام، من 1859 الى 1865، ما لم يعدم أثراً مزلزلاً على السلطة السياسية. فانتقلت هذه من المدبر "الإقطاعي" الى الامبراطور في 1868. وابتدأ هذا "ثورته" بإصلاح زراعي أقر الفلاحين العاملين في اراضي الأعيان المحاربين على تملك الأراضي التي كانوا يزرعونها. وحظر القانون بيع الأرض والإتجار بها، في الأعوام الخمسة التالية، خشية استيلاء الأقوياء والأقرباء على ممتلكات الضعفاء الجديدة. وأحل إصلاح ضريبي الرسوم المقطوعة محل الرسوم النسبية، "التصاعدية".
واضطلعت الدولة بإنشاء المرافق الباهظة التي تجنب الأفراد الاستثمار فيها. ولكن الدولة قيدت إدارتها المرافقَ هذه بوقت معلوم باعت بعده منشآتها الى القطاع الخاص. وأتاحت لها الخصخصة او التخصيص وعوائدها الاضطلاع بمهمات جديدة في مرافق تحتاج الى اسهامها. وبادرت الدولة، من وجه آخر، الى استيراد الآلات من الأسواق الصناعية، وعرضها على الحرفيين المحليين. ودعتهم الى "تأملها" واقتباس ما يقدرون على الاقتباس منها. وعمدت الى بعث وفود الفنيين الى الخارج ليروا بأم العين صناعاته وأعماله. ولم تستقدم من الفنيين والتقنيين الأجانب إلا قلة. وأقرت تغيير التعليم، وقلبته رأساً على عقب. وقيدت الدولة معونتها الى المنشآت والصناعات ببلوغها مقداراً مرسوماً من الصادرات. فإذا لم تبلغ المنشأة ما قدرته من صادرات قطعت المعونة عنها. واضطلع التصدير، على خلاف انشاء السوق الداخلية الكبيرة على المثال الأميركي، بدور رائد وناشط في التصنيع الرأسمالي الياباني. ويقيس "مؤشر الانفتاح" حصة التصدير من النشاط الاقتصادي، وهو 25 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي في الصين اليوم، على خطى اليابان.
وللتعليم مكانة خاصة في اجراءات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الياباني، والكوري والتايواني والصيني اليوم. فحتى قبل ثورة مايجي في 1868، كان لكل قرية او بلدة مدرستها منذ اوائل القرن التاسع عشر. وفي 1872 كان التعليم الثانوي عاماً. وبين 1873 و1913 قفز عدد التلامذة اليابانيين، في المرحلة الابتدائية، من مليون و300 ألف الى 6 ملايين ونصف، ومن أقل من ألفين في المرحلة الثانوية الى 924 ألفاً. وبلغت نسبة الثانويين الى من هم في سنهم من الفتيان اليابانيين 23 في المئة، نظير 5 في المئة بأوروبا في العقود الثلاثة المعاصرة. وفي التعليم العالي كان يدرس 56 ألف ياباني عشية الحرب الأولى. وفاقت نسبتهم 3،1 في المئة نظيرهم الأوروبي إذا أخرجت روسيا من أوروبا.
وكانت الحرب الأولى منعطفاً. فتقدمت نسبة الجامعيين نظيرها الأوروبي، في 1937، بما لا يقل عن 90 في المئة. ولعل من مفاعيل عموم التعليم ونشره، وإدارة جزء عريض منه على العلوم التطبيقية وإعماله في حل مشكلات تقنية وتجريبية، تصدي اليابان في 1850، لمرض دودة الحرير القز. فعلى خلاف الصين التي كانت صناعة حريرها سباقة، عالجت اليابان، وجيشها من الحرفيين والمتعلمين، المرض القاتل هذا في ضوء اختبارات لويس باستور، الفرنسي، وكيميائه العضوية، على حين أخفقت الصين في استنباط العلاج. فكان ذلك قرينة على أمرين: أولهما ان الاقتباس يقصّر عن التأثير وإيتاء النتائج ما لم يعم صفوفاً واسعة من العاملين ما لم ينح نحواً "شعبياً" و"ديموقراطياً"، والثاني ان الاقتباس الناجع يفترض اعتبار ملابسات المقتبس وأحواله، وتكييفه ما يقتبسه مع الملابسات والأحوال الخاصة. والأمران يعولان على المبادرة والفهم والاختبارات المجدية.
مع الانفتاح
وما يصح في اليابان يصح في بلد سبق اليابان الى التصنيع، هو فرنسا. فعندما تقدمت الصناعة البريطانية الصناعة الفرنسية في محركات النقل والآلات البحرية والقاطرات، مطلع الثث الثاني من القرن التاسع عشر، استقدمت مرسيليا الفرنسية خمسة عشر تقنياً بريطانياً وبضع عشرات من العمال المؤهلين، فأقاموا بها، وتنقلوا بين ورشها ومعاملها، ودربوا زملاءهم المحليين. وأثمر التدريب استدراكاً فرنسياً على التأخر، ولحاقاً بالتقدم البريطاني، جراء اقبال فرنسي على التجديد الثقافي وانخراط التجديد هذا في سياق نمو صناعي واقتصادي عريض.
وحمل اليابان صناعييها على التصدير، واشتراط الدولة نسبة منه لقاء الدعم والمساعدة، مشهوران. لكن التعويل على التجارة العالمية محركاً اقتصادياً أوحد ليس من "المذهب" الياباني، ولا الآسيوي الذي حذا حذوه. فالصادارت "تقطر" حلقات أخرى من الاقتصاد إذا أدت دوراً مرسوماً لها هو تمكين الانتاج الوطني من شراء السلع النادرة، أي التجهيزية العسيرة المنال والانجاز محلياً، بالعملة الصعبة التي يسددها المشترون الأجانب ثمناً لوارداتهم من البلد المصدّر. والى الدور الحاسم هذا، تضطلع التجارة العالمية بدور آخر هو انتخاب الصناعات الوطنية المحلّية انتخاباً "موضوعياً" لا يرقى شك الى حياده واحتكامه الى معايير عامة ومشتركة.
ويتضافر التصدير مع مستوى الرسوم والتعرفات، على وجهي التبادل وسعر صرف العملة، على احتساب مؤشر الانفتاح في اقتصاد بلد من البلدان. وتدل المقارنة، في أثناء ربع قرن 1970 - 1995، على ان الاقتصادات التي تستجيب معايير انفتاح عالية، 20 الى 25 في المئة نمت 5،4 في المئة سنوياً، على حين قنعت الاقتصادات التي تصح فيها معايير متدنية بمتوسط 7،0 في المئة في السنة. وتتبع الانفتاح مناعة من الفساد والتزوير والحمايات العصبية والريعية. ذلك ان ميزان الانفتاح الاقتصادي هو سعر صرف العملة الوطنية في السوق الموازية، وليس في السوق الرسمية. فهذه تتستر على التلاعب في الموازين الاقتصادية، وعلى الامتيازات والمظالم الاجتماعية، والخلل الكبير في توزيع الموارد.
وعلى النحو نفسه، يقيس التزام قواعد الحق والقانون الانفتاحَ الاجتماعي. وينزع وجها الانفتاح، من طريقين مختلفين ومتضافرين، الى توفير شرائط المساواة بين أطراف العلاقات الاقتصادية في مجتمع سياسي ووطني تسوده قواعد أساسية مشتركة العملة، القوانين المالية، القوانين التي يقضي بها القضاء.... ويلاحظ مراقبون صاغوا مؤشرات الانفتاح وعوامله أن ثمة تعالقاً تاماً بين مستوى النمو الاقتصادي وبين مؤشر الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي ويدخل المراقبون انفسهم تحت مؤشرهم عوامل تتخطى تبادل السلع الى تبادل الأفكار ومناهج البحث والتحقق والاحتجاج، والمقارنة بين المناهج وبين نتائجها. وحجة من قاضوا بيل غايتس هي احتمال قطع احتكاره المختبرات الكبيرة، واستقطابه الباحثين المبتكرين، الطريقَ على علانية المنافسة والمقارنة بين الأفكار والمناهج والنتائج. وعلى هذا فالانفتاح، ابتداءً بسعر صرف العملة الوطنية وانتهاء بمناهج الأبحاث في المختبرات وقوانين الضريبة على الدخل والأرباح، هو صنو العلانية العامة والمشتركة، ومرجع القضاء في المساواة بين المواطنين وشرائطها.
ويؤثر الانفتاح في النتائج الاقتصادية والاجتماعية من طرق متفرقة، غير الطرق الاقتصادية وإليها، منها فاعلية الهيئات والمؤسسات العامة، الادارية والقضائية والسياسية. ومن طرق تأثير الانفتاح، التعليم. فالمجتمعات المنفتحة أقدر من المجتمعات المنغلقة على تثمير التعليم والافادة منه، على ما يُرى من أحوال المجتمعات الديموقراطية القديمة أو من أحوال المجتمعات الناشئة، على المثال الياباني الذي مر. وعلى نقيض الأمثلة هذه لم تفلح مجتمعات نشرت التعليم، وبذلت في سبيل نشره موارد عظيمة - مثل كوبا أخيراً وقبلها بلدان "سوفياتية" كثيرة - في الإقلاع. ومرد ذلك الى عزل التعليم من عوامل الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي الأخرى، ناهيك عن حمل التدريس على التلقين الضيق، وتقييده بمضمون ومحتوى ثابتين وقسريين. ويقصّر تعليم من هذا الضرب عن التعقيد الذي بلغه العمل الآلي اليوم. والأحرى أن يقصر عن تعقيد العمل المكتبي، على رغم أن العامل في البلدان الفقيرة بمتناوله تجهيز آلي يقل خمسة أضعاف عن التجهيز بمتناول العامل في البلدان الغنية. وهو السبب في أن انتاجية العامل الأفريقي تبلغ 5،12 في المئة من انتاجية نظيره الفرنسي.
والانفتاح، من وجه آخر، يسهم إسهاماً قوياً في التقريب بين المواطنين والعاملين في إرساء علاقاتهم على طلب المساواة والسعي فيها، واتخاذها معياراً. وتضطلع السوق الرأسمالية الليبرالية بدور راجح في التمثيل على المساواة، شريطة أن تعمل هذه السوق أولاً، وأن لا تنفي منها العاملين القادرين على العمل والراغبين فيه بواسطة البطالة وضعف التأهيل والعجز الصحي والعزلة الاجتماعية، على ما نبه أمارتيا سين، الهندي، الذي ترد اليه بعض ملاحظات بيان مكتبة الاسكندرية. فالسوق باب على علاقات العاملين بعضهم ببعض من طريق العمل والتبادل والمنازعة والتحكم والإعلام. ودخول السوق الرأسمالية الليبرالية، والتعويل عليها الى انشاء الروابط وعقدها، لا يفترضان التسليم بحكمتها التلقائية.
مقدمات السوق... خارجها
فالتعويل على فعل السوق يفترض الإعداد لها. ومقدماتها الناجعة والجزية، مثل الصحة والتعليم والتدريب والأبنية التحتية، ينبغي أن تضطلع بها الدولة، وتسهر عليها في المراحل اللاحقة. وهذا من شروط المساواة كذلك، ومن شروط "الحرية" التي يتيحها العمل والتأهيل والضمان الصحي والانخراط في دائرة العلانية العامة والمشتركة. وتؤدي المساواة والحرية، على المعنى المتقدم، الى النمو الرأسمالي وإرسائه على ركن قوي وثابت. ويلاحظ بعض المراقبين ان المساواة في الرعاية الصحية والأدق القول: النزوع الى المساواة تؤدي الى زيادة متوسط العمر المتاح للفرد، أو "الحظ في الحياة"، عدد سنوات أكثر من تلك التي يتيحها تحسين الرعاية الصحية من غير نازع الى المساواة.
ولعل الفرق بين كوريا الجنوبية وبين الفيليبين، وانجاز الأولى إقلاعها الرأسمالي وتعثر الثانية، مرده أولاً الى تفاوت اجتماعي كبير في حال الفيليبين يضاهي التفاوت الذي يعطل نشأة سوق رأسمالية في عدد من دول أميركا اللاتينية ومجتمعاتها، ويعطلها من نشأتها، من غير شك، في البلدان العربية عموماً. فكوريا الجنوبية، على غرار تايوان، أنجزت، غداة الهزيمة اليابانية واستعادة الأراضي الوطنية من الملاكين اليابانيين، اصلاحاً زراعياً أدى الى التقريب بين الحدين الاجتماعيين المتباعدين. وحيث لا تفصل هوة بعيدة وعميقة بين الطبقات والجماعات يسري التعليم الشعبي والجماهيري من غير معوقات اجتماعية وثقافية. وأسلم عموم التعليم كوريا الجنوبية الى المراحل المتقدمة من التأهيل والبحث والتطوير. فهي تنفق على هذه الحقول ما تنفقه الدول الصناعية الكبيرة.
وينبغي أن تحول هذه الوقائع بين المراقب، أياً كان هواه السياسي، وبين حمل النمو الاقتصادي، والتوسع الصناعي، على ارادة الطبقات الحاكمة ونازعها الى القوة والسيطرة. فممثل هذه الإرادة، وهي مقسومة بالقسطاس والعدل بين قيادة الحزب الشيوعي الصيني وقيادة حزب العمال الكوري الشمالي، لا تسهم في فهم أو تعليل الاقلاع الصيني، ولد في فهم الانهيار الكوري. ولعل هذه الوقائع، وتعليلها، تنبه الى تناول علاقة النمو، أي بناء أسس السوق الرأسمالية الليبرالية، بالديموقراطية والحداثة و"العامية" "الشعبية"، على نحو أدق، وأكثر تعقيداً في الوقت نفسه، من العموم "الإصلاحي" العربي والأميركي والأوروبي الرسمي والديبلوماسي. ففي ضوء الأمثلة التي مرت، يبدو اختصار مسألة التعليم فيما تختصر فيه ويغضى عنه متعسفاً وغافلاً عن وجوه كثيرة ألمحت الملاحظات التي مرت الى بعضها.
فالحاسم في المسألة هذه، وفي المسائل الأخرى القريبة، إنما هو جملة العلائق التي تشد الاجراء الى الاجراءات الأخرى المكملة والمتممة. وتناول المثقفين العرب المسائل المتشابكة هذه، وانتخابهم منها ما يتصل بأحوالهم ويواتيها، وإشاحتهم عما لا يتصل بهم، يؤدي بهم الى تناولها على النحو الخطابي والإعلامي الذي يؤثرونه ويعرفونه. ومن هذا النحو التنويعات على "اليد" و"الحلاقة"، والابتكارات فيهما. وهو تناول صنفي وطائفي، من الصنف والطائفة الحرفيين والمهنيين. ويطرح التناول الصنفي الوجوه العملية والمادية والاجرائية التي تلابس المساواة والحرية والتبادل والعلانية. ويعزف التناول السياسي عن مسألة الدولة والسطة عزوفاً تسوغه طائفية المثقفين الضيقة، وانفكاكهم من الإسهام المتواضع في الانتقال الى الجهة الأخرى من المرآة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.