لا يقصد بالأخلاق في ميدان السياسة حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة، ولكن أساساً تلك العلاقة الشائكة بين الهدف السياسي والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التي تعترض أصحاب غاية سياسية عند اختيارهم وسائل نضالهم: هل يستندون الى محتوى الغاية ومشروعيتها أم الى قيم أخلاقية عامة ؟! وبالتالي، ما صحة القول بأن عدالة أو مشروعية أي قضية تبيح عند أصحابها استخدام ما يحلو لهم من وسائل إجرامية تتنافى مع خير ما راكمته البشرية من قيم ومثل؟!. أعادت الجريمة البربرية البشعة لاغتيال الشيخ أحمد ياسين، وأنين ضحايا العمليات الإرهابية من المدنيين في أسبانيا، وجو القتل المحموم في الحال العراقية وبينها صور التمثيل بجثث أميركية محترقة في الفلوجة، هذه المعضلة الى دائرة الجدل الساخن، بين من يغفر، أو لنقل يتفهم، اللجوء الى مثل هذه الأساليب الهمجية لنصرة قضية يجدها مشروعة وعادلة وبين قائل بأن طريق القتل والعنف مسدودة ومليئة بالآلام والنكبات مهما تكن الغاية نبيلة وسامية، مشدداً على أهمية الأسلوب المدني الديموقراطي بوصفه وجه النضال الحقيقي والمجدي للتخلص من قوى الاستبداد ومقاومة الاحتلال في آن معاً. ربما هي صرخة في واد أو مدعاة للسخرية أن نذّكر اليوم بقولة تولستوي الشهيرة "إن الشر لا يقتل الشر كما النار لا تطفىء النار"، أو بسلوك رواد النضال السلمي، كالمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ، وقد نجحا في إيقاظ ضمائر الناس وحفز هممهم عبر مختلف الوسائل المدنية لمقاومة الاستبداد والاحتلال، ما حدا بالكثيرين الى القول إن الشعب الهندي ما كان ليهنأ ببلاده ديموقراطية محررة لولا أسلوب النضال السلمي الذي أشاعه غاندي طريقاً رئيسة نحو التحرر الوطني. وأيضاً تبدو كأنك تسبح ضد تيار جارف عندما تحكي كيف كان هتلر يخفي تحت وسادته كتاب "الأمير" لمكيافيللي لينام هانئاً فوق وصيته الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة"، أو تروي ذات الحكاية عن ستالين وموسوليني وفرانكو وغيرهم! في الماضي القريب، أدى انهيار النموذج السوفياتي وشيوع الأفكار الديموقراطية وقيم الحريات وحقوق الانسان الى تنامي حس إنساني عام راغب في محاكمة أساليب الصراع السياسي ومعايرتها أخلاقياً، وبدا أنه لم يعد مقبولاً اللجوء الى وسائل غير مشروعة إنسانياً، الأمر الذي ساعد على تبلور رأي عام يأنف العنف ويضع حياة الانسان وحريته في مركز القلب من كل اهتمام. تلقت هذه الرؤية الواعدة، قبل أن تنضج أو تستقر، صفعة قوية في أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 وما تلاها. وقد نجح الطرفان، تنظيم القاعدة وإدارة البيت الأبيض، في جر البشرية الى ماضيها المؤلم، الى أخلاق الحروب والعنف، والى المناخات التي تسوّغ لكل طرف استخدام مختلف الوسائل الإجرامية ضد الآخر. وشاع من جديد المنطق القائل بأن قهر الشر هكذا يسمي واحدهما الآخر لا يمكن أن يتم إلا بالقوة والعنف وبأساليب الشر ذاتها، وأن أي ممارسة هي فعل مسموح ومباح مهما وصلت من البؤس والانحطاط الأخلاقي طالما أنها تقود الى النصر. وهذا ما أظهر العالم كما لو أنه عاد الى نقطة الصفر والى شرائع الغابة، وبدا أن لا خلاص من تلك اللعنة الأبدية التي تفصل الأخلاق عن السياسة وتبيح لهذه الأخيرة التحلل من أي وازع أو ضمير! ورغم أن تداعيات المحنة العراقية والتفاعلات التي رافقتها لجهة وضوح موقف عالمي شعبي ورسمي رافض للحرب، أنعشت الثقة بالحس الإنساني وقدرته على نصرة الشعوب، ومهدت لبناء علاقة جديدة بين الأخلاق والسياسة، يبدو أن أصحاب الفعل والقرار لا يريدون لهذا المسار نجاحاً، ويحاولون بشتى السبل وأد أي بادرة للحد من شيوع أساليب العنف والبربرية في إدارة الصراع السياسي وحسمه. هل نغمز من هذه القناة الى من لا يزال يغفر، تحت خدر "الهيام القومي"، لصدام حسين كل الآثام والفظائع التي ارتكبها بحق الشعب العراقي، أم الى من لا يزال يتفهم دور القوة الأجنبية لإطاحة ديكتاتورية من طراز السلطة العراقية مبرّراً للولايات المتحدة ذرائعها ولجوءها الى أفتك أنواع الأسلحة، أم الى من لا يزال ينظر إلى جدوى العمليات الانتحارية ضد المدنيين كطريق رئيسة للتحرير؟!. وهل يفترض أن نصل الى ما هو أسوأ مما وصلنا إليه ليكتشف أنصار عمليات التصفية والتطهير التي تمت في البلدان "الثورية جداً"، أو "القومية جداً" أيّ إثم ارتكبوا؟! أو لنتبين كم أساءت عمليات القتل والتدمير لهدف الحرية النبيل ولواجب التحرير المقدس؟!. قد تؤمن فئة ما بأن ما تبيحه من وسائل حق مشروع لها ضد عدو دموي وظالم لا يتوانى عن استخدام أشنع الأساليب وأكثرها وحشية، لكن ألا يعني ذلك الانجرار الى وسائل العدو التي ندينها ونجرّمه عليها، ومن ثم الخضوع لقواعد لعبة يسعى كي يفرضها علينا في ظل توازن قوى يميل على نحو كاسح لمصلحته؟!. فالمسألة ليست مسألة فعل ورد فعل أو قضية اجتهاد خاص، فئوي أو ديني، بل ترتهن في نجاحها الى الاعتراف بحقيقة تتكشف أمام عيوننا يوماً بعد يوم، بأن قدر المجتمعات الضعيفة والمتخلفة هو اللجوء الى أساليب ديموقراطية تنسجم مع رقي أهدافها. فالوسيلة النضالية قيمة أخلاقية بحد ذاتها، وحامل القيمة الإنسانية الأعلى في عالم اليوم، عالم القرية الصغيرة، يملك من فرص النجاح الكثير لإجبار العدو، عبر الرأي العام، على الخضوع لقواعد أخلاق الصراع السلمي وإكراهه على تنحية وسائل القتل والتدمير جانباً. وتحضر هنا نتائج الكسب الأخلاقي والسياسي الذي حققته انتفاضة "أطفال الحجارة" بدأبها وصبرها وجلدها، لترد على من يعتقد أن هذه الطريق دعوة الى التنازل أو الخنوع. أ