يخطئ من يظن ان قرار محكمة العدل الدولية ان جاء في صالح الفلسطينيين هو استشاري"فقط"، أي كونه غير ملزم للجمعية العمومية للأمم المتحدة التي طلبته، او لأي طرف آخر، ينتقص من اهميته في بعدها العملي. حتى لو كان القرار ملزماً فمن غير الواضح ما تبعات ذلك، اذ أن قرارات الجمعية العمومية للامم المتحدة لا تعتبر الزامية للدول من ناحية قانونية. اما قرارات مجلس الامن فإن درجة الزاميتها في بعدها العملي المباشر مرهونة بتوافر الارادة السياسية للدول المعنية حتى لو كانت هذه القرارات ملزمة قانونياً لتلك الدول. وفي كل الاحوال لم تلتزم اسرائيل قرارات مجلس الامن ناهيك عن قرارات الجمعية العمومية في السابق وخلال الانتفاضة الحالية بفضل الحماية التي توفرها لها الولاياتالمتحدة. اذاً، فالفارق العملي المباشر أي ليس الفارق القانوني بين الرأي الاستشاري والرأي"الملزم"غير كبير ما دام التنفيذ مرهوناً بمواقف سياسية للدول الكبرى بخاصة الولاياتالمتحدة، وفي ظل ادارة بوش التي سعت الى تحييد الموقف الاوروبي ودعم الحكومة اليمينية الحالية في اسرائيل. يخطئ من يظن ان ابراز موضوع الجدار داخلياً وعلى الساحة العالمية بما في ذلك اللجوء الى محكمة العدل الدولية يحيد النظر عن الموضوع الاساسي أي الاحتلال. ان الاحتجاج على اقامة الجدار ينطلق اصلاً من كونه أقيم في ارض محتلة، وان المعاناة الفلسطينية جراء اقامته ليست فقط قضية انسانية وانما ترتبط بمسؤولية سلطات الاحتلال تجاه المدنيين بموجب معاهدة جنيف الرابعة ومعاهدات اخرى. وكان هذا أحد أهم مداخل المرافعة القانونية الفلسطينية امام المحكمة ومدخل الغالبية العظمى من المرافعات الاخرى. ان اقامة الجدار تبرز واقع الاحتلال بشكل مباشر وصارخ وعيني ولا مجال للفصل بين الموضوعين سواء على نطاق قانوني او سياسي، او اعلامي. ويخطئ أيضاً من يظن ان قرار محكمة العدل الدولية، ان كان في صالح الفلسطينيين كما يتوقع العديد من الخبراء، له مفعول"معنوي"فقط. فالواقع هو ان الجدار وفّر فرصة مهمة لإعادة فتح ملف الاحتلال على نطاق داخلي وخارجي، وامام الرأي العام العالمي. ومن الواضح ان الحكومة الاسرائيلية، حتى في غمرة عنجهيتها، تدرك انها ارتكبت خطأ ما اذ انها الآن تعلن انها ستقلص طول الجدار بنحو 80 كيلومتراً. والامر هنا لا يتعلق فقط بارضاء الولاياتالمتحدة، التي تدرك بدورها رمزية الجدار وامكانات حشد الرأي العام حوله خصوصاً في اوروبا، الامر الذي سيصعّب عليها الاستمرار في دعم سياسات الحكومة الاسرائيلية الحالية. ما يجب الالتفات اليه هو معنى الجدار: إنه مشهد ورسالة سياسية وانسانية في آن، جدران اسمنتية عالية وابراج مراقبة واسلاك شائكة مكهربة، ومدافع رشاشة منصوبة. رسالة تخترق الذهن فوراً من دون كلام او شرح او تعليق او نطق، رسالة تسترجع في الذهن مباشرة معسكرات اعتقال و"غيتوات"و"غولاغات"الاتحاد السوفياتي التي اشهرت الروائي سولجنيتسن ابان الحرب الباردة. كل ذلك من دون كلام منطوق يمكن ان يفسر على انه معاد للسامية. هذه هي قوة المشهد وقوة الصورة: رسالة تصل من دون كلام. ويدرك الاعلام الرسمي الاسرائيلي ذلك اذ انه في معرض التخفيف من الضرر جرى اختيار الكلمة الانكليزية FENCE لوصف الجدار، والتي تترجم عادة بالعربية بكلمة"سياج". لكن الكلمة العربية اقوى في مدلولها الانفعالي وفي ايحائها من الكلمة الانكليزية والتي كثيراً ما تستخدم لوصف الشريط الذي يفصل بين الجيران، وتستذكر لدى الناطقين باللغة الانكليزية قولاً مأثوراً للشاعر الاميركي المعروف روبرت فروست، حول الدور الايجابي للاشرطة التي تفصل بين الجيران. لكن الصورة اقوى من الكلمة. وتتأرجح كاميرات التلفزيون ومنطلقها الصورة، بين السياج والجدار وكأنها تسعى لان تأخذ موقفاً وسطياً محايداً بين الخصمين. وفي هذا تقدم من وجهة نظر فلسطينية لانها لم تصور السياج فقط. لقد فرض الجدار الاسمنتي نفسه حتى على التلفزيون الاسرائيلي. ومن الجلي ان المعركة الاعلامية هي امتداد للمعركة السياسية. هذا ما تدركه اسرائيل جيداً ولم نحسن الاداء فيه رسمياً باستثناء الجدار. والسؤال الجوهري هنا: هل يمكن البناء استراتيجياً على ما تم انجازه حتى الآن؟ اقول بداية ان الفلسطينيين لا يملكون خيار عدم المحاولة، خيار الاذعان والتقبل والسكوت. فالضرر راهن والتبعات مباشرة ومستمرة والمعاناة ستدفع العديدين الى المبادرة. غير ان هذا شيء، والاستثمار المدروس والمبرمج والموحد للنضال ضد الجدار والاحتلال شيء آخر. هذا يلزمه معرفة وتخطيط وتنظيم وقيادة. فالجدار يوفر محوراً محدداً للتعبئة على نطاق داخلي وخارجي، مثلاً حملة لمقاطعة اسرائيل باستخدام الضغوط الشعبية المنظمة على الحكومات بخاصة في الدول التي لاسرائيل فيها مصالح حيوية مثل اوروبا والولاياتالمتحدة، من دون اهمال دول اخرى مثل الهند مثلاً، او حتى الدول العربية متهافتة الحكومات. واشير هنا الى حملة ربما لا يعرف عنها الجميع يزداد نجاحها باضطراد لمقاطعة الجامعات الاسرائيلية والمؤسسات الاكاديمية في اسرائيل مثل المشاركة في مؤتمرات او مشاريع ابحاث مشتركة او دعم مادي او عيني للمؤسسات الاكاديمية. وقد بدأت هذه الحملة قبل عدة شهور بمبادرة اوروبية فلسطينية حتى وصلت الى مرحلة شعر رؤساء الجامعات في اسرائيل انها قد تؤثر فعلاً على علاقاتهم الخارجية وتمويل مشاريعهم المختلفة. فقاموا قبل حوالى شهرين بتشكيل لجنة خاصة لمتابعة الموضوع في مسعى لايقاف هذه الحملة. المقصود ليس نموذج جنوب افريقيا دفعة واحدة وانما بالتدرج، من القضايا التي قد تكون أسهل لحشد التعبئة حولها من اجل المقاطعة الى قضايا اكثر صعوبة. وان صدر قرار من محكمة العدل الدولية لصالح الفلسطينين، سيوفر هذا دعماً اخلاقياً ومعنوياً لبرنامج المقاطعة ويدرأ أو يحد من تهمة اللاسامية المتوقع ان تستخدمها اسرائيل تجاه الناشطين في اوروبا والولاياتالمتحدة. لكن يبقى التساؤل عما اذا كنا نحن مؤهلين لخوض معركة من هذا النوع، يحتاج الى معرفة وتخطيط وعدم ارتجال وتغلب على الشرذمة والعفوية وعدم تضارب اشكال النضال المختلفة، لئلا نفقد باليسرى ما قد نكون ربحناه باليمنى. فالميدان مفتوح للجميع للعمل ولكن لا يمكن لكل امرئ ان يغني على ليلاه. * استاذ فلسفة في جامعة"بيرزيت"، فلسطين.