سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قصة ظهور "المحاور" اليهودي رفائيل فلاح في ايطاليا ... و"حمى" المطالبة بملايين الدولارات مقابل طي "صفحات سود". لماذا تعرض ليبيا تعويض اليهود على رغم انها غير مسؤولة عن تهجيرهم ؟
ارتفعت اخيراً وتيرة الحديث عن ملف تعويضات اليهود من اصول ليبية عما فقدوه من ممتلكات لدى هجرتهم الى اسرائيل، وذلك في شكل يشير الى ان شيئاً ما سيتحرك على هذا الصعيد. وكان آخر ما استجد، تصريحات اطلقها سيف الاسلام نجل العقيد معمر القذافي الذي يبدو مكلفاً العلاقات العامة في نظام والده، وذلك خلال زيارته لقطر في 22 آذار مارس الماضي. ونقلت الصحف القطرية عن القذافي الابن قوله: "قد يحدث ان نفتح ملف التعويضات الليبي لليهود الذين تمت السيطرة على اموالهم واملاكهم لأنهم ليبيون وقد يتم تعويضهم...". ويأتي ذلك بعد بضعة ايام من مقال في صحيفة "صنداي تلغراف" البريطانية المرموقة يتحدث عن "استعداد اليهود الليبيين المهاجرين لرفع دعوى تعويضات قيمتها ملايين عدة من الجنيهات الاسترلينية ثمناً لممتلكاتهم التي صادرتها ليبيا". ولا يفوت كاتب المقال الاشارة الى ان ذلك يأتي بعد اعلان العقيد القذافي انه "على استعداد للنظر في دفع مبالغ مالية لانهاء خصومات تاريخية"... وهو النهج الذي اتبعته طرابلس الغرب في محاولتها تصفية ملفات "ثقيلة" اخيراً. وفي هذا السياق، ظهر اليهودي - الليبي رافائيل فلاح، معرباً عن اعتقاده بأن "العقيد القذافي جاد ومخلص في قضية التعويضات"، مضيفاً: "علينا عدم الانتقاص من شجاعته القذافي وجرأته في اتخاذ القرارات... ونطالب اليهود واصدقاءنا في بريطانيا واميركا بألا يثيروا اي استفزازات". واللافت في هذا التصريح ان فلاح الرئيس المشارك للمنظمة العالمية لليهود من اصل عربي، لم يبد مدافعاً عن العقيد القذافي فحسب، بل ايضاً قدم نفسه محاوراً للسلطات الليبية عن الجانب اليهودي. كما لو ان علاقته بالليبيين لم تنقطع، فضلاً عما تردد عن لقاء سيف الاسلام القذافي قبل اشهر مع مسؤولين اسرائيليين بفضل ترتيبات قام بها وسيط فلسطيني معروف. "ان القذافي مؤهل لفعل كل ما هو غير متوقع". هذه "المقولة" جاءت على لسان اليهودي - الليبي الاصل رفائيل فلاح في معرض حديثه عن العقيد معمر القذافي وتحليله لشخصيته. ومناسبة الكلام عن فلاح، تأتي في سياق ما يمكن وصفه ب"الحوار" المستمر وان في شكل متقطع ومختلف الوتيرة، علني حيناً وسري احياناً، بينه وبين طرابلس الغرب منذ عودته "المعلنة" للمرة الاولى في مطلع التسعينات الى العاصمة الليبية التي غادرها عام 1948. وفلاح المقيم في صورة دائمة في إيطاليا و"الصديق الحميم" لعدد كبير من الليبيين المقيمين في الخارج، هو ايضاً الذي نظم عام 1992 رحلة ل"اللجان الثورية" لزيارة القدس وبيت المقدس "تعبيراً عن سخط العقيد واحتجاجه" على انصياع الحكومات العربية للعقوبات الأميركية وقبولها بتطبيق تلك العقوبات الناجمة عن قضية "لوكربي" في اطار الحظر الجوي الدولي على الطائرات الليبية. ويحتفط فلاح حالياً بعلاقات جيدة ومتميزة ومتنامية مع الأوساط الليبية الحاكمة، ما يجعله على دراية دقيقة بشخصية القذافي الاب ويمكنه من معلومات مدروسة لا يمكن أن تتوافر الا ليهودي مسيّس وذكي مثله، أو لدوائر متخصصة في دولة اسرائيل. دراية اليهود بالعرب! والى جانب فلاح، هناك يورام ابيب "رئيس اتحاد اليهود الليبيين" الذي ابدى رغبته في تشكيل وفد "لزيارة القذافي ومتابعة قضية التعويضات والدفع بها قدماً". وله تعليق مثير في هذا السياق يقول فيه: "نحن اليهود الشرقيين من اصل عربي نفهم العالم العربي وعقلية زعمائه". ولم يكن السيد فلاح او "رفائيلو" كما ينطق الإيطاليون اسمه، ذا شأن ولا شخصية بارزة في أوساط يهود ليبيا قبل عهد القذافي، وإنما عرضت صورته وبرزت شخصيته، بعد اتصاله "بشخصيات ليبية معارضة" في ايطاليا سنة 1974، ثم عندما دعته هذه الشخصيات نفسها للحاق بها في مصر، للتشاور معه باعتباره، هو الآخر "معارضاً ليبياً". فاسترعى انتباه العقيد القذافي، وسعى الى التعرف إليه والانتفاع من علاقاته التي أخذت حينذاك تتسع وتتعمق بالليبيين في الخارج منذ 1969... بعد أفول نجم المحامي اليهودي الليبي المعروف السنيور حبيب الذي كان واحداً من أبرز اليهود الليبيين المسيّسين في روما والذي كانت تقول عنه الاشاعات انه على اتصال جيّد ووثيق بإسرائيل. يهود ليبيا قبل اسرائيل سكن اليهود في ليبيا منذ أقدم العصور، أي قبل وصول الفاتحين العرب والمسلمين الى شمال افريقيا لنشر الاسلام. وكانت ملكة الأوراس الأمازيغية البربرية، التي يذكرها المؤرخون العرب باسم "الكاهنة"، يهودية الديانة شأنها شأن قسم كبير من رعاياها وأتباعها، ولعل هذا ما يفسر مقاومتها الضارية للفتح الإسلامي الذي جاء يدعوها الى التوحيد وهي اساساً موحدة! لكن "الأمازيغ الوثنيين" من خارج مملكتها هم الذين لعبوا الدور الحاسم في هزيمتها بعد دخولهم في الإسلام وانضمامهم الى القتال في صفوف جيوشه. ومنذ عهد "الكاهنة"، عرفت ليبيا اليهود الذين يرجح أنهم من بقايا اتباعها الذين بقوا على دينهم اليهودي. ووفدت بعد ذلك، مجموعات يهودية أخرى من الذين طردوا مع العرب من الأندلس، وعاشوا فترة في أقطار المغرب، ثم حط بعضهم الرحال في طرابلس وبقية مدن الساحل الليبي، وتجمعوا في أحياء خاصة، تسمى حتى الآن "حارات اليهود". وحرصوا على الاحتفاظ بلهجتهم العامية المغربية، على خلاف الآخرين من يهود ليبيا الأصليين، المقيمين منذ القدم في سائر القرى والمدن الليبية مثل: زواره والزاوية ومصراته وسرت وجبل نفوسه وغيرها، والذين يتحدثون بلهجات بقية السكان الليبيين، ولا علاقة لهم باللغة العبرية إلا في ما يحتاجونه من اليسير الذي يؤدون به شعائر الدين. واليهود الليبيون الأصليون وكذلك الوافدون من الأندلس والمغرب الكبير، لا يختلفون في شيء عن بقية الليبين من حيث الطباع والشخصية والعادات والتقاليد الاجتماعية والفنون الشعبية وأغاني الأفراح واللباس والأكل، مما جعلهم على مدى العصور يتعايشون مع بقية مواطنيهم المسلمين في وئام وسلام ومن دون أي فوارق أو خصوصية متميزة. وعرف اليهود الليبيون في غالبيتهم بالزهد في التعليم والتفرغ للتجارة والتخصص في الحرف اليدوية والمهن الصغيرة والأشغال المتواضعة، وبالبعد عن الاهتمام بالسياسة والشؤون العامة وإن كانت أعداد منهم قد انجذبت للعمل الوطني وانضمت للاحزاب السياسية، بعد خروج "الطليان" ومجيء الادارة البريطانية عام 1943 وقيام الأحزاب السياسية وتوجه الليبيين نحو العمل الوطني من أجل الحصول على الاستقلال وإنشاء الدولة الليبية. وشارك السيد زاكينو كبيب أحد كبار يهود طرابلس الغرب في تأسيس أول حزب سياسي في ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية، هو "الحزب الوطني". ولا يزال هناك من يتذكر مشاركاته الخطابية باللهجة الليبية العامية في الاجتماعات العامة التي كان يعقدها الحزب لتوعية الشعب والدعوة للاستقلال والتبشير بمستقبل ليبيا الحر. لكن ظهور قضية فلسطين على مسرح الأحداث في العالم، وتطور النزاع بين اليهود والعرب، ووقوع الأحداث الدامية في فلسطين قبل قيام الدولة العبرية، ذكّرت الليبين، وبخاصة البسطاء والعامة منهم، بوضع اليهود في ليبيا وعلاقتهم باليهود في اسرائيل، وانعكست تلك الأحداث الدامية على الليبيين فأخذت مشاعر العداء والكراهية تظهر في أوساطهم الشعبية، وتترسخ ضد كل اليهود. ويبدو ان سلطات الاحتلال البريطاني في طرابلس الغرب وبنغازي انتبهت لذلك، فعملت على تغذية مشاعر العداء والارتياب بين المسلمين واليهود. ثم دُبّرت سنة 1946 تلك الأحداث الدامية التي جرى فيها الاعتداء بصورة عنيفة على اليهود، ذهب ضحيتها عدد مهم منهم، ونهبت متاجرهم وأضرمت النيران في مساكنهم. وزاد من اتساع هذه الأحداث وحجم أضرارها، عدم تدخل الإدارة البريطانية في شكل سريع وتقاعسها عن المبادرة العاجلة للسيطرة على الشغب وفرض الأمن والنظام، إلا بعد أسبوع كامل من تفجر الأحداث التي تسببت في حدوث شرخ عميق في علاقة الوئام التاريخية بين عموم الليبيين واليهود. وسرعان ما استغلت "الوكالة اليهودية العالمية" ذلك، وبادرت، للمرة الأولى، بالاتصال، تحت رعاية الانكليز وتشجيعهم، بأعيان اليهود في بنغازيوطرابلس الغرب وتحذيرهم من مغبّة البقاء في ليبيا وتحريضهم على الهجرة الى فلسطين. وبالفعل نجحت الوكالة بمساعدة الادارة البريطانية أيضاً، في تهجير نحو أربعين ألف شخص، خلال أقل من أربع سنوات، بواسطة البواخر التي كانت تتوافد على موانئ طرابلس الغرب وبنغازي وتنقل اليهود الليبيين الى فلسطين. اسباب مصادرة الممتلكات بعد صدور قرار الأممالمتحدة القاضي باستقلال ليبيا، وعند تطبيق القرار والاجراءات الخاصة بتسليم السلطة لليبيين والشروع في إعلان الدولة المستقلة مطلع خمسينات القرن الماضي، لم يعتبر الليبيون، عند وضعهم للدستور، "اليهود" الذين بقوا في ليبيا وحضروا اعلان الاستقلال "أقلية عرقية"، لها وضع خاص أو حقوق متميزة، بل اعتبروهم "مواطنين ليبيين" شأنهم في ذلك، شأن بقية المواطنين، إذ حصلوا على أوراق الهوية الشخصية وجوازات السفر، ولم يشعر أي منهم بمعاملة خاصة أو حرمان من أي حق من حقوق المواطنة. إلا ان الأفراد الذين غادروا ليبيا بعد إعلان الاستقلال وسافروا سراً الى اسرائيل ولو لمجرد الزيارة، عوقبوا من جانب الحكومة الليبية آنذاك باتخاذ قرار يقضي بعدم السماح لهم بالعودة، ووضع ممتلكاتهم وأراضيهم تحت الحراسة. وأنشئ لهذا الغرض مكتب خاص وحارس عام، وذلك ما حدث على سبيل المثال مع رجل الأعمال المعروف اليهودي "حجاج" الذي زار اسرائيل سراً، وعندما اكتشفت السلطات الليبية الأمر، لم تسمح له بدخول ليبيا، وفشل أصدقاؤه المسلمون في التوسط للسماح له بالعودة! وتوقف مشروعه المهم الخاص ببناء دار للأوبرا في طرابلس الغرب، مكان "مسرح الميرامار" بعدما اشترى الأرض وهدم المبنى القديم، لكي يدشن وشركاؤه مشروع المبنى الذي وضع تصميمه مهندسون ايطاليون كبار، لكن "هذا المشروع الحضاري" لم ير النور بعد ذلك. وعاش بقية اليهود، من الذين لم يسافروا الى اسرائيل في سلام. ولم يصبهم أي مكروه، بل تحسنت احوالهم المادية وتنامت تجارتهم واتسعت وتنوعت مجالاتها بسبب الازدهار الاقتصادي الذي سببه ظهور النفط ونجاح مخططات التنمية الحكومية والرخاء الذي عم البلاد في عهد المملكة. ودخل تجارهم، الكبار والصغار، في شراكات واسعة ومتنوعة مع بقية الليبيين. وعرفت بين اليهود الليبيين، شخصيات بارزة، اشتهرت بالاستقامة والأمانة والخلق الطيب والحرص على الانتماء الحقيقي لليبيا وليس لاسرائيل، حتى ان كثيراً منهم كان في مقدم الشخصيات النشطة التي كان لها نشاط فاعل في جمع التبرعات للمؤسسات والمشاريع الخيرية، بل انهم جمعوا التبرعات لمصلحة المتضررين من حرب حزيران يونيو 1967 في الأردن ولبنان والضفة الغربية المحتلة. ومن بين هذه الشخصيات فيتوريو حداد ويوسف حسان المصراتي وإيليا ادغورنو وألفونسو بردى. تداعيات "النكسة" واللجوء الى ايطاليا لكن "مؤامرة دولية" دبّرت بدهاء وإتقان خطير، واشتركت في تنفيذها أوساط رسمية ايطالية وجهات أميركية متخصصة في التآمر على المنطقة لمصلحة اسرائيل، استغلت هيجان المشاعر ورد الفعل في أعقاب الهزيمة العربية في حرب 1967، فحركت "تظاهرات بعناصر غوغائية مجهولة" انطلقت تضرم النيران في ممتلكات اليهود وتنهب متاجرهم وتقوم بالاعتداء عليهم بعنف وشراسة اضطرت معه حكومة السيد حسين مازق الى الاسراع في تجميع الأفراد والأسر اليهودية من معظم المدن ووضعها في معسكرات تحت حراسة أمنية مشددة، ثم فوجئ الناس بأسطول من "طائرات أليطاليا" يقوم - على عجل - بنقل هذه الأسر تباعاً، الى روما حيث وضعوا في مراكز إيواء موقتة تمهيداً لنقلهم الى اسرائيل. إلا أن عدداً كبيراً من هؤلاء اليهود المرحّلين قسراً الى روما، رفض السفر الى اسرائيل، وأصر على العودة الى ليبيا بمجرد استتباب الأمن وعودة النظام. واكتشفنا من اتصالاتنا الصحافية بالكثير منهم آنذاك، بأنهم أخذوا على غرة، وأوهموا من طريق ممثلي السفارة الايطالية والمتعاونين معهم من "عناصر يهودية ايطالية" بأن حياتهم وحياة أسرهم في خطر ما لم يركبوا الطائرات الى ايطاليا. واكد هؤلاء لهم عجز السلطات الليبية التام على حمايتهم وضمان سلامتهم الشخصية، وموافقة الحكومة الليبية ذاتها على ترحيلهم الى ايطاليا، بصورة موقتة، نتيجة تطور الأحداث في الشرق الأوسط والانفلات الأمني في ليبيا. ومع ذلك، أصر معظمهم على عدم الانتقال من روما الى اسرائيل، وبقوا في إيطاليا حتى الآن، وأخذوا يترددون بعدما هدأت الأمور على السفارة الليبية، مطالبين بتمكينهم من العودة السريعة الى بلادهم، والى دورهم ومواقع أعمالهم، إلا أن وقوع الانقلاب العسكري في الأول من أيلول سبتمبر 1969، أحبط همم اليهود المهجرين وأثار المخاوف والشكوك في نفوسهم من العودة الى البلاد بعد الانقلاب وأيلولة السلطة الى ايدي العسكر والمستقبل الغامض الذي ينتظر البلاد. "فلسطين من النهر الى البحر" وكان العقيد القذافي أعلن غداة نجاح الانقلاب أن الهدف من الاستيلاء على السلطة هو الرد الايجابي والحاسم على الهزيمة العربية، وأن "تحرير فلسطين من النهر الى البحر"، وتحقيق الوحدة العربية الشاملة، وقومية المعركة ضد اسرائيل هي المبادئ الأساسية لثورة الفاتح من سبتمبر. عندها أخذ اليأس يستولي على نفوس اليهود الليبيين من العودة الى ما كانوا يعتبرونه بلادهم، فهاجر بعضهم الى كندا وهاجر آخرون الى الولاياتالمتحدة، وبقيت الغالبية منهم في إيطاليا، حيث وجدت اسرائيل الفرصة متاحة والسبيل ميسّراً للاتصال بمن يريد منهم... وهنا ظهر اليهودي الشاب رفائيلو فلاح على المسرح، وأخذ نجمه في الصعود وعلاقاته بالليبيين الجدد تتسع وتتوطد حتى أصبح الآن من أقرب القريبين ل"ثوار الجماهيرية" في طرابلس الغرب وسرت. تقويم ممتلكات اليهود يقدر عدد اليهود الذين رفضوا الهجرة وبقوا في ليبيا بعد اعلان الاستقلال سنة 1952 بنحو سبعة آلاف شخص، بينهم من كان يحتفظ بصلات انتماء قبلي كما هي الحال بالنسبة الى عائلات بادوسّا الثرية، التي اشتهرت بانتسابها لقبيلة العواقير في برقة وأسرة حسان التي تفاخر بانتسابها الى قبيلة "يدّر" ذات الأصول البربرية في مصراته. لكن ثرواتهم وأملاكهم لم تكن بالحجم الذي يلفت النظر او كما تقدّره الآن بعض "المصادر الرسمية الليبية" التي اثارت "مشكلتهم" بعد إعلان العقيد القذافي المفاجئ نيته تعويض اليهود الذين غادروا ليبيا. في سنة 1968، درست الحكومة الليبية التي كان يترأسها عبدالحميد البكوش مع بنك ليبيا المركزي اقتراحاً برفع القيود عن تداول الجنيه الليبي، لعدم الحاجة الى تلك القيود بعد تدفق النفط وازدهار الاقتصاد الليبي الذي رفع من قيمة الجنيه حتى اصبح يساوي يومها اكثر من ثلاثة دولارات. وعارض مدير البنك المركزي، الأستاذ علي جمعة المزوغي، وهو خبير مصرفي متمكن، هذا الاقتراح، وقال إن رفع الرقابة على العملة وتحرير الجنيه، سيمكن من تبقّى من الرعايا الأجانب والإيطاليين واليهود الليبيين من تهريب ونقل اموالهم الى ايطاليا في الساعات ال24 الأولى بعد صدور القرار. فتساءل البكوش: وكم هي اموال وقيمة ممتلكات اليهود والأجانب في ليبيا؟ فأجاب مدير بنك ليبيا المركزي بأنها نحو 30 مليون جنيه تسعون مليون دولار. فقال البكوش: ليكن ذلك، وليخرج اليهود والأجانب بأموالهم من ليبيا، طالما كانت ثقتهم في البلاد مهزوزة وولاؤهم مشكوكاً فيه. وصرفت الاستقالة المفاجئة للبكوش، بعيد ذلك، النظر عن الاقتراح. والهدف من ذكر هذه "الواقعة المصرفية" القديمة واقتراح البكوش بالنسبة الى تحرير العملة الليبية ورفع القيود على الجنيه الليبي، الإشارة الى حجم اموال اليهود والأجانب في ليبيا، بحسب تقديرات بنك ليبيا المركزي سنة 1967. خمسة يهود بقوا بعد الانقلاب! عندما استولى العقيد القذافي على السلطة في الأول من ايلول 1969، لم يجد في البلاد، من يهود ليبيا، بعد مؤامرة التهجير الدولية، السالف ذكرها، إلا خمسة اشخاص، بينهم: التاجر، الطاعن في السن، السيد "تمّام" الذي رفض ان يخرج من ليبيا وأقسم الا يموت خارج ترابها. واحد الشبان من اسرة حسان المصراتية، ألقى الانقلابيون عليه القبض ووضعوه في السجن، مع جموع السياسيين والمعتقلين من مسؤولي العهد الملكي ووجهاء البلاد، ولبث في السجن سنتين، قبل ان يكتشفوا خطأ اعتقاله وعدم وجود ما يبرر بقاءه داخل السجن اكثر من ذلك. اما العجوز "تمام" فإنه بالفعل لم يبرح ليبيا، ولم يتحرك الى اي جهة خارجها، حتى تحققت "امنيته" ومات على ترابها بعد ذلك ببضع سنين. وخلاصة "ملف" يهود ليبيا، يمكن ان يلخّص في التالي: ثلاثة ارباعهم او اكثر استدرجتهم "الوكالة اليهودية" وتولت "سحبهم" من ليبيا عندما كانت تحت ادارة الاحتلال البريطاني من 1946 الى نهاية 1951، اي قبل ان تتحرر البلاد وتقوم فيها حكومة وطنية وتصبح دولة مستقلة. والذين بقوا في عهد الدولة الليبية، وهم بضعة آلاف، ذهبوا ضحية مؤامرة تهجير قسري، دبّرها "الموساد" ونفذتها اطراف دولية معينة، وذلك في اعقاب حرب حزيران يونيو 1967، كما دبّرت بعدها بسنتين اثنتين "مؤامرة" الإطاحة بالنظام الملكي الدستوري الليبي. ولذلك، لم تكن امام العقيد القذافي مشكلة لليهود في ليبيا، وليس هناك ما يجبره على فتح ملف لمشكلة لا وجود لها في الأصل، وهي قضية "التعويضات" التي يتحدث الإسرائيليون عنها هذه الأيام. أما الملف الحقيقي الذي يجب ان يفتح، هو ملف عملية التهجير القسري لأربعة آلاف يهودي ليبي الى ايطاليا في حزيران يونيو سنة 1967 بعملية مشبوهة ومثيرة وغامضة اشتركت في تنفيذها اوساط اميركية وإيطالية. كيف حدث ذلك؟ ومن الذي دبّر المؤامرة؟ وما هو موقف الحكومة الليبية في العهد السابق مما حدث؟ وما هي ملابسات وتفاصيل هذا التآمر؟ من يعوض الليبيين؟ وهناك "ملف آخر" ينبغي ان تفتحه السلطات الليبية - بإرادتها الحرة - وتسوية محتواه بما يمليه الحق والعدل والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهو ملف المواطنين الليبيين المغتصبة ممتلكاتهم والمنهوبة اموالهم والواقعين ضحايا القمع من جانب عناصر اللجان الثورية والوافدين من الخارج، المعروفين في الأوساط الشعبية الليبية، ب"المازقرى" و"صاد شين" اي اولئك الوافدين من الصحراء الشرقية، ومن بقايا عمال المناجم في "الشننّى والمتلوى". جموع المرتزقة، غير المنتمين الى وطن، ولا الى "اسر معروفة او قبائل" ينتسبون إليها ويلتزمون تقاليدها الأخلاقية والاجتماعية ويخشون على سمعتها من المساس. اولئك المستعدون دوماً لارتكاب كل شيء من اجل الحصول على المال والمنافع الرخيصة. والمواطنون الليبيون، المغتصبة ممتلكاتهم والمنهوبة اموالهم بموجب القرارات الثورية الجائرة وشعارات "المنزل لساكنه" التي قصد بها الترويع وإذلال ذوي الكرامة والمكانة الرفيعة في المجتمع الليبي، هم الجديرون بالانتفاع بالتسويات المتتالية بعد تسوية قضية لوكربي وبقية ملفات الطيش الثوري، وبعد التصالح مع الأميركيين والإنكليز والإيطاليين و"الإمبرياليين" جميعاً! * ناشر صحيفة "الميدان" الليبية "المعطلة".