يبدو أن هجمة الإصلاح الغربية، ارتفقت برسائل لم نقرأها ، وإن قرأها مسؤولون عرب . تقول الرسائل الموجهة إلى حكومات عربية: من حقكم أن لا تقبلوا وصفة الإصلاح بالكامل ولكن ليس من حقكم رفضها بالكامل . وإن رفضتم فنأمل أن لا ترفضوا الكثير مما تحتويه من اقتراحات للإصلاح، وما تقبلونه تلتزمون به. وربما جاء في الرسالة أيضاً التي لم نقرأها أن ما سيقبله المسؤولون العرب من مشروعات الإصلاح هذه سيلتزمون به أمام أطراف ثلاثة ، أولها أطراف أوروبية مشغولة بالهم الشرق أوسطي في كل أشكاله الإسلامية والقومية والصراعية والإرهابية . ولذلك لم تتأخر الولاياتالمتحدة عن دعوة الدول الأوروبية الأهم إلى التشاور حول مبادراتها . ودفعت الأطراف الأوروبية إلى فتح حوار مع المسؤولين في الدول العربية حول هذه المبادرة ومبادرات أخرى أوروبية . كان المنطقي أن يتوقع الأمريكيون عندما سربوا النقاط الأساسية في هذه المبادرة أن الزعماء العرب سيلجأون من تلقاء أنفسهم إلى أوروبا وعلى الفور . فالعرب حسب عادة ورثوها عن العثمانيين أو تعلمها العثمانيون منهم مغرمون بلعبة التوازن الدولي ، وبالفعل كانت أوروبا وقبل أن يصل إليها أو يتصل بها المسؤولون العرب مستعدة بمبادرات خاصة بها ولكن متناسبة ومتناسقة مع المبادرة الأمريكية . تعمد الأوروبيون في اتصالاتهم بالمسؤولين العرب التأكيد على أنهم ليسوا أقل اهتماماً بالإصلاح في الشرق الأوسط من الولاياتالمتحدة ، وفي نفس الوقت يريدون أن يستمعوا من الجانب العربي إلى رد فعله على النقاط الأمريكية والأوروبية . ويبدو أن أطرافاً أوروبية طلبت أكثر من مجرد الاستماع إلى رد الفعل العربي ، طلبت أن تستمع أوروبا إلى التزام عربي بالموافقة على الاستجابة لنقاط معينة والالتزام بتنفيذها قبل أن تلتزم أوروبا بالمساعدة للوصول إلى صيغة توفيقية . وأظن أن الأوروبيين حصلوا على هذا الالتزام من أكثر من جانب عربي اتصل بهم أو اتصلوا به. هذا عن الالتزام تجاه الأطراف الأوروبية ، أما الالتزام الثاني فهو التزام العرب تجاه بعضهم البعض عن طريق برنامج يضعه بعض الحكومات العربية ويروج له بين بقية الحكومات . يمثل هذا البرنامج الحد الأدنى من بنود الإصلاح التي توافق عليها كافة أو معظم الدول العربية . ليس كافياً أن تصدر وثيقة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية عربية تعلن خطوطاً عامة تلتزم الدول المنشئة لها أو الموقعة عليها بالنظر في إمكان تنفيذ بعض بنودها بالتدرج الممكن وفي الظروف المناسبة وحسب الأحوال الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول . وقد تردد في عواصم أوروبية وبين مبعوثين دبلوماسيين في عواصم عربية أن بعض الدول الأوروبية ، وربما الولاياتالمتحدة ذاتها ، نصحت بضرورة وجود قرار واضح وشامل يصدره الزعماء العرب من خلال مؤتمر القمة الذي سيعقدونه في تونس في نهاية هذا الشهر . لم يكن خافياً على دول الغرب ولا على قيادات مدنية أو قيادات في الرأي العام العربي أن دولاً عربية بعينها ستحاول الاحتماء بالقمة بأن تدفعها لتصدر قراراً قومياً وحماسياً يندد بهذا التدخل الأجنبي في شؤون الدول العربية الداخلية ، أو حث القمة على تجاهل هذه المبادرات جميعاً . ويقال إنه يوجد فعلاً من يسعى إلى أن تصدر القمة قراراً أو بياناً يخلو من طابع الإلزام أو الالتزام ، فضفاضاً كعادة البيانات العربية ، وحمّالاً للعديد من التأويلات . وليس هذا ما يريده الغرب . الغرب يريد أن تلتزم القمة التزاما بالإصلاح لا لبس فيه . وللقمة أن تضع ما تشاء من عبارات لحفظ ماء الوجه أو للإيحاء بأن الرغبة في الإصلاح ذاتية وصادرة عن دوافع صادقة ومخلصة ، وليست نتيجة لأي ضغوط خارجية أو حتى داخلية. أما الجهة الثالثة التي يبدو أنه حدث تركيز عليها في بعض الاتصالات التي قامت بين دول عربية ودول غربية حول الالتزام بتنفيذ إصلاحات داخلية فكانت الشعوب العربية ومنظماتها المدنية . أتصور أنه قيل لبعض المسؤولين العرب بقدر معقول من الوضوح والصراحة أنه يمكن تحسين الشروط الأمريكية وتخفيف الهجمة الغربية ، لو أن الحكومات العربية التقت الهجمة الإصلاحية الغربية في منتصف الطريق . كان منطقياً ومتوقعاً أن يصدر رد فعل عنيف ضد الهجمة الغربية من جانب بعض العواصم العربية ، باستثناء تلك التي حصلت على شهادات جودة وتقدير من الرئيس بوش شخصياً ، بشرط أن يعقب هذا الانفعال العربي خطوات عاجلة تهدف إلى إشراك الشعوب العربية في الموضوع ، أي في الفعل الغربي ورد الفعل العربي . كان التصور في بعض عواصم الغرب الذي نقل إلى عواصم عربية أن الحكومات العربية ستتقدم وبصورة علنية لشعوبها ومنظمات المجتمع المدني فيها بتعهدات واضحة نحو تنفيذ عدد من إجراءات الإصلاح السياسي الداخلي . فإذا كان تنفيذ هذا الأمر تكتنفه مصاعب بسبب خشية أن يفسر الرأي العام هذا الالتزام من جانب حكوماته العربية بأنه جاء تنفيذاً لتوجيهات من الخارج واستسلاماً أمام الهجمة الإصلاحية الغربية ، فإنه يمكن في هذه الحالة أن تقوم هذه الدول بتهيئة الظروف وتوفير الإمكانات اللازمة لكي تنشط منظمات المجتمع المدني فتعقد اجتماعات وتصدر بيانات وتعبئ الرأي العام لتأييد أفكار للإصلاح تبدو نابعة من المجتمع المدني ومستجيبة للرغبة الشعبية المتحررة من أي ضغوط أو إيحاءات أجنبية . إن ما طرحته الحكومات العربية من انتقادات أو احتجاجات على الهجمة الغربية لم يستفز الولاياتالمتحدة أو الدول الأوروبية . كانت دعوة التدرج التي تمسكت بها غالبية الحكومات العربية والتي سيؤكد عليها بيان القمة العربية ، إن عقدت القمة وإن ناقشت الموضوع وإن أصدرت بياناً بشأنه ، دعوة منطقية ومقبولة في الغرب . فإلى جانب أن الفكر السياسي أو الليبرالي المعاصر في الغرب بعيد عن الفكر الثوري أو الانقلابي فهو أيضاً مدين بما وصل إليه لأسلوب التدرج في الانتقال بين مراحل التطور . كذلك فإن تجربة الولاياتالمتحدة في العراق الذي أرادت أن تجعله نموذجاً للعالم العربي تؤكد أن الأفكار التي حملتها سلطات الاحتلال معها إلى بغداد لم تصل في العراق الجديد إلى مستوى النموذج الذي يجب أن يحتذى عربياً بسبب أنها لم تراع التدرج المناسب في الانتقال من نظام ومجتمع سلطوي إلى نظام ومجتمع ليبرالي . أظن أنني لا أبالغ حين أقول أن التطورات التي حدثت منذ أن سربت اميركا مؤشراتها لخطة إصلاح لإقامة شرق أوسط كبير توحي بأن الأطراف كافة صارت مقتنعة بأن المبادرات الغربية أحدثت الصدمة المطلوبة ، وبذلك تكون قد حققت أول أهدافها. ليس خافياً اليوم ، ولم يكن خافياً خلال الشهور الأخيرة أن واشنطن تريد "تفكيك" الأربطة التي تشد الشعوب إلى حكومات لا تسعى للتغيير أو لم تنجح في التغيير . ولم يكن هذا التفكيك ليحدث من دون صدمة ، وإن احتوت الصدمة على بعض عناصر تثير مجدداً الكراهية ضد السياسة الأميركية . ومع ذلك اعترف لو كنت مكان الأشخاص الذين أطلقوا هجمة للإصلاح من واشنطن ، لشعرت بالرضا . فقد تحركت الحكومات وبعضها التزم فعلاً وأكثرها عبأ جانباً من مجتمعه المدني وكل قواه الأمنية والإعلامية للدفاع عن نفسه ، حتى وإن كان في نيته إدخال تغييرات محدودة ، أو كسب الوقت حتى تفتر الحملة وتنتهي الانتخابات الرئاسية في أميركا . من ناحية أخرى شعرت قطاعات المجتمع المدني بأهمية دورها بعد أن صارت محل اهتمام الحكومات العربية والأجنبية وموضوع تنافس بينها . ومن ناحية ثالثة توصلت شعوب في المنطقة إلى أن حكوماتها التزمت تجاه الغير بتنفيذ إصلاحات ، وأن هذا الالتزام سيخضع لرقابة فشلت الشعوب في ممارستها . بهذا المعنى أفهم حال الرضا في عواصم الغرب إلى ما آلت إليه الهجمة الإصلاحية التي بدأت بما يشبه المبادرة الأمريكية عن الشرق الأوسط الكبير . لقد تحقق أحد أهم أهدافها . أما بقية الأهداف ، أي إنجاز الإصلاحات وتنفيذها فهذه ، حسب رأي أحد المسؤولين الأمريكيين عن صياغة وتسريب المبادرة ، ستخضع إلى عملية بحث عن حلول وسط بالنسبة لترتيب أولوياتها ومعدل السرعة في تنفيذها . ثم أنه من حق السلطات الحاكمة في المنطقة العربية ولفائدة خطة الإصلاح الإدعاء بأن الإصلاحات تحدث أو تنفذ بنيات داخلية وفق خطة موضوعة سلفاً واستطراداً لعملية طويلة الأمد مستمرة منذ بداية تولي هذا النظام أو ذاك الحكم في الدولة المعنية . المتغير الجديد الذي يمكن أن يضغط على الأطراف المشتركة كافة في الهجمة أو المتوافقة على صدها هو مذبحة مدريد . فقد خرجت الولاياتالمتحدة أقوى حجة في مواجهة الأطراف الأوروبية إزاء موضوع الإرهاب وبحافز إضافي لفرض ضغوط أقوى أو أكثر على الدول العربية خصوصاً والإسلامية عموماً . أتصور ، على الجانب الآخر ، أن تستمر الولاياتالمتحدة في مقاومة أي إجراء جماعي غربي يهدف إلى إصلاح المؤسسات الإقليمية العربية قبل الانتهاء أو قرب الانتهاء من ترتيب البيوت الداخلية العربية وقبل أن تتأكد واشنطن وغيرها من الدول الغربية الكبرى من نيات الدول العربية تجاه مسألة التطبيع الكامل مع إسرائيل ، وقبل أن تتحقق درجة مناسبة من النجاح في توسيع الدائرة الإقليمية من دائرة عربية إلى دائرة شرق أوسطية تمهيداً للانتقال إلى دائرة شرق أوسطية أكبر وأوسع ، لأنه في كل مرحلة من هذه المراحل ستحتاج الدائرة إلى تنظيم إقليمي يناسبها إلى حين الانتقال إلى مرحلة أخرى . أما وقد بدأ التوسع فعلاً من الدائرة العربية الضيقة إلى دائرة إقليم أوسع فقد ترى واشنطن أن المرحلة الانتقالية الراهنة لم تعد في حاجة إلى المؤسسة الإقليمية القائمة على أساس أن وجود هذه المؤسسة قد يعطل توسيع هذه الدائرة التالية، أي الدائرة الشرق أوسطية. تستطيع إدارة بوش أن تقول للناخب الأمريكي أنها حصلت على التزام عربي بالديموقراطية ، وأن تقول إنه بعد النجاح الذي حققته الديموقراطية في عدد من الدول العربية التي سبق أن تحدث عنها الرئيس الأمريكي فإن دولاً أخرى تسير الآن على نفس الركب باستلهام النجاح الذي حققته شقيقاتها . في نفس الوقت سوف يشغل الرئيس بوش هذا الناخب الأمريكي بقضية محاسبة سوريا وتعقب إيران وإقامة مؤسسات جديدة في العراق وإبراز الإنجازات الباهرة التي قدمتها إدارته لإسرائيل على الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية. * كاتب مصري.