ليتها كانت وعد بلفور ثانياً، تلك المباركة التي حظي بها رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون من قبل القوة العظمى الوحيدة في العالم، أثناء زيارته الأخيرة إلى واشنطن، حيث تبنى الرئيس جورج بوش الابن نظرة ضيفه وسياسته حيال الفلسطينيين بحذافيرها، إلا ما كان من تلك الحذافير تفصيلياً هامشياً لا يفسد للود قضية. وعد بلفور الأول كان، في نهاية المطاف مجرد... وعد، استغرق تحويله إلى أمر واقع، من خلال إنشاء دولة إسرائيل، عقدين من الزمن تخللتهما ملابسات كثيرة وحربان عالميتان، الأولى التي صدر ذلك الوعد، سنة 1917، في حمأتها، ثم الثانية، تلك التي شهدت محرقة اليهود على أيدي النازيين، وهذه كانت من أفعل عوامل تسويغ المشروع الصهيوني، أقله من الناحية المعنوية، وفي كل ذلك ما قد يفيد بأن إنفاذ ذلك الوعد الأول لم يكن مرجحاً، ناهيك عن أن يكون حتمياً، وكان مشرعاً على احتمالات الفشل لو سارت الأمور على غير ما سارت عليه. أما ما قدمه الرئيس بوش لضيفه الإسرائيلي في الأيام القليلة الماضية، فأكثر من ذلك بكثير. إنه الاتفاق أو الموافقة على خطة، قابلة للتنفيذ الفوري، لا يوجد ما من شأنه أن يقف في وجهها أو يعرقلها أو يربكها. إنه إعلان الولاياتالمتحدة، علناً ورسمياً، بأنها تخلت عن الاضطلاع بدور الوسيط، وإن غير العادل وإن غير النزيه، في صراع الشرق الأوسط أو في ذلك النزاع الذي بات، عمليّا، إسرائيلياً-فلسطينياً بعد أن ضمر إسهام العرب في مناصرة "القضية القومية" حتى أضحى خطابياً صِرفاً، وأنها انتقلت بتحالفها مع الدولة العبرية، من طور الأفضلية التي كانت تتمتع بها هذه الأخيرة، دون أن تلغي أخذ مطالب سواها من الحلفاء و"الأصدقاء" المحليين بعين الإعتبار، وإن على نحو دوني، إلى طور الحصرية، أي إلى اعتبار الدولة العبرية الحليف الحصري، بل المتماهى مصالح وأهدافاً، كما يجري في المواجهات الكبرى والقصوى، عندما يكون المنتمون إلى "فسطاط" واحد في حالة اتحاد عضوي، نابذ لمن يقع خارجه نبذاً مبرماً كلياً. فما كان في ما مضى، منذ عهد الرئيس ترومان ربما، مجرد علاقة خاصة أو وثيقة بين حليفين، لا تستبعد قدراً من التباين في النظرة وفي الأولويات، ناتج على الأقل عن الإختلاف بين موقع القوة الكبرى، المحكومة بصفتها تلك بمقاربات وبمتطلبات كونية شاملة، تحدد على أساسها وانطلاقاً منها الأعداء والأصدقاء، طبيعةً ومراتب، وبين القوة الإقليمية، ذات الهواجس "المحلية"، أولاً وأخيرا في كل ذلك. كأن تكون الولاياتالمتحدة مثلا حريصة على علاقتها بهذا البلد العربي أو ذاك، لموقع يحتله ضمن نصاب أو توازن استراتيجي شامل أرسته، أو لمكانته كمنتج كبير للطاقة، أو ما إلى ذلك من الاعتبارات، وأن لا تكون إسرائيل معنية بذلك، لاعتباراتها "الأمنية" الأنانية والمسرفة في خصوصيتها، على ما كانت الحال خلال الحرب الباردة والسنوات التي أعقبتها. ذلك التباين يبدو أنه زال نهائيا. بدأ زواله مع الحرب الأميركية في العراق، واستكمل مساره مع زيارة شارون الأخيرة إلى واشنطن، تلك التي انتقلت بالعلاقة بين الحليفين من طور الخصوصية إلى طور الحصرية، على ما سبقت الإشارة. ففضلاً عن الوشائج الايديولوجية الوثيقة بين ليكود، في صيغته الشارونية، وبين اليمين الجمهوري البوشي، بمحافظيه الجدد والقدامى، ربما عاد ذلك في بعض أوجهه، إلى كون الولاياتالمتحدة قد أضحت، في هذه الغضون، ومنذ احتلالها العراق ومرابطة قواتها فيه إلى أجل غير معلوم بالرغم من كل ما يقال عن نقل "السيادة" إلى العراقيين في نهاية حزيران-يونيو المقبل، قوة إقليمية شرق أوسطية تعتبر، تبعاً لذلك أو انطلاقاً منه، الوضع العربي القائم معادياً برمته، ما عاد يحتمل تمييزاً أو تمايزاً بين عدو وصديق، بين خصم أو حليف، على ما عبّر "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، واستراتيجية "نشر الديموقراطية" في ربوعه. وبديهي أن منطلق المشروع ذاك والاستراتيجية تلك إنما هو التسليم بأن النصاب الشرق أوسطي القائم، إن في بؤرته الفلسطينية-الإسرائيلية أو في تلك النفطية الخليجية، أو في ما يتعداهما من موريتانيا إلى باكستان، أضحى مما يجب نقضه وجبّه، وأنه لم يعد "دار سياسة"، أي مجال مساومة ومقايضة يتم فيه تنازل هنا مقابل تنازل هناك، بل بات "دار حرب"، وإن لم تتخذ تلك "الحرب" هيئة النزاع العكسري المفتوح والسافر حتماً وفي كل الحالات. وطبيعي أن ذلك الطرف المقابل، وقد بات في حالة عداء كهذه وأصبحت له هذه المواصفات، لا يُعطَى شيئا، بل يؤخذ منه كل ما يمكن لميزان القوة أن يتيحه. وميزان القوة ذاك فادح الاختلال على ما هو معلوم. ولا ريب في أن السياسة التي ينتهجها شارون تندرج في هذه المقاربة الأميركية الجديدة اندراجاً كاملاً، وتأخذ بها نصاً وروحاً. فهل يفعل شارون على الصعيد الفلسطيني، إذ يستولي على كل ما يتيح له ميزان القوة الإستيلاء عليه، غير ما تدين به إدارة بوش الحالية على صعيد الشرق الأوسط الأوسع أو الأكبر؟ وهل يتصرف شارون، إذ ينكر وجود "مُحاور" فلسطيني "مؤهّل" للتفاوض يكون "شريكاً" في تسوية ما، على خلاف ما درجت عليه الإدارة الأميركية من دحض وصدّ لكل شريك أو محاور، في أي شأن عالمي، خصوصاً شؤون "الشرق الأوسط الكبير"، والإصرار على انفرادية أو على أحادية عنيدة مكابرة؟ هل أن بوش هو الذي "تشورن" أم أن شارون هو الذي "تبوشن"؟ قد يكون الخوض في هذا السؤال عقيماً غير ذي جدوى. فما يجب أن يعنينا هنا أن الرئيس الأميركي، إذ صادق على نظرة شارون كاملة، متنكراً بذلك لمواقف أميركية تقليدية، مثل التحفظ عن الاستيطان وإن من دون إدانته صراحة واعتبار الخط الأخضر أساسا للتسوية الحدودية، وإذ جارى الحليف الإسرائيلي حول موضوع حق العودة، وأفتى فيه قبل كل تفاوض محتمل، وفي انسحابه الأحادي من قطاع غزة، وفي سعيه إلى "حل" من دون "تسوية"، إنما جعل الشارونية طليعة البوشية، ومثال هذه الأخيرة وأنموذجها الموضعي، الدالّ في الآن نفسه على طبيعتها وعلى أفقها المستقبلي. تلك هي خطورة ما أقدم عليه الرئيس الأميركي، والتحول الجوهري الذي أدخله على سياسة بلاده حيال المسألة الفلسطينية، وإن شفعه ببعض استدراكات، حول تمسكه بخيار الدولتين مثلاً، مما لا يطمئن إذ لا يغيّر من واقع الحال شيئاً. صحيح أن البوشية قد تأتي عليها الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكن الشارونية قد تستمر حتى من دون شارون، بعد أن تغلغلت في النسيج السياسي والقيمي الإسرائيلي، في حين أن وهن "النظام العربي" المزعوم، سيتسمر على الأرجح على ما هو عليه، يغري حتى من لم يكن في تشدد الرئيس الأميركي الحالي أو في تطرف رئيس الحكومة العبرية الراهن، بالانتهاك ويزيّن له التعدي. فبوش وشارون متطرفان واقعيان، وواقعيتهما أن تقديرهما للوضع العربي ولما يتوقعانه منه، ممانعةً أو خضوعاً، مصيب أو، على الأقل، لا يجافي الحقيقة كثيراً.