طبعاً، الحقائق"تغيّرت على الأرض في العقود الأخيرة"، كما قال الرئيس الأميركي جورج بوش في مؤتمره الصحافي الذي تخلّى فيه عن توجه تقليدي في السياسة الأميركية كان يقضي بأن تتظاهر الولاياتالمتحدة بأنها تبذل جهداً من أجل بعض الحيادية التي تعطيها موقع الوسيط في الصراع العربي - الاسرائيلي. ومن هذه الوقائع، أنه فيما كانت الولاياتالمتحدة ترعى عملية السلام منذ مؤتمر مدريد عام 1991، كان بناء المستوطنات"غير القانونية"كما ينصّ عليها تقرير ميتشيل و"خريطة الطريق"يتم بتمويل أميركي، وكان آرييل شارون نفسه الذي تولّى أواسط التسعينات وزارة الاستيطان وراء مضاعفة هذه المستوطنات التي فرّخت كالفطر وبلغت أكثر من مئة بين مراكز استيطان صغيرة ومجموعات سكنية كبيرة. ما يميّز إدارة بوش عن غيرها من الادارات الأميركية السابقة، انها لم تعد تستحي، ولم تعد تأبه بالظهور بمظهر عدم التسليم علناً والاكتفاء بالتسليم ضمناً بخرق اسرائيل للقانون الدولي. فهي لم تعد مهتمة بالتوسّط بين اسرائيل والعرب، ولم يعد التوصل الى تسوية بينها وبينهم من همومها. وهذه الادارة تعتبر، مثلما سبق للقيادة الاسرائىلية ان اعتبرت، ان احتلال أميركا للعراق أزال تهديداً استراتيجياً في وجه الدولة العبرية، يتيح لها الاطمئنان لعقود أخرى مقبلة، وسط التراجع العربي الانحداري المتواصل بسرعة قياسية. قد تخفف هذه النظرة من"تاريخية"التحوّل في السياسة الأميركية التي كانت على الدوام تترك مسألة اللاجئين وحق العودة والمستوطنات والحدود الى مفاوضات الوضع النهائي، لكنه تحوّل تاريخي على رغم ذلك لأن الادارات الأميركية اعتادت ان تتنكر لقرارات ووثائق وافقت عليها الادارة السالفة، وقرارات الأممالمتحدة القديمة. ففضلاً عن ان موقف بوش أول من أمس يتخلّى عن قراري مجلس الأمن الرقم 242 والرقم 833 وتقرير ميتشيل... فإنه تخلّى عن نصوص خريطة الطريق المرحلة الأولى الممتدة حتى أيار / مايو 3002 التي صنعت في البيت الأبيض، وهي:"تفكك الحكومة الاسرائىلية فوراً كل البؤر الاستيطانية التي أقيمت منذ شهر آذار مارس عام 1002، وتطبيقاً لتقرير ميتشيل العام 0002 تجمّد الحكومة الاسرائىلية كل النشاطات الاستيطانية بما فيها النمو الطبيعي للمستوطنات". وبين المستوطنات التي سلّم بوش لشارون ببقائها في الضفة ما جرى بناؤه أو توسيعه بعد هذين التاريخين. الا ان العودة الى النصوص في محاكمة موقف واشنطن باتت من المحال، فحديث حصول الانسحاب الاسرائىلي الأحادي من غزة"في اطار خريطة الطريق"الذي سمعنا عنه من بوش والرئيس المصري حسني مبارك قبل ساعات من اجتماع بوش مع شارون يدل الى ان ما اتفق عليه الاخيران يمحو ما قاله الأولان، فأي خريطة تلك التي يدعو القادة العرب الى التمسّك بها ويمنون شعوبهم بأنهم سيصرون عليها في قرارات القمة العربية المقبلة، المؤجلة نتيجة اختلافهم على درجة الانسجام مع المطالب الأميركية بالاصلاحات الديموقراطية، ومع الوقائع الجديدة التي نشأت في العقود الماضية... لا يعني هذا الكلام الوقوف في وجه الاسرائىليين اذا انسحبوا من غزة، لكنه تذكير بأن الأميركيين والاسرائىليين يصنعون الوقائع والقادة العرب يسلمون بها، بدلاً من ان يصنعوا هم الوقائع المقبلة. من الوقائع ان مشروع شارون الانسحاب من غزة ربما امتد على مدى سنتين هو اخلاء مستوطنات يعيش فيها بضعة آلاف من الاسرائىليين قد لا يتعدون العشرة آلاف، على 03 في المئة من مساحة القطاع، بينما يعيش مليون واكثر من 006 ألف فلسطيني على 07 في المئة. ومقابل ذلك يسلم بوش له بالاحتفاظ على الأقل بست مستوطنات في الضفة تضم زهاء 052 ألف اسرائيلي ستؤدي الى تقطيع أوصالها. ومن الوقائع أيضاً ان مفاوضات اسرائىلية - أميركية ستجرى حول الاموال التي ستدفع لشارون كتعويض عن الأبنية التي سيخليها في غزة وتكاليف نقل مدافن الاسرائىليين من هناك.