مع خروج اول شاحنة اسرائيلية من قطاع غزة محملة بقطيع من المستوطنين واسمالهم فإنهم يكونون بذلك دفنوا وراءهم الايديولوجية الاستيطانية الصهيونية الى الابد، لتنهض فلسطين من جديد بشعبها، وكأحجار الدومنو ستنهار كل المستعمرات الاسرائيلية المتبقية واحدة تلو الاخرى ان طال الزمن او قصر. شارون بلدوزر الاستيطان يعلن نهاراً جهاراً افلاس شعاراته العنصرية الدموية التوسعية التي بنى عليها سياساته في وجه حزب العمل وحملته الى كرسي الحكم مرتين:"دعوا الجيش ينتصر"،"مئة يوم كافية للقضاء على الانتفاضة"،"باراك يبيع ارض اسرائيل". تكسرت كل هذه الشعارات على صخرة الصمود الفلسطيني، وبعد سلسلة مجازره اليومية واجتياحات السور الواقي و"الطريق الحازم"وما بعد السور الواقي، اضطر مرغماً ان يطوي شعارته الثلاثة، وان يتقدم بشعارات بديلة على النقيض منها"لا يمكن ادامة الاحتلال الى الابد"، و"حان الوقت لتقسيم البلاد"، بعدما ادرك متأخرا لاكثر من نصف قرن ان لا مستقبل للاحتلال مهما طال الزمن، لذلك نراه يستعجل الرحيل من غزة، تحت ضغط الصمود الاسطوري للشعب الموجود، وفي الوقت ذاته يريد الجزار الحامل تهمة رشوة"الجزيرة اليونانية"و"ارض اللد"ان يجعل من رحيله هذا مدخلا لاستعادة حلم بمجد لم ولن يطال كملك متوج على عرش اسرائيل التوسعية العدوانية. قبله تمنت غولدا مائير ان تغرق غزة في البحر قبل ان يغرق المشروع الاستعماري الصهيوني في مواجهة فعل المقاومة والديموغرافيا الفلسطينية. لكن جشع ولاأخلاقية المحتل جعلته يواصل الاحتلال وبوحشية اكثر، ولم يتوقف شعبنا عن رده المقاوم، دروس ستة وثلاثين عاماً من همجية الاحتلال وبسالة المقاومة لم تعلم الجزار العجوز مغادرة عقلية"شايلوك المرابي"التي ابدع تصويرها شكسبير. شارون يريد ان يدفع له ثمن باهظ لهروب جيش احتلاله من غزة، بدل ان يدفع هو ووزراؤه"الفريسيون"في حكومته اليمينية المتطرفة ثمن سنوات الموت والقهر والاعتقال التي مارستها قوات احتلالهم بحق شعبنا الاعزل. في قراءة خطوة الانسحاب الاحادي والمنقوص من غزة التي اعلنها شارون اخيراً يجب الانتباه الى جدية الطرح الاسرائيلي ليس فقط على المستوى الرسمي والطيف الحزبي الاوسع، بل وحتى على الصعيد الشعبي حيث ايد في استطلاعات الرأي الاخيرة بحدود 80 في المئة من الاسرائيليين الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها. هذا الموقف الشعبي الاسرائيلي شبه الاجماعي شكل نتيجة منطقية لقناعة تبلورت تحت وقع ضربات الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية بأن هذا الاحتلال اصبح مكلفا وسيصبح مكلفا اكثر اذا استمر. ليس كرم اخلاق ولا صحوة ضمير انه حسبة"شايلوك المرابي"لن يستطيع ان يسلب ارضا توحدت مع ناسها، كيف يمكن انتزاع ارطال من اللحم من دون اسالة دم. في الميزان الاسرائيلي الاحتلال استراتيجياً خاسر ورحيله المبكر تقليل للخسارة. لكن يجب الانتباه جيداً، فما اوردته سابقا ليس نشوة نصر ولا مانشيتات للاحتفال، فأنياب الاحتلال ما زالت حادة. وشارون ما زال يمتلك بفضل ذلك قدرة واسعة على المناورة ولن يكف عن محاولة انتزاع ثمن الهروب والافلات من المسؤولية عن فظائع الاحتلال وجرائمه، المقاصد الشارونية من وراء تسريع الانسحاب من غزة واضحة ويمكن تحديد اطارها العام بالآتي: اولاً: جعل الانسحاب من غزة الذي يمثل في أي تسوية تحصيلاً حاصلاً ستاراً يغطي على مشروع استكمال تغيير الواقع على ارض الضفة الفلسطينية، حيث الاطماع الاستيطانية الحقيقية. وان يكون هذا الانسحاب بمثابة اتفاق مرحلي طويل الامد، وبذلك يتم أخذ الوقت الكافي لاستكمال بناء جدران الضم والعزل العنصرية، التي تسرق 48 في المئة من ارض الضفة الفلسطينية، وتهويد ما تبقى من القدس العربية التي اصبحت مطوقة من الجهات الاربع، وتكاد تتحول الاحياء المتبقية في أيدي الفلسطينيين الى غيتوهات في مدينة مهودة تماماً. ثانياً: تخفيف الضغط الدولي الذي زاد بشكل غير مسبوق على اسرائيل بعد شروعها في تنفيذ جدران الضم والعزل العنصرية. ويلاحظ أن الثعلب العجوز بيريز بدأ بلعب دور ظهير اسناد لشارون تسويقا للهروب من غزة وتخفيفاً للضغط وطلباً للثمن. ثالثاً: محاولة ادخال القاهرة بالشكل المقترح اسرائيلياً على خط تقديم الضمانات المطلوبة لتغطية الهروب من غزة الهدف منها تكريس أمرين: 1 تثبيت كذبة ان خيار الانسحاب الاحادي فرض على اسرائيل لعدم وجود شريك فلسطيني، وان طلب العون المصري بغية تدارك الآثار الجانبية السلبية لهذا الانسحاب. 2 تكرار سيناريو غزة في حال نجاحه عودة الادارة المصرية للقطاع بشكل او آخر، وذلك باعادة المناطق التي ستنسحب منها اسرائيل في الضفة الفلسطينية الى وضعية الربط الاداري مع الاردن جزر فلسطينية ذات حكم ذاتي مربوطة مع الاردن. بما يعني تقويض امكان قيام كيان فلسطيني مستقل ومتواصل، ورفض التسليم بوحدة الحقوق الوطنية الفلسطينية، وبالتالي تمزيق وحدة الكيانية والهوية الوطنية الفلسطينية. وحسنا فعل الرئيس مبارك برده ألاعيب بيريز ورفضه القاطع مناقشة عودة الادارة المصرية لقطاع غزة. رابعاً: بيع مستوطنات غزة لتمويل الاستيطان في الضفة، مرفقاً بثمن أهم من المال، الا وهو أخذ موافقة اميركية بتخفيف معارضتها لمسار جدران الضمن والفصل العنصرية، وقبول اميركي بتعديلات شكلية على مسارها لا يغير جوهريا من الاهداف التي أقيمت من أجلها. خامساً: شارون يراهن على عدم مقدرة الفلسطينيين على مواجهة تحدي الاستقلال في ظل واقع السلطة الفلسطينية التي باتت مشلولة بعد الفساد والفلتان الامني ومراكز القوى الذي ترك السلطة منخورة من داخلها، وبعد كل الضربات الاسرائيلية التي وجهت لها، وغياب مرجعية وطنية فلسطينية مبنية على وحدة اساسها القاسم الوطني المشترك. شارون يراهن على ابعد من فشل الفلسطينيين في ادارة شؤونهم، انه يراهن على حمام دم فلسطيني ينحر فيه الفلسطينيون قضيتهم بأيديهم، وفي رأيي فإن هذا الرهان يمثل الحلقة الاخطر في المناورات والخطط الشارونية، مع ثقتي وادراكي الاكيد بأن وطنية شعبنا ووعيه وتوحده في مجرى النضال وخبرته النضالية أقوى من عبث الاحتلال ومخططاته، وأقوى من نزعات التسلط الفردية والفئوية التي أدمن عليها بعض منا داخل الصف الفلسطيني والسلطة، وعلى حساب مجموع الشعب والحركة الوطنية لكن الحذر يبقى مطلوباً. ان المواجهة الفلسطينية للمخطط الشاروني تتطلب استجماع عناصر القوة الفلسطينية بما يفوت على شارون اشعال فتنة فلسطينية فلسطينية، وفض التضامن العربي والدولي من حول القضية الفلسطينية مقدمة للاجهاز عليها وتصفيتها. لذلك فإن نقاط ارتكاز المواجهة الفلسطينية يجب ان تستند على الآتي: انسحاب الاحتلال من أي شبر من الارض الفلسطينية مكسب نضالي، ويجب عدم مكافأة الاحتلال على ذلك، ورفض العودة الى مسلسل غزة اريحا اولا، ففي هذا تمكين للاحتلال في نهب ما تبقى من الارض في الضفة الفلسطينية، وفي تجربة سنوات أوسلو مع الاستيطان خير مثال على ذلك، ففي الوقت الذي كانت تتناسل فيه المفاوضات والاتفاقات وتغرق في طين التفاصيل الجزئية، كان السرطان الاستيطاني يتمدد ناهشاً أوصال الارض الفلسطينية. الوقت لم يعد مفتوحاً لمزيد من التكتيكات والمناورات التي تغلب المصالح الفئوية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني. فالوحدة الوطنية هي الشرط الاساس في المواجهة، وتحقيقها يتطلب نزول الجميع عن برامجهم الخاصة الى رحاب برنامج القاسم المشرك، وجعل هذا ارضية للشروع في اصلاح ديموقراطي شامل لمؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وليكن معلوما لنا جميعاً أن الشفافية والنزاهة والجدارة اذا لم تكرس بديلاً لسياسات الرشوة والمحسوبية والسطو على المال العام، فإن فرص نجاحنا في الامتحان أقل من صفر. أعرف تماماً بأن مغادرة هذه السياسات من قبل من جعلوها اساس سلطانهم وسطوتهم صعب جدا، لكن جميع شعبنا وقواه الوطنية يعرفون ايضاً أنه لن ينتزع ويحمي استقلالنا حواة لا يجيدون سوى اللعب بالبيضة والحجر. ترابط الحقوق الوطنية الفلسطينية يتطلب تهديف نضالات جماهيرنا في الوطن والشتات، واسناد نضالي متبادل مع جماهيرنا الصامدة في مناطق 1948 تحت شعارات عودة اللاجئين على اساس القرار 194 ورفض التوطين، ورفض مشاريع تبادل الاراضي، الاسم الحركي لعملية تهجير جماعي جديدة لعرب 1948. دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 حزيران 1967 بما في ذلك القدس العربية. التقدم الى القمة العربية ببرنامج فلسطيني موحد، فاليوم مطلوب من الفلسطينيين ان يلعبوا مرة أخرى دور الرافعة في استنهاض الوضع العربي، آخذين بالاعتبار الضغوط الهائلة التي تمارس على الدول العربية لاعادة تكييف حق العودة بما يشطبه عملياً، وحال الذعر التي تعيشها غالبية الرسميات العربية. اعتبار ما جرى في محكمة العدل الدولية نقطة انطلاق نحو حملة دولية لتحشيد الدعم الدولي لقضيتنا، وادانة السياسات الاسرائيلية ومطالبة اللجنة الرباعية الدولية معاودة لعب دورها تنفيذاً لخطة خريطة الطريق التي وضعتها، ورفض الحلول الشارونية الجزئية بما تشكله من نسف لأسس الخطة، وامكان الفتح على حل متوازن وشامل أساسه قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. بهذا نضع الهروب الشاروني من غزة في مكانه الصحيح، هزيمة وانكسار صهيوني على صخرة المقاومة الباسلة لشعبنا، وعندها سيكون من حقنا القول: مع اطلالة ربيع غزة وتفتح أزهار آلاف الشهداء، وفي القلب منهم ايمان حجو، فارس عودة، محمد الدرة، استقلالاً فلسطينياً، نعلن انتصار دمنا على سيف الاحتلال. قدمت غزة حاتم السيسي شهيد الانتفاضة الأول، وهي تبدو اليوم الاقرب لأن تسطع على جباه ابنائها السمر اطلالة تباشير فجر الاستقلال الفلسطيني المقبل. * الأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.