إذا صح ان التجديد لفلاديمير بوتين بنسبة 70 في المئة من الناخبين، ترافق مع مصادرة جزئية للحياة السياسية وتدخل في تشكيل الخريطة الاعلامية، فالصحيح ايضاً ان الروس كانوا سيجددون له رئيساً لهم حتى من دون هذين المصادرة والتدخل. ذاك ان ما مثّله ويمثّله الرئيس الغامض الذي لا كاريزما له، يضرب عميقاً في جذور مرحلة ما بعد الشيوعية وتناقضاتها، وهو ما يتصل، بدوره، بمجمل التاريخ السياسي لذاك البلد شبه الأوروبي شبه الآسيوي. فسقوط الاشتراكية الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي نفسه أواخر عهد ميخائيل غورباتشوف أعاد وضع روسيا، في ظل بوريس يلتسن، أمام سؤالها القاهر إياه: كيف الانتقال الى "الغرب"، اي الى الديموقراطية البرلمانية والسوق الحرة، من دون الوقوع في الفوضى؟ وكان لا بد من مواجهة هذا السؤال في ظل التردي المريع الذي رافق تفسخ الامبراطورية السوفياتية وتصدع حزبها المشرف، حتى حينه، على حياتها الاقتصادية، قراراً وتسييراً، انتاجاً وتوزيعاً. فكيف وان هذا كله يحصل في بلد لعب جهاز الدولة أكبر الأدوار في تاريخه الذي لم ينطو على أية حقبة ليبرالية؟ فمنذ مدّ سكك الحديد، أواخر القرن التاسع عشر، والذي اعتُبر استلحاقاً روسياً بالثورة الصناعية الأوروبية، وبؤرة لنشؤ طبقة عاملة، بدت مساحة روسيا الضخمة عاملاً معيناً للاستبداد إذ كان العبء الصناعي أكبر من أن يحتمله قطاع خاص صغير ومتواضع. وعلى هذا النحو استمر الأمر بالغاً ذروته مع اللينينية وتوابعها، حتى أن مقتل الدولة في روسيا إنما حصل بسكين الدولة نفسها. فسقوط الشيوعية، أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، جاء فيها معاكساً لما جرت عليه الحال في أوروبا الوسطى من انقضاض خصومها عليها، وهم خليط من نقابات عمالية وكنائس ومثقفين منشقين، إذ تولى الأمر في موسكو رمزان خرجا من عباءة الحزب الحاكم نفسه، هما غورباتشوف ويلتسن اللذان تعاقبا على الرئاسة. في هذه الغضون، وتحديداً في 1994، اصدر ايغور غايدار كتاباً صغيراً ومهماً لجهة البديهيات التي يوكدها، كما لجهة القحط التاريخي الذي يجعله نقطة انطلاقه. وقد أسمى غايدار كتابه "الدولة والتطور: بحث روسيا عن سوق حرة". والكاتب الذي اختار عنواناً يتلاعب فيه على عنوان لينين الشهير "الدولة والثورة"، هو المهندس الأول للتحول الاقتصادي في عهد يلتسن. فقد عمل آنذاك وزيراً للمال ثم للاقتصاد وأشرف على الاصلاحات الكبرى في بداياتها، بما فيها تحرير الأسعار الذي أدى الى إفقار الملايين من المعتمدين على الدولة، فضلاً عن اطلاق الخصخصة على نطاق واسع. وقد دارت أسطر غايدار على فكرة متكررة هي الموقع المركزي للمُلكية الخاصة في أي مجتمع ليبرالي، مستعرضاً لإثبات نقطته تاريخ السياسات الاقتصادية في بلاده منذ أيام المغول. هكذا برر الاصلاحات الاقتصادية التي نفذتها حكومته، وواجهها السكان بالرفض والكراهية، بالحاجة الى تطبيع الملكية الخاصة والرأسمالية في روسيا، ومعها، لأنهما غريبتان تاريخياً عن تربتها. ذاك ان العامل الأهم الذي فصل روسيا، وبشكل مأسوي عن باقي أوروبا، هو الغياب الذي استمر قروناً لأي تقليد يتصل بالمُلكية الشرعية، وهو ما وجد تتويجه عام 1917 في الحملة الشيوعية على الملكية الخاصة جملة وتفصيلا. فالتقليد الروسي، في عرف الكاتب الوزير، كان دائماً أقرب الى ما درجت عليه الدول "الشرقية". بيد ان تأسيس الرأسمالية لا يتم "بالصدمة"، بين ليلة وضحاها، على ما أراد غايدار ان يفعل. وهو لا يتم خصوصاً في ظل دولة منهارة يُدفع الى المزيد من انهيارها، عاجزة تماماً عن التدخل إنتاجاً وتوزيعاً وحمايةً للعملية الاقتصادية. فبفعل فراع ضخم كهذا، استولى الاوليغارشيون على السلطة الفعلية في عهد يلتسن، وبذريعة الخصخصة مصحوبةً بغياب كامل لثقافة قوانين السوق، انتزعوا من الدولة الشركات النفطية وباقي الموارد الطبيعية مما أفقرها وضاعف إثراءهم، حتى باتت أربعة أخماس الصناعة الخاصة مملوكة من قبل عدد صغير جداً من فاحشي الغنى. وجاءت تجربة بعد اخرى تشير الى استحالة الاصلاح من داخل نظام يلتسن ذي الوضع الصحي المتردي، والذي كان الإفراط في الشراب يزيده تردياً وسهواً عما يجري حوله. والراهن ان الاوليغارشيين تسللوا الى الدولة من أوسع أبوابها، في موازاة انتشار المافيات وهبوط الناتج الاجمالي في 1998 بنسبة 50 في المئة عما كانه في 1990، وعجز هائل في الميزانية وانهيار شامل للنظام الضريبي، ما حال دون دفع أجور الموظفين ومرتّباتهم. وبينما كانت تتتالى اجراءات وقف التمويل للخدمات العامة، واحدة بعد أخرى، ضُم كبير مدراء شركة "غازبروم" للغاز، فيكتور شيرنوميردين، إلى الحكومة في 1992 وما لبث ان صار رئيساً لها. أما نائبه فكان فلاديمير بوتانين، أحد مؤسسي أكبر بنوك روسيا الخاصة "اونكسيمبانك". كذلك أصبح المتمول بوريس بيريجوفسكي مساعد مستشار يلتسن للأمن القومي، وأضحى فلاديمير غوزنسكي الذي موّل حملته الانتخابية، امبراطور الإعلام. وبدت الحقيقة الأشد إقلاقاً ان روسيا التي خصخصت معظم ملكيتها، لم تخلق الظروف الآمنة للمستثمرين. واذ عمل الفساد والتهريب الى الخارج على ابتلاع بلايين المساعدات والقروض المقدمة من المؤسسات الدولية والدول الاجنبية، استشرت الجريمة المنظمة على نطاق واسع، فيما راح التفاوت الاجتماعي يرفدها بالأسباب والعوامل المساعدة: يكفي القول ان العام 1995 سجّل اغتيال تسعة من أكبر ثلاثين رجل أعمال في روسيا. بيد ان نهاية العام نفسه قرعت طبول الخطر، فسجلت نجاح الشيوعيين وحلفائهم، ممن ركبوا موجة التذمر الاجتماعي والتدهور الأمني، في الحصول على ثلث مقاعد البرلمان الدوما. وبالتحديد، جاءت الاستعانة ببوتين إبان اخفاق البرنامج الاقتصادي الليبرالي معطوفاً على ضمور الدولة التي وجدت من "ينتقم" لها. والمنتقمون جيل أصغر سناً من "الضباط السوفيات" كانوا في ثلاثيناتهم حين انهارت الشيوعية، وفي أربعيناتهم حين انهارت اليلتسنية. وانتمى هؤلاء الى الفئة التي احتفظت بعملها في البيروقراطية أو المخابرات، فلم يجذبها القطاع الخاص والخدمات المقدمة له، خصوصاً الحماية التي كان يوفّرها ضباط سابقون أو متقاعدون لبعض رجال الأعمال. هذه الفئة مثلها ورمز اليها فلاديمير بوتين. فهي، منذ توليه رئاسة الحكومة في 1999، بدت الوحيدة القادرة على وراثة الوضع المتداعي لنظام يلتسن. وكان أكثر ما يؤرّقها الرغبة في اعادة تثبت احتكار العنف في يد الدولة، وأداء المهام الملازمة وفي مقدمها تحصيل الضرائب. وتبدّى، هنا، ان مشروعاً كهذا لا يمكن إنجازه من دون الاستعانة بالوسائل الاستبدادية التي اتسم بها التاريخ الروسي. لا بل بدا، في بدايات صعوده السياسي، كما لو ان بوتين ممزق في عواطفه ما بين الاتجاه الليبرالي الديموقراطي الذي قطع أشواطاً في العهد السابق، والاتجاه البوليسي الدولتي كما نشأ عليه في ال"كي جي بي". إلا ان جوهر مشروع بوتين، وهو ما يفسر طبيعته وتناقضاته في آن، الرغبة في الوصول الى روسيا قوية، لا بالجيش، وقد انتهت الحرب الباردة، بل بالاقتصاد أساساً. وهذا يعني، بالضرورة، تشجيع الرأسمالية والانخراط بحماسة في العولمة شرط ابقاء العملية كلها تحت جناح الدولة الاستبدادية. ولاستنهاض التأييد للدولة المذكورة، كان لا بد من مخاطبة المشاعر القومية من خلال تصعيد حرب الشيشان، وكذلك المشاعر الشعبوية الكارهة للغنى: هكذا بدأ بوتين معركته ضد الأوليغارشيا المالية، لا سيما الأوليغارشيين اليهود الذين يشكلون في عدادها نسبة مرتفعة جداً. وكان من أبرز ضحايا الحملة، التي استهدفت أيضاً الإعلام حيث تتركز بعض استثمارات الاوليغارشيين، فلاديمير غوزنسكي الذي انتهى في المنفى، وبوريس بيريجوفسكي الذي فر الى لندن، وميخائيل خودوركوفسكي الذي اعتقل. ويبدو ان جريمة الأخير، وهي كبير مدراء شركة "يوكوس" النفطية، تدخله في الحياة السياسية واتهامه بتمويل بعض الاحزاب المعارضة وربما طموحه الرئاسي أيضاً. وكان هذا السلوك دالاً على طبيعة النظام البوتيني: ففي هذه الممارسة الثأرية من أقطاب عهد يلتسن الذين حاولوا الحلول محل الدولة، ارتسمت طبيعة السلطة الجديدة: فإذا كان مطلوباً تشجيع الاغنياء، بقي ممنوعاً عليهم ان يتعاطوا في الإعلام والسياسة. ذاك أن الدولة، مع بوتين، تريد بورجوازيين يدعمونها وينفّسون احتقاناتها الاقتصادية، لكنها لا تريد بورجوازية قوية يكون لها صوتها ورأيها في الشأن العام. ولضمان هذا الهدف ذهب بوتين بعيداً في انحيازه لما هو "استبدادي" على حساب ما هو "رأسمالي"، فلم يكتف بسجن خودوركوفسكي بل جمّد ملكيته وملكية المقربين منه في شركة "يوكوس"، معتدياً على حق الملكية الذي رفعه غايدار الى مصاف المقدّس وها هم الصينيون يقولون الآن إنهم يفعلون الشيء نفسه عبر برلمانهم. وفي المحصلة، تبدو الحريات اليوم أفضل بما لا يقاس مما كانته في العهد الشيوعي. والشيء نفسه يمكن ان يقال عن الوضع الاقتصادي بعد ان نجح بوتين في تمكين الدولة وتعزيزها. فبين عامي 2000 و2004، قفز اجمالي الناتج المحلي بنسبة 25 في المئة ليصل الى 550 بليون دولار، كما تزايدت احتياطات البنك المركزي من 15.5 بليون دولار الى 85 بليوناً. وبدورها أظهرت الموازنة التي صدّق عليها مؤخراً البرلمان فائضاً للعام 2004، هو رابع فائض سنوي على التوالي. وما لا شك فيه ان الرئيس الروسي استفاد من ارتفاع أسعار النفط، كما استفاد، على نحو مفارق، من أزمة 1997 المالية التي أطاحت 70 في المئة من قوة الروبل، لكنها عززت قدرة السلع الروسية على المنافسة. لكن يبقى أن حضور الدولة كان الشرط المسبق للاستفادة من العوامل هذه ولتشكيل بيئة صالحة لاجتذاب الاستثمار الأجنبي. مع ذلك، لا تزال روسيا تعاني الفقر رغم انخفاض عدد الواقعين تحت خطه 74 دولاراً في الشهر من 50 مليوناً إبان يلتسن إلى 23 مليوناً، أو اكثر من 16 في المئة من السكان. وعلى النطاق السياسي يتعرى النظام من بقايا الليبراليين الذين ورثهم عن عهد يلتسن واحداً بعد الآخر، وكان آخر هؤلاء رئيس الطاقم الكسندر فولوشين. فالسياسة، مع بوتين، لا تُصنع عبر الحوار المفتوح والصلة بالرأي العام والتنافس الحر المتكافىء، بقدر ما تُصنع أبوياً على أيدي حفنة من الرجال المحيطين به يتجمعون في "حزب روسيا الموحدة" الذي صاغه على عجل أداة سلطوية وانتخابية، أو في "مجموعة بطرسبورغ" من موظفين، لا سيما رجال مخابرات، مقربين من بوتين سُمّوا لبعض أرفع المناصب. وفي السياق هذا يمكن فهم شعبية الرئيس بوصفها نجاحاً في الجمع بين النجاح الاقتصادي والحضور السلطوي والأمني للدولة، ونجاحاً موازياً في الجمع بين قدر من الحريات لا يرقى إلى ديموقراطية وتنفيس مزدوج، قومي من خلال حرب الشيشان، وشعبوي عبر العداء للاوليغارشيا المصبوغ بدرجة من اللاسامية ملجومة. اما الغرب فتطمئنه روسيا البوتينية من خلال توفير اجواء ملائمة للاستثمار مصحوبة بالمشاركة في الحرب على الارهاب مع الاستعداد لتحمل انتقادات أوروبية، وأحياناً أميركية، معظمها كلامي في ما خص السياسة الشيشانية وبعض التجاوزات على حقوق الانسان. ويبقى ان هذا الخليط الذي تندمج فيه العناصر الايجابية والسلبية يترك سؤالا معلقا في أفق روسيا: هل يكرر بوتين السيرة الكورية الجنوبية بحيث يخلق باستبداده المصالح والمؤسسات التي تتجاوزه، في النهاية، نحو مجالات ديموقراطية أرحب، أم يكرر سيرة المصلحين الروس القدامى الذين تواكب اصلاحهم مع تجفيف ينابيع المبادرة في المجتمع، بحيث بقيت الفوضى البديل الوحيد للديكتاتورية، والعكس بالعكس؟ الأمر الوحيد المؤكد أن تحرر الشيشان من روسيا سيكون أيضاً تحرراً لروسيا من الشيشان، على ما حصل باستقلال الجزائر من فرنسا. حينذاك فقط يمكن أن تتسارع السيرورة الديموقراطية التي يجوز التشكيك بحماسة بوتين لها بقدر ما يجوز الجزم بالانفضاض الشعبي عنه بعد انطلاقها. وهذا وذاك لا يزالان مؤجلين، ومؤجلين كثيراً على الأرجح.