تعيش إيطاليا التي بذلت جهدا أكبر من أي دولة أخرى لإكساب ليبيا وزعيمها الزئبقي شرعية كابوسا على صعيد السياسة الخارجية؛ إذ تهدد الاضطرابات في مستعمرتها السابقة امدادتها من الطاقة وصورتها العالمية واستقرار بعض شركاتها الكبرى. وقال نائب رئيس معهد الشؤون الدولية في إيطاليا روبرت اليبوني «المخاطر بالنسبة لبلادنا كبيرة جدا». وكان قد ذكر في تقرير أخيرا أن على إيطاليا اتخاذ موقف واضح ضد القذافي وأن تستثمر في المعارضة، لكن روما تخطو خطوات محسوبة جيدا مدركة أنها ستكون أكبر الخاسرين بين الدول الأوروبية مع تطور الأحداث في ليبيا التي تبعد نحو 483 كيلو مترا عن الجزيرة الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا. قبل ستة أشهر، تودد رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني وغيره من المسؤولين للزعيم الليبي معمر القذافي فعاملوه كفرد من عائلة ملكية في زيارته الثالثة إلى إيطاليا خلال عامين. والآن، تم تعليق معاهدة الصداقة التي وقعت عام 2008م، والتي حظرت استخدام القواعد الإيطالية في أي عمل عسكري ضد ليبيا، في حين تبدو إيطاليا أنها تواجه صعوبة في تحديد سياستها تجاه ليبيا. وتروي الأرقام القصة، تستورد إيطاليا 80 في المائة من احتياجاتها من الطاقة ويذهب نحو 32 في المائة من إنتاج النفط الليبي إلى إيطاليا ليمثل 25 في المائة من وارداتها، كما تستورد إيطاليا نحو 12 في المائة من احتياجاتها من الغاز أيضا من ليبيا. وبموجب معاهدة الصداقة، وعدت إيطاليا بأن تدفع لليبيا تعويضا قيمته خمسة مليارات دولار تعويضا عن التصرفات المسيئة التي ارتكبتها أبان الاستعمار. وأنفقت ليبيا أموال النفط على حصص في شركات إيطالية، في حين فازت شركات إيطالية بعقود في قطاعي البنية التحتية والطاقة في مستعمرتها السابقة التي احتلتها منذ عام 1911 وحتى عام 1943م. وتتنوع شبكة المصالح التجارية بدءا من قطاعات البنوك، المنسوجات، السيارات، المقاولات، السكك الحديدية، الفضاء والطيران، وانتهاء بأندية كرة القدم. وكانت روما الضامن الفعلي لأن تلتزم طرابلس بالسلوك الحميد حين تم الترحيب بليبيا بحذر في المجتمع الدولي بعد نبذ الإرهاب والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. وفي حين أن زعماء مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ذهبا إلى طرابلس وأبدا عدم ارتياحهما للقذافي، فإن إيطاليا بذلت قصارى جهدها ووصفه برلسكوني بتعبير «صديقي الرائع». وقال جيان انتونيو ستيلا المعلق في صحيفة كورييري ديلا سيرا: إن على إيطاليا أن تشعر بمزيد من المسؤولية عن الخروج بنتيجة إيجابية من أزمة ليبيا؛ لأن روما كانت «تبجل وتتملق» القذافي حتى وقت ليس ببعيد. وحين تفجرت الاحتجاجات الشعبية في ليبيا، كان برلسكوني في حالة أقرب إلى الإنكار ربما لاستشعاره أن أسلوب العلاقات الدبلوماسية المعتمد على علاقته المباشرة بالقذافي فشل، لأن الزعيم الليبي عاد لعادته القديمة، وهي إهانة القوة الاستعمارية السابقة. وكتب المعلق السياسي السفير السابق سيرجيو رومانو يقول «في حالة القذافي، تمخض أسلوب برلسكوني الشخصي عن نتائج غريبة وغير محترمة»، مضيفا: كان علينا تحمل نزوات العقيد وتأخيراته، ففي عام 2009م لم يذهب إلى البرلمان لإلقاء كلمة أمامه، وإهاناته وملابسه العسكرية ونصب خيامه في متنزهاتنا». ومن الممكن أن يكون لسلوك روما آثار أبعد مدى على إيطاليا. وقال اليبوني من معهد الشؤون الدولية «يمكن أن يجازف التهور السياسي من قبل الحكومة بإثارة غضب ليبيا التي ستتمخض عنها الأزمة الحالية أيا كان شكلها، وستتعرض المصالح الوطنية لخطر شديد». وليس من المستغرب ألا تشجع إيطاليا فرض عقوبات على ليبيا، أو تجميد أصولها أو فرض منطقة حظر جوي. وأوضحت روما أنها لا تبحث تجميد الحصص الليبية في الشركات الإيطالية في الوقت الحالي. وتملك ليبيا حصصا في شركات إيطالية كبرى من بينها بنك يوني كريدي وشركة فينميكانيكا الدفاعية، ويخضع مصير حصصها للتدقيق منذ فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على ليبيا. ووافق الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي على تجميد أصول القذافي وقائمة من كبار المسؤولين الليبيين بعد أن استخدمت قوات الأمن الليبية العنف ضد المحتجين. وقال مصدر مطلع إنه بما أن هذه القائمة لا تتطرق لصندوق الثروة السيادية في البلاد أو المؤسسة الليبية للاستثمار أو البنك المركزي الليبي وهي كيانات لها حصص في شركات إيطالية، فان روما لا تعتزم تجميد الحصص. والسؤال هو: أين تنتهي أصول القذافي وعائلته وأين تبدأ أصول ليبيا؟. وقال المعلق ستيفانو ليبري في صحيفة لا ستامبا «المشكلة أنه في النظام الشمولي اليوم، كما كان الوضع في الملكيات المطلقة في العصور الوسطى، من الصعب التفريق بين الممتلكات الشخصية لأصحاب السيادة وممتلكات الدولة». وكانت دول أوروبية أخرى أكثر صرامة في ملاحقتها للأصول المرتبطة بالقذافي وكبار مساعديه. وفي الأسبوع الماضي قالت شركة بيرسون البريطانية للنشر إن حصة المؤسسة الليبية للاستثمار بالشركة ونسبتها 3.2 في المائة جمدت نتيجة العقوبات في حين وسعت النمسا من نطاق قائمة لتجميد الأصول لتضم مسؤلا كبيرا بالمؤسسة. ومما يصعب موقف إيطاليا مع ليبيا احتمال حدوث موجة للهجرة غير المشروعة أسوأ من تلك التي شهدتها فترة أوائل التسعينيات بعد انهيار الشيوعية في ألبانيا. وأوضحت ايمانويلا باوليتي من المعهد الدولي للهجرة في جامعة اوكسفورد «التناقض بين الواجب الأخلاقي ودعم الديمقراطية والمكاسب السياسية شديد؛ بسبب الخوف من عواقب سقوط القذافي». في عام 2009م وقعت روماوطرابلس اتفاقا يسمح لقوات خفر السواحل الإيطالية بإعادة أعداد كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا. وقبل ذلك التاريخ كانت ليبيا نقطة الانطلاق للهجرة غير المشروعة من أفريقيا، وأوضح القذافي أنه يستطيع أن يخرج المارد من القمقم مرة أخرى إذا أراد. وقال لصحيفة جورنال دو ديمانش الأحد «إنه إذا سقط فستكون هناك هجرة الآلاف من ليبيا.. سيغزون أوروبا.. لن يكون هناك أحد لمنعهم».