في الساعات الأولى وما تلاها من أيام قليلة جداً لسقوط بغداد الذي مهّد أمام قوات التحالف الأميركية والبريطانية احتلال العراق حتى يومنا هذا، كانت كلمات محمد الدوري تقتصر على عبارة "انتهت اللعبة"، ومحمد الدوري الذي كان يترأس بعثة العراق في الأممالمتحدة احتل معظم الشاشات والفضائيات للتصريح حول الأحداث والمستجدات. ولم يكن في ادلاءاته المتتالية ما يساعد المشاهد على شفاء غليله في متابعة انهيار بلد عربي. وفي كتاب عنوانه "انتهت اللعبة" صادر عن المركز الثقافي العربي - بيروت - حوار طويل أجراه جورج فرشخ مع الدوري في تسعة فصول. يقول الدوري: "لم أكن غير شاهد صدفة شاء القدر أن يضعه على المسرح الخارجي للأحداث، لقد ولدت في العام 1942 لعائلة متواضعة في قرية صغيرة فقيرة الموارد ومعزولة نسبياً هي قرية "الدور" الضاربة في القدم على الضفة اليمنى لنهر دجلة بامتداد مدينة سامراء، أنهيت التعليم الابتدائي في قريتي، بعدها أكملت المرحلة المتوسطة للتعليم في سامراء وفيها بدأت ارهاصات العمل السياسي تأخذ طريقها الى نفسي من خلال الصراع القائم بين ثلاثة تيارات يقودها المدرسون وهي: التيار الإسلامي، والتيار العروبي، والتيار الشيوعي. بعدها انتقلت الى بغداد للدراسة الثانوية والجامعية تجلّت وقتها ميولي الى الفكر العروين، والتيار الشيوعي. بعدها انتقلت الى بغداد للدراسة الثانوية والجامعية تجلت وقتها ميولي الى الفكر القومي البعثي، حيث قادني الى السجن لألتقي فيه بعدد من الشخصيات البعثية والإسلامية، وكانت تجربتي الأولى والأخيرة مع السجن، أنهيت دراستي في كلية الحقوق جامعة بغداد عام 1964، وفي 1967 حصلت على منحة من وزارة التربية الى فرنسا لإكمال الدراسة العليا وهناك كانت تجربة غنية لثورة الشباب التي عمّت فرنسا، بعد عودتي من العراق عملت كمدرّس للقانون والسياسة في جامعة بغداد ثم تدرّجت في المناصب الإدارية الى منتصف عام 1998، حيث نقلت الى وزارة الخارجية بدرجة سفير، في تلك الأثناء تعرّفت عن قرب الى ميدان حقوق الإنسان، وعلى رغم نبل هذه الحقوق بدأت أدرك كيف تُستغل لتحقيق أغراض سياسية دولية، ولم تكن الفترة التي قضيتها في الكلية من دون مشاكل مع بعض رموز السلطة، وقد مورست ضغوط كبيرة عليّ. أما كيف أصبحت سفيراً فقد حضر سكرتير رئيس الجمهورية الفريق عبد حمود، وقال: ان الرئيس القائد قد أصدر أمر تعييننا". ومن خلال استقراء الفصول التسعة التي تعددت فيها الأسئلة بأساليب مختلفة بين المحاورة والمناورة، نجد أن الإجابة عن استطراداتها واسترسالاتها الإنشائية أحياناً والخطابية أخرى لم تكن تملك غير المحتوى نفسه، ولم تخرج عن سياقها الديبلوماسي العام الذي يكاد يخلو حتى من علامات الترقيم، تماماً كما يفتقر الى الحد الأدنى من ملامح الكشف للوقوف على حل يُذكر للغز حيّر المتتبع لسيرورة الأحداث وتصاعدها الدرامي العصيب، ويمكن أن نذهب بعيداً في استنتاج ما بعد قراءة 280 صفحة، ان الكتاب "انتهت اللعبة" لا يقدم أكثر من كل ما قيل ويقال تباعاً على لسان كل مواطن عراقي وعربي حتى اليوم عبر الوسائل الإعلامية كافة منها المقروء والمسموع والمرئي، باطراد تام مع مشافهات التحليل الدائر باستمرار بين شرائح المجتمع في عموم المنطقة العربية على اختلاف مناهجها ومشاربها وتياراتها، وكأن محمد الدوري، كان لاعب احتياط لا أكثر، لم يتح له حتى مجرد الدراية، فكل ما جاء في الكتاب إما عرض للأحداث، أو محض تحليلات واجتهادات شخصية، أو نفي واستئناف، وكأنه يؤكد في كل صفحة ما جاء في التمهيد على لسان الدوري "لم أكن غير شاهد صدفة"، وربما تستطيع السجالات المفتوحة هنا أن تعطي في شكل أوضح ما يمكن الإشارة اليه. فرشخ: كيف كان رد فعلك؟ ماذا فعلت؟ الدوري: في ذلك اليوم، وكان الوقت ليلاً في نيويورك، كنت أتابع تطورات الموقف على شاشات الفضائيات العربية والأجنبية. أتذكر ليلتها لم يغمض لي جفن، ولم أتمكن من النوم طوال فترة العدوان إلا لماماً. فرشخ: طبيعي! معظم العرب، في كل مكان لم يناموا. وأنت في موقع المسؤولية! الدوري: كنت أعيش الحدث بكل جوارحي، كنت أنتظر بفارغ الصبر اخبار بغداد، كما كان يشغلني كيفية التحرّك في مجلس الأمن فرشخ: كنت تعرف الوضع المتردي الذي بلغه الجيش العراقي، ومع ذلك كنت تتصور ان بوسعه أن يتصدّى للجيشين الأميركي والبريطاني؟ الدوري: ما أوردته لا يخرج عن اطار التحليل الشخصي وهو ما كنت أفكر فيه آنذاك. فرشخ: عندما شاهدت الدبابات الأميركية في ساحة الفردوس قلت ان "اللعبة انتهت"، ونتيجة كلامك، ونتيجة التحليل الذي قدمته، أرى ان اللاعب الأكبر هو صدام حسين! الدوري: أنا لا أعتقد بأنه كان اللاعب الأكبر. فرشخ: هل شعر المواطن العراقي بأنه لا يستطيع أن يقاوم أم انه لم يكن يريد أن يقاوم رغبة منه في ألاّ يحمي النظام؟ الدوري: لا أستطيع أن أتصوّر ولو للحظة ان العراقي لا يستطيع أو لا يريد أن يقاوم، ولا أعتقد بأن المواطن العراقي كان شديد الاكتراث بما كان يمكن ان يحصل للقائد بقدر ما كان شديد الاكتراث للوطن، إذ لا يجوز بكل المعايير، ولأي سبب للرئيس أو للقيادة السياسية العسكرية أن تختفي فجأة وتترك الشعب مذهولاً لا يعرف مصيره، وهذا ما حدث فعلاً، وهذا ما يجب أن نعرف كيف حدث؟ ولماذا؟ يمكن أن نقرأ كلام محمد الدوري على أنه تأريخ من بعيد على صعيد المعلومات وتأريخ من قريب على صعيد العواطف الوطنية، وقد احتل الرجل وهو يشهد من نيويورك انهيار النظام الذي يمثله صورة الموظف الشهير الذي بقي يقوم بدوره في اللعبة حتى اللحظة الأخيرة ونهاية اللعبة.