أتيح لي في أوائل الثمانينات من القرن الماضي حضور ندوة في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية عن العلاقات الأوروبية - الأفريقية في ظل المتغيرات العالمية الجديدة. كان معظم المتحدثين في الندوة من الأفارقة المبعوثين من حكوماتهم للدراسة في الجامعات البريطانية كي يشغلوا بعد عودتهم مناصب إدارية وسياسية رئيسية في أوطانهم. وهذا تقليد قديم كانت تلجأ إليه بريطانيا أيام الاستعمار لتحقيق أهدافها الخاصة، إذ كان المفروض أن يصبح هؤلاء الدارسون أبواقاً للسياسة الاستعمارية وعملاء مستترين لبريطانيا حتى تضمن استمرار نفوذها في أفريقيا حتى بعد أن تنال المستعمرات استقلالها. وبطبيعة الحال لم تتحقق كل آمال بريطانيا، إذ ظهر من بين هؤلاء الدارسين القدامى بعض الزعماء الذين طالبوا بالاستقلال حتى نالت أوطانهم سيادتها الذاتية، ولعل أهم هؤلاء الدارسين / الزعماء هو جومو كينياتا بطل استقلال كينيا وأول رئيس أفريقي لها. في تلك الندوة تقدم أحد المبعوثين من النيجر، على ما أذكر، يبحث عن الأوضاع السائدة حينذاك في دولته، وعرض بالتفصيل لمظاهر التخلف التي يعاني منها المجتمع وأرجعها إلى سيطرة المعتقدات والتراث التاريخي المتخلف الذي ينوء تحته الشعب وأن ذلك هو الحال في كل المجتمعات الأفريقية بغير استثناء وأنه لا سبيل لتقدم أفريقيا إلا بنبذ كل ذلك التراث والأخذ بأساليب الحياة والفكر الغربي العقلاني والتحرر من كل ما يربط القارة بتاريخها القديم المتخلف. بل إنه أبدى شكوكه في إمكان أفريقيا ذلك حتى لو أرادت، وذهب إلى أبعد من ذلك حين قال إنه لو أتيحت له الفرصة هو وغيره من الأفارقة المتعلمين الموجودين حينذاك في بريطانيا للإقامة هناك لما ترددوا في ذلك ولكن المشكلة التي تواجهه وتواجههم - على حد قوله - هي أن المجتمع البريطاني لن يتقبلهم لإفريقيتهم وسواد بشرتهم كما أنهم لن يستطيعوا التكيف مع مجتمعاتهم الأفريقية التقليدية بعد عودتهم لاكتسابهم ثقافة جديدة تتعارض جذرياً مع الثقافة الأفريقية. وأثار ذلك البحث كثيراً من الاعتراض من الحاضرين الأفارقة الذين عبروا عن تمسكهم بانتمائهم الأفريقي وكانوا يأملون في إمكان الارتفاع بأوطانهم بعد عودتهم والإفادة من الخبرة التي اكتسبوها في الغرب في تحسين تلك الأوضاع. واسترعى انتباهي أثناء ذلك أمران. الأول هو أن معظم هذه الانتقادات التي اتخذت شكل الهجوم من دون الخروج عن الموضوعية وأدب الحوار جاءت من الباحثات / الدارسات الأفريقيات اللاتي حضرن الندوة. فقد أظهرن قدراً كبيراً من الحماسة للتراث والتاريخ وأن الأفارقة أسهموا في بناء الحضارة الغربية والأميركية بالذات على رغم أنهم كانوا مستعبدين وأن العبيد الأفارقة أصبحوا قوة لا يستهان بها في أميركا لدرجة أنهم يرفضون أن يطلق عليهم اسم السود ويفخرون بأنهم أفارقة أميركيون اعتزازاً منهم بوطنهم الأم الذي يحاول ذلك الباحث النيجري التبرؤ منه. والأمر الثاني هو أن بعض هؤلاء المبعوثين، بخاصة من غرب أفريقيا كانوا يتكلمون بشيء من الكبرياء والأنفة إن لم يكن فيه قدر من الشعور بالاستعلاء على الغرب وعلى الحاضرين من الإنكليز المشاركين في الندوة. وحملتني الذاكرة حينذاك - كما تحملني الآن - إلى الخمسينات حين كنت ادرس الأنثربولوجيا في أكسفورد وتعرفت على عدد من الطلاب الأفارقة هناك ومنهم بخاصة طالب كان يدرس معي في معهد الأنثروبولوجيا الاجتماعية كما كان يسمى حينذاك. وكان هذا الطالب ابن أحد زعماء - أو ملوك الأشانتي في غانا، وكان يتميز برقة واضحة وسلوك مهذب للغاية مع الاعتزاز بالنفس في غير غرور. وفي إحدى الجلسات لتناول الشاي بدعوة مني في المسكن الذي كنت أقيم فيه تطرق الحديث إلى تجارة الرقيق وما عانته شعوب غرب أفريقيا، خصوصاً ما كان يعرف في تلك العهود باسم ساحل الذهب الذي أصبح غانا. وكان حديثه مملوءاً بالمرارة لما نزل بأسلافه من هوان لا يستطيع الناس نسيانه على رغم تقادم السنين وعلى رغم حصول بلاده على الاستقلال وما حققه زعيمها نكروما من نجاح وعلى رغم دعوته إلى توحيد القارة، مما كان يقض مضاجع البريطانيين. وذكر لي نيكيتا - وهذا اسمه - حادثة طريفة وقعت له في اليوم الأول من وصوله إلى لندن في طريقه إلى أكسفورد. فقد شاهد في أحد الشوارع ماسح أحذية إنكليزياً وهو ما لم يكن يتصور إمكان حدوثه إذ كانت معرفته في أفريقيا بالإنكليز أنهم طبقة من الحكام فوق البشر. وعلى رغم أنه لم يكن يحتاج إلى تنظيف حذائه فإنه اعتلى بطريقة لا شعورية الكرسي أمام ذلك الإنكليزي الذي عمل على تلميع الحذاء. ويقول إنه لم يشعر في حياته قط بمثل تلك السعادة التي شعر بها وهو جالس على ذلك الكرسي الخشبي وتحت قدميه ذلك الإنكليزي يمارس عمله ووجهه إلى الأرض وإلى الحذاء بينما يجلس هو في مكان أكثر ارتفاعاً منه، وأنه أحس حينذاك بأنه ينتقم لهؤلاء الأجداد. وعبرتُ له عن فهمي للموقف وتعاطفي معه. ويبدو أنه لم يكن يتوقع مني ذلك التعاطف الذي ترتب عليه، على أية حال، إزالة ما كان لا يزال بيننا من كلفة من ناحية وإن كان ظل يحمل نحوي شيئاً من التقدير الذي لم أكن أتوقعه فقد كان يحرص على أن يناديني باسم آبو وعبثا حاولت أن أثنيه عن ذلك لأن أبو هو مجرد مقطع من اسم العائلة ولكنه كان يحمل بالنسبة إليه كثيراً من معاني الرياسة والمكانة الاجتماعية العالية. ويبدو أنه ظل يعتقد أنني - مثله - ابنٌ لأحد الزعماء أو الملوك المصريين. وأسهمتُ أنا نفسي بغير قصد في ترسيخ هذا الفهم في ذهنه حين ذكرت له في بعض جلساتنا جانباً من ملحمة أبي زيد الهلالي. فقد اتخذ منها دليلاً على أن ذلك الاسم له وزنه في الثقافة العربية، وإن كان زملاء الدراسة الآخرون اتخذوا من ذلك مادة للتندر والفكاهة. وعدتُ إلى مصر في أواخر الخمسينات واستمرت المكاتبات بيننا لبعض الوقت وانقطعت بسبب مشاغل الحياة. وفي العام 1963 ذهبت إلى غانا لبعض الوقت أثناء إجراء بعض البحوث الميدانية عن مشاريع التنمية كلفني بها مكتب العمل الدولي في جنيف. ولم تكن غانا ضمن خطة البحث، ولكنني حرصت على الإقامة في أكرا أياماً عدة لكي ألقى نيكيتا. وفي فندق "أمبسادور" الفخم شاهدتُ ملامح التغير الذي تمر به غانا المستقلة من مجتمع قبلي إلى دولة عصرية ولاحظت كبار الأفارقة في ملابسهم الأوروبية الأنيقة وقد تعلقت الغلايين البايب بشفاههم بينما ترفل نساؤهم في ملابسهن الوطنية الزاهية. وكانت هذه بالنسبة لي تمثل نوعاً من المفارقة وازدواجية الحياة في مجتمع قبلي يتحول إلى نمط الحياة الغربية الحديثة ويصيبه أثناء ذلك بعض الخلل في السلوك والعادات وأدركت حتى من مجرد تمسك المرأة الأفريقية بالملابس الوطنية كيف أن المرأة - وليس الرجل - هي التي تحمل على عاتقها مسؤولية المحافظة على القيم وعلى التراث، بينما ينجرف الرجل في تيار التقليد فيفقد شخصيته. وخرجت بهذا الانطباع نفسه بعد حوالى عشرين عاماً حين حضرتُ تلك الندوة في جامعة لندن وقارنت بين مواقف الرجال والنساء الأفارقة ونوع المناقشات التي أثارها كل من الفريقين. وعلى أية حال فإن علاقاتي بالدارسين الأفارقة أيام التلمذة لعبت دورا مهماً في اهتمامي بالقارة ومشاكلها، ويرجع إلى نيكيتا، الذي أصبح من رجال وزارة الخارجية المرموقين، فضل كبير في ذلك. فمن طريقه عرفت الكثير عن الأدب والفن في أفريقيا. وكثيراً ما كان يغني بصوته الرقيق الخفيض بعض الأغاني الغانية التي تحمل كثيراً من الألم والحزن والعذاب وبخاصة حين تتطرق إلى أيام الاستعمار أو تحكي عن آلام وعذابات العبيد أثناء الرحلة إلى العالم الجديد. ومنه عرفتُ للمرة الأولى أسماء وكتابات بعض الأدباء والشعراء الأفارقة الذين نجهل عنهم الكثير في عالمنا العربي. وعرفت بالذات في ما يتعلق بغانا أشعار إيليس كوماي وكويزي برو وغيرهما وكانوا حينذاك في مقتبل العمر مثلنا تماماً، وحفظت بعض أشعارهم فقد كانوا يكتبون بالإنكليزية. وربما تحضرني هنا بعض أبيات من قصيدة طويلة ظللت احفظها لسنوات عدة للشاعر برو يقول فيها: الماضي / ليس إلا رماد الحاضر / والمستقبل / مجرد دخان أفلت وتصاعد / إلى عنان السماء الملبدة بالغيوم / كوني رقيقة يا حبيبتي / فالكلمات ليست سوى ذكريات / والذكريات مجرد أدوات في أيدي العابثين / وحين يصمت الحكماء من الرجال / يكون صمتهم قراءة عميقة / لسعف نخيل المسيح / في وجه بوذا العظيم. ولم أدرك الأبعاد الحقيقية للسطرين الأخيرين إلا بعد أكثر من أربعين سنة منذ عرفت القصيدة للمرة الأولى، وذلك حين ذهبت عام 1995 إلى نيبال في بعثة اليونسكو لارتياد طريق الحرير - الطريق البوذي - وشاهدت صور ميلاد بوذا وقد وقفت أمه وهي تتعلق بسعف النخلة للتغلب على آلام المخاض ... إنها صورة السيد المسيح كما وردت في القرآن الكريم. * أنثروبولوجي مصري