بدأنا ليلتنا البيروتية في شارع مونو. هناك سنجد الشباب والشابات في مثل سننا، وسنجد مسوغاً أفضل لممارسة بعض الطقوس الغريبة التي ما كنا لنفعلها لو بقينا في مكاننا. الشارع مزدحم. والسيارات تسير ببطئ، وأصوات آلات إيقاعية، أو مسجلات تبث أصوات آلات إيقاعية، تهرب من المراقص المنتشرة في "الشارع الشاب"، الذي نصحنا مراراً بزيارته ليلاً. تخرج الأنغام وترقص وسط الشارع، وبين السيارات وعلى الأرصفة. أنغام تطلب مشروباً كحولياً تارة، ومشروباً خالياً من السكر تارة أخرى، ومن دون انتظار الطلب، تواصل دورتها نحو مرقص آخر بحثاً عن أنغام جديدة. بالنسبة الى غريبين في شارع بيروتي يعج بالعارفين بخباياه، يبدو السؤال عن مكان للرقص هنا أو هناك، مرادفاً لصفة "الهبل". وكان القرار الذي اتخذناه رفيقي وانا، من دون الحاجة للبوح به: سر ولا تقف، لعل في المسير شيئاً من الجواب. الأبواب واضحة أمام اعيننا، نواصل المسير، فإذا بأجساد طويلة وعريضة تقف أمام الأبواب حاملة سجلات لم نعرف ماهيتها. لاحظنا أن وقوف هذه الأجساد أمام الأبواب بحزم لا يتوافق مع الأصوات الموسيقية التي لا تزال تفر من النوافذ. شجاعتانا تجمّعتا في شخص أحدنا، وباتتا شجاعة مثيرة للضحك على كل حال، ونطق اللسان بالسؤال المحظور: كيف ندخل؟ واحد بانتظار الجواب والآخر يتفحص السجل المحمول. ولا عدل هنا في ميزان الوقت. فالجواب لا يحتمل أن ينبس الرجل العريض ببنت شفة، أما السجل فمليء بأحرف لاتينية متراصة، خمنا أنها أسماء. شاهدنا مجموعة من الصبايا، وعقدنا العزم على اللحاق بهن أينما ذهبن، لأن دخول الفتاة عادة ما يكون في أحوال ليلية كهذه أسهل من دخول الشباب. طبعاً لم ننفذ ما فكرنا به، لأن الفتيات ظللن واقفات، ثم غادرن مونو. وهذا ما كنا لنفعله، لولا أننا علمنا عبر جواب مليء بالنظرات الساخرة، لسؤال ملؤه الحذر، أن الحجز المسبق لدخول أحد المراقص هو منفذنا الوحيد لعبور "الأبواب المغلقة". بعدها لم يكن صعباً على "السرفيس" أن يدلنا على مكان جيد للسهر في شارع الحمرا. لم يشتم أي منا السائق عندما علمنا أن مكان السهر ملجأ سابق، فقد أقنع أحدنا الآخر بأن هذا دليل على حياة اللبنانيين، الذين حولوا مكاناً له علاقة بالحرب إلى "ديسكو". راقت لأحدنا الفكرة تماماً. وتقمص دور لبناني لجأ ذات قصف إلى هذا الملجأ. وكم بدا سخيفاً هذا الشعور. فكيف لهذا الهارب من حرب أن يجد أمامه لوحة تضيء بألوان فاقعة ترحب به بلغات ولأهداف شتى؟ وكيف له ساعتها أن يستمتع بأصوات الموسيقى المنبثقة من الملجأ؟ فتحنا الباب الأسود، الشبيه بأبواب الغواصات التي تظهر في أفلام هوليوود، وتعالت الأصوات أكثر، وبدا جلياً ما تكتنزه لنا السهرة من مقومات "رفيعة". طلب أحدنا ما طلب، وبدأ الآخر رحلة بين الكراسي والجالسين عليها، يضرب في هذا ويعتذر من ذاك، فالإنارة ضعيفة في غير مكان الرقص. تجالس أحدنا والكرسي، وكذلك فعل الثاني، وبدأنا نتمايل بخفر مع أنغام "لابامبا". أما الحديث فكان أصعب شيء، خصوصاً مع سماعة سوداء تصرخ فوق رأس أحدنا. شيء من أغان راقصة، وموسيقى "تكنو"، وبعض شبان يقدمون رقصات متواصلة وغير متناسقة، إلى أن استفاق عفريت الطرب في رأس إحدى الفتيات، واستلت ميكروفوناً وهمت تغني بلغة قالوا إنها أرمنية. انتهى الغناء، وامتلأت كؤوس ظراف بعد أن نفذت أخرى، وصمت الجميع لصمت السماعة السوداء الداكنة، قبل أن يعلن شخص ما، بدا ذا نفوذ، أننا يجب أن نهدئ من روعنا قليلاً قبل أن يتم التغيير من "كهرباء الموتور" إلى "كهرباء لبنان". وكان لاسم لبنان وقع السحر على الحاضرين، فضج "الديسكو" بالتصفيق، وتعالت الأصوات التي تحيي وزيراً هنا، وتشرب نخب وزير هناك. ولم تهدأ الأصوات إلى أن عاد عفريت الغناء من جديد إلى رأس الفتاة، ودار في رؤوس الحاضرين جميعاً، وغنوا تحية لزكي ناصيف... راجع راجع يتعمر، راجع لبنان! مدرسة الحياة