لم يحدث ان أثار فيلم سينمائي جدلاً كالذي يثيره منذ فترة فيلم "آلام المسيح" للممثل والمخرج الاسترالي ميل غيبسون في الأوساط الفنية والاعلامية والاجتماعية الاميركية. كبريات المجلات الاسبوعية تستكتب مؤرخين ولاهوتيين ومحللين بارزين وتخصص أغلفتها للفيلم. شبكات التلفزيون الرئيسية تفرد له برامج ومناظرات. وجماعات الضغط اليهودية تجند أشرس الناطقين باسمها للنيل من الصدقية التاريخية للفيلم ووصمه بمعاداة السامية، فيما يتوافد الاميركيون بالملايين لمشاهدته، ويخرجون كأنهم يكتشفون كنه الديانة المسيحية للمرة الأولى. لا مبالغة في القول ان مقداراً كبيراً من الترقب لمشاهدة الفيلم والنجاح الذي يحققه، يعود الى الجدل الذي أثير حوله قبل عرضه في الصالات التجارية، والذي بلغ حد مطالبة بعض المنظمات اليهودية بمنعه، بحجة أنه "يحمّل اليهود مسؤولية قتل المسيح ويشوّه الحقائق التاريخية". ولا عجب في ان تثور ثائرة الأوساط اليهودية في الولاياتالمتحدة عموماً، وفي هوليوود خصوصاً، اذ ان الفيلم خرج عن تقاليد مرسخة بإحكام منذ عقود، وتجاوز خطوطاً حمراً كثيرة في الصناعة السينمائية الاميركية التي غالباً ما تعاملت مع التاريخ كمادة قابلة للرشوة، وروجت لمآرب الأطراف النافذة فيها. يروي الفيلم وقائع الساعات الاثنتي عشرة الأخيرة من حياة السيد المسيح، ويركز على الحيثيات التاريخية والتجاذبات السياسية والمعاناة النفسية التي أحاطت بمقتله، اكثر من التركيز على تعاليمه وقيامته. ويصوره ضعيفاً وحائراً وخائفاً ومشككاً، وفي عذاب لا يطيقه بشر يواجه جلاديه والجموع بنظرات الرأفة وعبارات التسامح. لكن اذا كان الرومان هم الذين يجلدون مسيح غيبسون ويهزأون منه ويتحدونه، فالمواجهة هي بينه وبين كهنة اليهود الذين يسخرون من ادعاءاته ويرفضون أي مساومة تحول دون قتله. ويتبدى بوضوح ان الفيلم يقدم عبرة مفادها ان المسيح الخائف والمهزوم هو الذي رفض المساومة واختار الاستشهاد في سبيل رسالته التي كتب أول فصول انتصارها بتضحيته. كثيرة هي الأسئلة التي يخرج بها الاميركيون من مشاهدة هذا الفيلم الذي يعترف كثيرون بأنه نقطة تحول في مسيرتهم الدينية والاجتماعية... والسياسية. ولا يخفى على أحد ان مسيح غيبسون لا يثير النقمة على قتلته، بمقدار ما يثير النقمة على الظلم، وعلى القوي المتمادي في غيّه على الضعيف، ويسلط ضوءاً حميماً على قراءة ما يجري في المنطقة التي كانت مهداً له.