دخلت مقاومة الشعب العراقي مرحلة نوعية جديدة عشية مرور سنة على احتلال العراق، عندما تفجرت انتفاضة شعبية مسلحة في معظم مدن العراق في الجنوب وبغداد والوسط إلى جانب التصاعد النوعي في عمليات المقاومة المسلحة والتي تجلت أخيراً في الفلوجة والرمادي على نحو أخرج إدارة الاحتلال عن طورها وجعل كل مشروعها المخطط له لنقل السلطة إلى واجهة عراقية على شفا الانهيار. وإذا كانت الشرارة التي فجرت الانتفاضة الشعبية على نطاق واسع واستطراداً المواجهات الدامية مع قوات الاحتلال في مدن عراقية عدة إثر قيام الأخيرة بارتكاب مجزرة ضد المتظاهرين المحتجين على إغلاق جريدة "الحوزة" والمطالبين بإطلاق مساعد السيد مقتدى الصدر الشيخ مصطفى اليعقوبي الذي اعتقلته القوات الأميركية بحجة وقوفه وراء مقتل رجل الدين عبدالمجيد الخوئي. إلا أن كل المؤشرات تظهر أن ذلك لم يكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير إذ حصلت جملة من الأحداث والتطورات كانت تؤشر إلى اقتراب المواجهة ضد القوات المحتلة وأبرزها: 1- رفض سلطة الاحتلال مطالب المرجع السيد علي السيستاني بإجراء انتخابات تشرف عليها الأممالمتحدة. 2- التوقيع على الدستور العراقي الموقت الذي جرى وضعه بإشراف الاحتلال في شكل مباشر وبما يحقق أهدافه في تمكينه من التدخل في كل مراحل بناء مؤسسات نظام عراقي جديد على قاعدة إلغاء عروبته واعتباره مجموعة أقوام وجماعات يحكمها نظام تعددي فيديرالي. وأدى توقيع الدستور إلى إثارة معارضة عراقية قوية ضده تجلت في المواقف التي أعلنها آية الله السيستاني والسيد مقتدى الصدر والكثير من الفاعليات والقيادات العراقية. 3- تصاعد عمليات المقاومة العراقية كماً ونوعاً بالاستناد إلى بيئة شعبية تزداد سخطاً على الاحتلال، وارتفاع أعداد القتلى في صفوف القوات الأميركية المحتلة، في وقت كشف تقرير أميركي أن المقاومة المتواصلة أدت إلى إعطاب ما يقارب ال11 ألف جندي أميركي بين جريح أو معوق جسدياً وإصابة بمرض نفسي. 4- ازدياد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم البطالة التي بلغت 80 في المئة بعد حل مؤسسات الدولة العراقية وفقدان الموظفين فرصة عملهم وخسارة العراقيين للمساعدات التي كانت تقدمها الدولة قبل الاحتلال، مما أدى إلى حصول سلسلة من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية وارتفاع حجم العداء للاحتلال. هذه التطورات أدت إلى ازدياد حراجة موقف الإدارة الأميركية التي باتت تشعر بأن هناك صعوبة بإتمام عملية نقل السلطة في 30 حزيران يونيو المقبل على النحو الذي تخطط له، وأن التدهور الأمني في العراق قد يدفع إلى تأجيل هذا الموعد كما تحدث بعض الأعضاء في الكونغرس الأميركي. غير أن التحدي الأكبر الذي أصبح يشكل هاجساً لإدارة الاحتلال الأميركي هو كيفية مواجهة تنامي المقاومة المسلحة والشعبية ضد القوات الأميركية، ودفع المأزق الأميركي القوات المحتلة إلى ارتكاب مجزرة بحق المتظاهرين في مدينة الصدر ما أدى إلى إطلاق شرارة الانتفاضة الشعبية وخروج تيار مقتدى الصدر عن مسار التظاهرات السلمية وإشهار السلاح. والأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق: ما هي نتائج هذه الانتفاضة الشعبية المسلحة ودلالاتها؟ وكيف سيتعامل الاحتلال مع الواقع الجديد وهل يذهب في اتجاه المزيد من التصعيد أم يتراجع خوفاً من تداعيات أكبر على وجوده برمته؟ ما من شك في أن الانتفاضة الشعبية المسلحة التي جاءت رداً على سياسات الاحتلال وممارساته القمعية والإرهابية ومجازره البشعة أدت إلى تحقيق جملة من الأمور: 1- كسر شوكة الاحتلال وهيبته وظهوره فاقداً السيطرة على الأرض بعد سنة من احتلاله. 2- تعبئة الرأي العام ضد الاحتلال وتعزيز المقاومة لتشمل جميع مدن العراق من دون استثناء مما يؤدي إلى زيادة حجم الاستنزاف ضد القوات المحتلة، وإلى تشتيت هذه القوات وعدم قدرتها على تركيز قوتها من جهة ثانية، الأمر الذي يجعلها هدفاً سهلاً للمقاومة. 3- انخراط كل فئات الشعب العراقي في مقاومة الاحتلال في صورة بدا معها أن قوات الاحتلال تسبح في بحر معاد لها ولا تحظى بأي تأييد شعبي على الأرض، فيما مجلس الحكم الذي عينته يزداد عزلة واندفع بعض أعضائه إلى استنكار جرائم الاحتلال وأعلن البعض التهديد بالانسحاب من المجلس. 4- تلويح بعض الدول المنخرطة في التحالف بإمكان سحب قواتها إما خوفاً من الوقوع في فخ الاستنزاف وتعرضها لخسائر جسيمة، أو بسبب المعارضة المتنامية فيها لاستمرار المشاركة في احتلال العراق. أما في شأن الاحتمالات فيبدو من الواضح أن هناك احتمالين لا ثالث لهما: الأول هو لجوء سلطة الاحتلال إلى التصعيد واستخدام القوة والإصرار على سياسة القمع وقصف المدن في محاولة لإرهاب الشعب العراقي، وهو ما برزت مؤشراته بالإعلان عن إصدار مذكرة باعتقال الصدر وقيام طائرات حربية والآباتشي بقصف المدن ومحاصرتها، وإذا سارت الأمور في هذا الاتجاه فهذا يعني اندفاع الأوضاع نحو مواجهات دامية وعنيفة ستؤدي بالضرورة إلى تجذر المقاومة وزيادتها وانخراط المجتمع العراقي كله فيها، واستطراداً إلى وقوع خسائر جسيمة في صفوف القوات الأميركية. الاحتمال الثاني أن تلجأ إدارة الاحتلال إلى تهدئة الموقف. غير أن هذا الخيار الأميركي سيؤدي أيضاً إلى إحداث ازدواج سلطة على الأرض وتقوية تيار الصدر والمقاومة العراقية على الصعيد الشعبي واستطراداً إلى تهديد مشروعها لنقل السلطة. وفي الحالتين يرى المراقبون أن الولاياتالمتحدة في العراق تواجه محطة مفصلية عليها الاختيار فيها، بين الاستمرار في سياسة الإصرار على فرض احتلالها المرفوض عراقياً وبالتالي التورط في حرب استنزاف تفوق تلك التي كانت تتعرض لها في نهايات حرب فيتنام، أو تعتبر أن ما جرى كاف ليولد القناعة لديها بأن الاستمرار في سياسة فرض الاحتلال على العراقيين غير مجد، وأن الحل هو في الانسحاب من العراق وتسليم الأممالمتحدة مهمة الإشراف على إجراء انتخابات فعلية تأتي بسلطة عراقية تعبر عن إرادة الشعب العراقي بما يحقق للعراق سيادته واستقلاله ووحدته. * كاتب فلسطيني.