تسير الولاياتالمتحدة في العراق في الاتجاه الخاطئ، تماماً كالأعمى الذي يتعثر في تسلق الصخور. فبدلاً من ان تسعى الى التفاوض للوصول الى تسوية سياسية تبدو على العكس مصممة على إلحاق هزيمة ساحقة بالمقاومة السنية والشيعية على السواء... وهي تصر على الاعتقاد بأن"تلقين العراقيين درساً"يضطرهم للاستسلام. لكن تصعيد النزاع قد يؤدي الى عكس النتيجة المرجوة. ان قتل 700 أو 800 مدني في الفلوجة معظمهم نساء وأطفال وشيوخ هو خطيئة سياسية فادحة. فقد رسم الشهود صورة رهيبة للجثث المرمية في الطرقات، ضحايا القناصة من جنود"المارينز"، وللمستشفى الرئيسي في المدينة وقد دمرته القنابل الاميركية وللبنايات المنهارة والقمامة المبعثرة في الشوارع والسكان المذهولين الذين أرهبتهم الغارات الجوية ونيران الدبابات... هناك نهر من الدماء يفصل الآن بين الاميركيين وخصومهم ويغذي تعطشهم للانتقام ويجعل أي مصالحة مستحيلة. وستصبح هذه الخطيئة ذات أخطار مضاعفة اذا ما حاولت القوات الاميركية اقتحام النجف كي"تقتل أو تلقي القبض"على مقتدى الصدر وتقضي على ميليشياته"غير الشرعية". اذ قامت قوة مؤلفة من 2500 جندي، مدعومة بالدبابات والمدفعية والطيران بمحاصرة المدنية. وحاولت ايران التدخل وبذل وساطتها أملاً في انقاذ النجف. فإذا ما تجددت الأعمال الحربية فسيثير ذلك غضب العراقيين ويخرجهم عن طورهم وينمي روحهم القتالية ويسرع في ظهور زعامة سياسية وعسكرية قائمة على طرد الاميركيين واسترداد استقلال البلاد الحقيقي. وهذا لا علاقة له بالموالين لصدام أو برجال الدين الأصوليين أو بالمقاتلين الأجانب... وانما هو مجرد انبعاث وطني عراقي. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده جورج بوش مساء يوم الثلثاء الماضي لم يمنح نفسه أي فرصة لتغيير مجرى السياسة المتبعة حتى الآن. وهو في عرض فاضح يفتقر الى الكفاءة حشر نفسه في زاوية لا منفذ لها ولا مخرج سوى المزيد من الخسائر الاميركية والمزيد من التكاليف وصولاً الى نهاية مهينة. استخدم بوش عبارة"القوات الحاسمة"لضمان النصر مؤكداً ان عواقب الإخفاق"غير واردة"مطلقاً... فإذا احتاج الأمر الى مزيد من القوات فسيرسلها. وتتحدث واشنطن في هذا الصدد عن ارسال 15 الى 25 ألف جندي اضافي لينضموا الى 135 ألفاً الموجودين حالياً في العراق. وكرر بوش مرة اخرى شعاراته التبسيطية الجاهزة قائلاً:"العراق الحر هو مفتاح الشرق الأوسط الحر، ومفتاح لضمان أمن اكبر لأميركا، وان هزيمة الارهاب في العراق أمر حيوي وجوهري وأساسي لهزيمة الارهاب في كل مكان... وان أعداء العالم المتمدن يمتحنون ارادة العالم المتمدن وصموده، الخ.... أما القوات الاميركية فستبقى في العراق"كي تحمي الحكومة من أي عدوان خارجي وأي أعمال تخريب داخلية"وتعقد معها اتفاقاً أمنياً. انه تفكير المحافظين الجدد المفلس ذاته وهو طموح الهيمنة نفسه الذي ورط اميركا في المستنقع العراقي بالدرجة الأولى، وللأسف لم ترد في حديث الرئيس بوش اي اشارة الى ان بلاده قد تعيد النظر في سياساتها الفاشلة، اللهم إلا الاقتراح بأن تلجأ أميركا الى الأممالمتحدة للحصول على قرار جديد من مجلس الأمن يتيح للدول الأخرى المشاركة في اعادة إعمار العراق. والواقع ان الولاياتالمتحدة تركع أمام الأممالمتحدة مستجدية مساعدتها على الخروج من المأزق. غير ان الأمين العام كوفي انان صرح هذا الاسبوع مشيراً الى ان تردي الوضع الأمني قد يحول دون ارسال فريق كبير من الأممالمتحدة الى العراق للمساعدة على نقل السلطة المنتظر تحقيقه في 30 حزيران يونيو المقبل الى العراقيين. وبمعنى آخر فإن المهمة السياسية المنوطة بمبعوث الأممالمتحدة الأخضر الابراهيمي محكوم عليها منذ الآن بالفشل نتيجة تصاعد العنف. فليس لدى قوات التحالف أي رد على عمليات خطف الرهائن الذين بلغ عددهم خلال هذا الاسبوع 40 شخصاً من 12 دولة مختلفة، والذين يثير وضعهم قلقاً شديداً وشعوراً بمعارضة الحرب في هذه الدول. الأمن أولى الأولويات انهار الوضع الأمني في العراق تماماً وصارت البلاد في غمار حرب شعبية لا ترحم. ولا شك ان أميركا تتحمل مسؤولية في انتشار العنف والفلتان والفوضى. ومن الواضح ان لاستتباب الأمن اليوم أولوية عاجلة اكثر من الديموقراطية، فمن دون الأمن لا يمكن تحقيق أي تقدم اقتصادي أو سياسي، ولا يمكن تسليم السلطة بأمان. وأفضى إليّ محلل عراقي يقيم في لندن هذا الاسبوع برأيه قائلاً:"لا بد من ملء الفراغ الأمني قبل البحث في الفراغ السياسي". ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو عن كيفية معالجة هذا الوضع... وفي كلتا العاصمتين، واشنطنولندن، تطرح الخيارات الممكنة وتقلّب الأمور من مختلف الأوجه. وفي هذا الصدد فإن الحقيقة المرة هي ان الدول ذات القدرة العسكرية المهمة، كالهند وباكستان وتركيا وفرنسا، ترفض ارسال قواتها للقتال في العراق تحت قيادة اميركية. ومن ناحية اخرى، فإن اميركا ترغب في ان يتولى حلف الأطلسي حراسة حدود العراق لمنع المتسللين، لكن أي دولة في هذا الحلف تقبل بإرسال قواتها في الظروف الراهنة؟ أما إرسال قوة تحت راية الأممالمتحدة فليس بخيار قابل للتحقيق، فقوات الأممالمتحدة هي لحفظ الأمن وهي على أي حال لا يمكن ان تذهب الى العراق قبل خروج الاميركيين منه. أصبح الآن واضحاً ومسلماً به ان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه مسؤول الإدارة الاميركية في العراق بول بريمر هو حل الجيش العراقي وتشريد 400 ألف شخص وتحويلهم الى عاطلين عن العمل يسرحون في الشوارع أو ينضمون الى المقاومة في أكثر الأحيان. فرجال المقاومة الشعبية الذين يهاجمون القوات الأميركية يستخدمون أسلحة وأساليب تدل على مهارة مهنية فائقة. أما القوات العراقية التي تحاول اميركا الآن تشكيلها فهي تثير الشفقة والسخرية، فلا قيادة ولا معنويات لها ولا يمكن استخدامها ضد أبناء شعبها العراقيين كما دلت على ذلك وقائع القتال في الفلوجة. ويحاول الاميركيون دعمها عن طريق استخدام ضباط الجيش السابقين بعد التحقق بدقة من ولائهم، وتسليمهم مهمات قتالية أو تعيينهم في وزارة الدفاع الجديدة، غير ان العراقيين المستعدين لمواجهة خطر التعاون مع المحتل هم قلة قليلة جداً. العمود الفقري في بناء الدولة لعل الخيار الآخر الذي لم يجرب بعد هو دعوة الجيش العراقي للعودة الى ثكناته تحت قيادة عراقية. مثل هذه الدعوة تستثني طبعاً الحرس الجمهوري والحرس الخاص اللذين كانا أدوات صدام حسين في الاستبداد والحكم الفردي. ففي تاريخ العراق الحديث كان الجيش دائماً قوة توحيد والضامن لاستقرار الدولة ووحدة أراضيها. وهو في الواقع المؤسسة الوحيدة التي يمكن اعادة احيائها بتأييد من كل العراقيين. وكان الملك فيصل الأول ينظر الى الجيش على انه العمود الفقري في بناء الدولة. وحين تمت سيطرة الحكومة العراقية عام 1933 على البلاد بعد انسحاب بريطانيا رفع الملك فيصل عدد أفراد الجيش من 7500 الى 11500، وكان هذا العدد ظل ثابتاً منذ عام 1925. وكم يبدو البون شاسعاً بين هذا العدد وبين الجيش المؤلف من مليون جندي الذي حارب العراق طوال ثماني سنوات وخاض حربين ضد تحالف بقيادة اميركا. لقد خضع ضباط الجيش لتصفيات متكررة سواء عام 1958 حين قامت الثورة ضد الملكية أو في عام 1963 حين جاء حزب البعث الى الحكم، أو في عام 1968 حين أصبح صدام الرجل القوي في البلاد. لكن المؤسسة ظلت قائمة على رغم كل هذه التطورات، ولا شك ان معظم العراقيين سيرحبون اليوم، وبعد ما لاقوه من عذاب خلال ال25 سنة الماضية، بعودة جيش عراقي منضبط تحت قيادة جديدة مصممة على إعادة الاستقرار وانقاذ الدولة. ومن المؤكد والحالة هذه ان أحداً لن يفكر بالتعرض لهذا الجيش. قد يكون هذا، من وجهة النظر الاميركية، السبيل الأفضل لحفظ ماء الوجه واجراء انسحاب نظامي لقواتها... وسيكون اسهل على اميركا ان تفاوض الجيش العراقي من ان تفاوض الميليشيات وان تحيل السلطة الى حكومة عراقية يدعمها الجيش، بدلاً من التفاوض مع حكومة عملاء معينين من جانب اميركا نفسها. يعتقد بعض المراقبين بأن هناك زعامة سياسية - عسكرية قائمة فعلاً في الظل، لا تدين بالولاء لصدام حسين... وهي مؤلفة من ضباط شباب أصغر سناً، ومن الناشطين الحزبيين من الصف الثاني، وهذه المجموعة مستعدة للتفاوض مع الولاياتالمتحدة للوصول الى حل مشرف. واذا ما استمرت اميركا في تجاهل مثل هؤلاء الرجال وفي السعي الى تحقيق"انتصار"عسكري فقد يعني ذلك بقاءها شهوراً وربما سنين من المعاناة في العراق. اما اذا عقدت معهم اتفاقاً قد يؤدي ذلك الى وضع الحكم بين يدي"رجل قوي"جديد. وقد يكون ذلك هو الثمن المقبول لوقف الانزلاق الحالي نحو الهاوية. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.