وجوه لا شيء غير الوجوه في معرض الفنان التشكيلي عادل السيوي من مواليد القاهرة عام 1952 الذي يقيمه في غاليري "أجيال" في بيروت، ويضم قرابة اربعين لوحة من الأحجام الصغيرة والمتوسطة مواد مختلفة على ورق، اختيرت من إنتاجه العائد إلى ما بين 1999 - 2003. الوجه موضوع أثير في فن السيوي منذ التسعينات، وجد له مقاماً في الذاكرة التشكيلية العربية، بميزات ومبررات مغايرة لسائر أساليب الرسامين الذين تناولوا الموضوع نفسه. أوجد السيوي لوجوهه المشاعر التي تستدعيها من غواية التاريخ الى صخب اليومي، ومن طاقة البوح الى بلاغة الصمت والتأمل. وبين تناقضات القديم والحديث، تنطق وجوهه بالحقائق الغائبة عنها، لأنها لا ترى نفسها، من فرط ما تفتح أمام ناظرينا حقولاً من التهيؤات، في تقاطيع مراياها المتعددة الزوايا والانكسارات. لكأن مادتها الحقيقية هي الظنون وليس اليقين، في تخفيها المقنع. والقناع ما هو إلا لغز وجودي ظاهري لوجوه لا تملك حقائقها الثابتة، لأنها مسكونة بالتحولات. إذ تطل مواربة من العالم الأفريقي كما يظهر في خصائص الملامح: من استطالة الرأس إلى اتساع الأنف وغلظة الشفتين. والمواربة هي البعد التخييلي الذي ينأى عن واقعية صورة الوجه إلى عمق معناه الوجودي. هذا المعنى الذي سبق ووجده غوغان في جمالية البشرة السوداء المختلطة مع مساحات الألوان الحارة في جزر تاهيتي. فالأقنعة الأفريقية التي منحت بيكاسو في مرحلته الزرقاء تأويلات مدهشة في رؤية الوجوه من زوايا عدة، تمهيداً الى التكعيبية، تطل علينا في فن السيوي من منطق مغاير، على رغم الزيغ الذي يُحدثه في تكرار الملامح أحياناً، لكن التعبير اللوني يتخطى دوماً حضور القناع الأفريقي إلى ما وراءه من الانفعالات الحسية، من دون أن يصل إلى التدمير الكلي لمعالم هذا القناع، الذي بات مفردة تشكيلية أو ذريعة جاهزة لأنواع الاختبارات على الخامات المتنوعة السطوح والفضاءات المنسجمة مع طروحات فنون ما بعد الحداثة. واللافت في عمل السيوي أن التكرار في التأليف العمودي هو ظاهري فحسب في منطق الشكل، إلا انه لا يحيل في جوهره إلى الرتابة والتناظر. لأن السطح التصويري بات له ملعب حر مفتوح أمام كل الاحتمالات ومؤاتٍ لإسقاطات الذاكرة واشتقاقاتها. ولا يتوانى الرسام في بحثه الدؤوب عن المجهول في صورة الإنسان ولغزه ككائن حي قديماً وحديثاً. هذا البحث يتحول إلى اجتهادات بارعة في التقنية اللونية التي تقطف كل مرة مناخات يتهيأ للناظر إليها أنها مستمدة من التراث الفرعوني وأقنعة الفيوم والأيقونة الشعبية والأقنعة الأفريقية، في مزيج حضاري يختلط في ثقافة السيوي باعثاً دوافع جديدة. يكفي أن يتوج السيوي رأساً من الرؤوس بحبات الأبيض كي يبدو ملكاً من ملوك الأساطير القديمة أو يجعله يغيم في دخانه الأزرق ليصبح قمراً، أو يدكن سواده ليتحول ليلاً، أو يشعل في سماء الوجه نوراً خفياً كي يتلألأ ظلامه بالنجوم. فالخطوط البسيطة الأولية هي ببساطة الفن البدائي الذي يرسم شبح الشكل ليبث تالياً ما يحيق به من رموز عاطفية متصلة بالطبيعة وعناصر الحياة. وتتنوع أشكال العلاقة ما بين الرأس والخلفية المحيطة به، غالباً ما تتبدى الألوان الوحشية، التي تذكر بالمناخات الإستوائية، في صدامية الأحمر والأزرق أو تناغمية الأحمر والأخضر مع الأسود. وأحياناً تعود الوجوه الى حالها الصلصالية أو الترابية لتقترب من مادة الخشب نفسه. وقد يتحول الوجه منظراً طبيعياً خيالياً من تضاريس الأرض ووعورة مسالكها أو يستقل بفضاء تغطيه السحب، أو ينحدر على جانبه ظل فيحجبه. كل ذلك نراه على سطح هذه الوجوه في أحوال صمتها وكتمانها أو فرحها حين ينفسح البياض بين مضائقها. وهي إذ تنبسط في مقدم اللوحة كي تفتح لنا سرائرها، يكون في مقدورها أيضا أن تغادرنا وتغلق الباب دوننا. ثمة وجوه تبدو هابطة مثل شلال، يعكس سطحها المائي صوراً أخرى. وثمة وجوه مفردة مبتسمة، تائهة النظرات، زائغة في أحلامها الترابية، مضطربة ومستوحدة. وقد أمعن السيوي في تحليلها سنوات خلت. ونستشعر معه أهمية الخامة والمواد وحركة اليد وارتجالاتها ويخيل إلينا أن يد السيوي تمشي داخل الوجه كمن يمشي داخل مساحة ذاكرته المختلطة بالأحداث والتواريخ والهواجس. ذاكرة مأهولة بأطياف ووساوس حنين تحت أنوار ساطعة على سطح متعدد الأغوار. وجوه السيوي صامتة على ارتياب. مجازية بعمق. راسخة مرتبطة بالطقوس التي قدست الوجه عبر التاريخ باحتفالية بصرية مدهشة. ما تقوله شبيه بتمائم شعائرية يصعب اختراق مكنوناتها من المرة الأولى، لذلك تستدعي دوماً العودة إليها. تنساب من تاريخها القديم ومن أزمانها المجهولة الى مستقبل مفهوم الصورية في مرحلة ما بعد الحداثة. غير أنها شكلت سلالة منذ بداية التسعينات إلى الآن، وهي تتوالد شعوباً وقبائل، مع أفكار محمومة واندفاعات باطنة تكفل كل مرة استمرار وجودها. كما لو انها صادرة من ذاكرة اللاوعي الجماعي الذي يسقط عليه السيوي كل المعاني الشعرية الآتية من الأحلام الأرضية مع إشارات من الكون الفسيح.