التحول الأميركي - الأوروبي ازاء حرب الإبادة التي يشنها شارون على الفلسطينيين يعني بالدرجة الأولى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي استنفد الفرصة التي اعطيت له لإكمال حربه على "الإرهاب"، فخرج خاسراً في السياسة بمقدار ما خرج عرفات منتصراً. والانتصار لا يتجسد فقط في خروج الرئيس الفلسطيني من أسره في رام الله، وضمان حضوره القمة العربية في بيروت، بل يتمثل خصوصاً في انهيار حرب الإبادة وفشلها في ضمان أمن الإسرائيلي. واضح ان كل الأيام السود والتقتيل والتدمير ومحاولة دق اسفين بين عرفات ورموز القيادة الفلسطينية، كلها فشلت في تحقيق الطموحات الشارونية، والمقياس هنا ليس عربياً ولا فلسطينياً، بل رجل الشارع الإسرائيلي الذي خاطبه الملك عبدالله الثاني أمس ليذكره بأن الشرق الأوسطية التي صممها شمعون بيريز أحلاماً وردية، ما زالت ممكنة. وإذا كان أبرز ما في التحول الأوروبي إدانة ضمنية لإسرائيل بسبب خروجها على قرارات "الشرعية الدولية"، فبديهي أيضاً أن "المبادرة" التي تبناها الرئيس جورج بوش عبر اطلاق القرار الأميركي التاريخي في مجلس الأمن، ورفض المساعدات الاستثنائية للدولة العبرية، والاصرار على انسحاب إسرائيلي كامل من مناطق السلطة الفلسطينية، كلها تصب في اتجاهين: عودة إلى الاعتراف بشرعية القيادة الفلسطينيةوعرفات، كونها ستكون حاضنة للدولة الفلسطينية وكذلك الاقرار بأن الخيارات الشارونية في النسخة الإسرائيلية ل"الحرب على الإرهاب" استنفدت اغراضها، ولم تعد تصلح لمواكبة النسخة الأميركية. وإذا كان صحيحاً أن القرار الأميركي الذي تبناه مجلس الأمن لا يحمل كل الوعود الوردية بولادة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة وحدود تعود إلى 4 حزيران يونيو 1967، فالصحيح أيضاً أنه يذكّر بوعد بلفور في وجه ما، وأنه "تاريخي" على رغم بعض الاعتراضات العربية. دون الدولة المستقلة التي يسعى إليها الفلسطينيون شوط طويل، ربما يبدأ بتطبيق خطتي تينيت وميتشل، ليفتح الباب أمام مراحل طويلة من المفاوضات، ربما تستمر سنوات. وبديهي أن الهدف الأميركي قد يكون تكتيكياً تحت سقف أهداف المرحلة الثانية من "الحرب على الإرهاب"، محكوماً باعتبارات الحرب المقبلة على العراق، لكن الأكيد أن التحول الذي كرسته إدارة بوش من خلال مجلس الأمن، و"الإعلان" الأوروبي الجديد في قمة برشلونة، سيصب في خدمة بدء العد العكسي لمرحلة شارون. كان مؤتمر مدريد أيام جورج بوش الأب مكافأة للعرب على انضمامهم إلى التحالف في حرب تحرير الكويت، ويوحي بوش الابن الآن بأنه يقدم مسبقاً المكافأة الجديدة لهم لعدم عرقلة الحرب على العراق، والجميع يعرف ذلك لأن المنطقة "لا تحتمل حربين في آن" كما يقول الملك عبدالله. قد تفهم بغداد أن العاهل الأردني لن يعارض تدخلاً أميركياً لإطاحة الرئيس صدام حسين في مرحلة مقبلة، هذا شأن آخر، لكن المفارقة الجديدة - القديمة في استراتيجية واشنطن، وإن بدأها بوش الابن من أسفل إلى أعلى، على عكس والده، أن العصا الأميركية في العراق ستكون ثمناً لجزرة في فلسطين، وفلسطين ليست بعد سوى وعود، من دون حدود أو سيادة، لأن كل هذه قضايا متروكة للمفاوضات. لا أحد يمكن أن يجادل في صحة قول الملك عبدالله أن الحل للقضية الفلسطينية لن يولد في قمة بيروت، بعد عقود من الدمار والدماء، ولا أحد من القادة العرب سيمانع في اندماج إسرائيل في العالم العربي. أما "تعريب" أمنها لأن الفلسطينيين مهما فعلوا سيبقون عاجزين عن حمايته، كما يقول الملك، فشأن آخر، يتخطى أحلام بيريز ويُخشى أن تعتبره إسرائيل مكافأة مجانية.