ربما كان استبداد المكان هو الذي جعلنا لا نتعرّف على أديب فلسطيني نجيب إلا بعد رحيله، ذلك ان في اسم المكان سلطة تقرر الشهرة، ان كانت نافذة، وتقضي بغير ذلك، ان كان الاسم خاف الصوت. هذه هي حال حسين البرغوثي 1954-2002، الذي نشر كتبه في رام الله المحاصرة وانتظر من بيروت، بعد رحيله، ان تفك الحصار عما كتب. فهذا الفلسطيني، الذي درس الأدب المقارن في جامعة سياتل الاميركية، انجز كتابين يقتربان من الفرادة هما: "الضوء الازرق" و"سأكون بين اللوز"، ارادهما سيرتين ذاتيتين، تقولان بما اراد وتصرّحان بأمور اخرى. والكتابان حديث في النثر والشعر وفي مصائر انسان لاذ ب"جبال الطفولة" هارباً من المرض، من دون ان يستطيع الهرب منه. وربما يكون المرض هو الذي أيقظ في حامله ابداعاً كتابياً لا يتكرر كثيراً، يضعه في ذورة النثر الفلسطيني، ويتيح له ان يتبوأ مكاناً متميزاً داخل النثر، فلسطينياً كان أم من لون آخر. ويبدو كتاب "الضوء الازرق"، في قراءته الاولى، سيرة ذاتية مشظّاة، املتها ذاكرة استسلمت الى التداعي، تبحر في زمن سائل لا مركز له، يعود الى الوراء ويذهب اماماً ثم ينفلت من جميع الازمنة، قاصداً "زمناً ازرق"، هو زمن المعرفة الخالصة. ولعل الفكر الذي اراد ان "يسيل" خارجه، هو الذي وضع في الكتاب "مقدمة في علم نفس الضباب" تعرّف الاشياء بألوانها وتختصر كل انسان الى اللون الذي رغب به، وتساوي بين كاتب السيرة و"الأزرق"، الذي هو لون البحر والسماء. لن يكون معنى السارد في سيرته إلا معنى الألوان التي تجذبه وتلك التي يهرب منها. بيد ان الكتاب، الذي اراد ذاته سيرة ذاتية، لا يلبث ان يتكشف رواية حداثية بامتياز، ترى احتمال الاشياء قبل ان ترى الاشياء، وتقتفي آثار ألوان بشرية مختلفة سائلة عن معنى الوجود وعن ائتلاف الهويات واختلافها. يستولد السارد الشخصيات من كلام واضح وغامض وأقرب الى الاشارات يحمل، قلقاً، تراثاً صوفياً هاجساً بزرقة الروح في مدينة اميركية تفكر كما تعيش وتعيش كما تشاء. وواقع الامر ان بين المستويين ثالثاً واسعاً هو مبرر وجودهما، يهمش السيرة والرواية وينقذف كلياً الى عوالم "المعرفة القلبية"، التي تزهد بالبرهان وتكتفي بالايمان، الذي يلبّيه طالب المعرفة مستضيئاً ب"دليل" له روح من ذهب. وضع حسين البرغوثي، المنجذب الى "مولانا جلال الدين الرومي"، في سيرة عن ذاته وعن فلسطين ابعاداً صوفية، تساوي بين الخلق والمعرفة، منتهياً الى "الشطح"، حيث الفكر يسيل خارج ذاته واللغة تنداح الى خارجها واللسان مبتعد عن مركزه. والشطح هو "الحركة" والشاطح هو المتحرك وجوده، لا يستقر لأنه دائب التغير ولغته كحاله موزعة على المعروف والمجهول: "انني اتطور، في كل ليلة عندي جديد. بالكاد اعرف من اصير". ولعل هذا الشطح، الذي يسائل اطياف فلسطين بمنظور من جلال الدين الرومي هو الذي وضع في النص منظوراً شعرياً ونسجه بلغة متألقة طافحة بالاشارات والرموز. "الضوء الازرق" حديث الروح الباحثة عن قرائن الروح، التي تعثر في طيات اللغة على ما التقت به، وتظل سائرة في طيات الضباب. في "سأكون بين اللوز"، يكسر حسين البرغوثي كتابة السيرة الذاتية في مواقع ثلاثة: يكتب عن خبرة لم تكتمل، فلم يترك له "مطر الكيمياء" إلا ما اراد: شعراً تساقط كان اشقر، وأطلال عينين لامعتين ولهاث صدر اقرب الى ضجيج طبول تعابثها الريح، وخوفاً من المسافات القصيرة والطويلة. وهو لا يكتب خبرة حياته بل خبرته مع مرض يلتهم حياته، كما لو كان المرض هو آية الحياة الاخيرة. ولأنه موزع بين الاطياف و"سلالم الحديد التي ترفعه الى السماء"، تأتي لغته طليقة، بعيدة من التقرير والزمن الخطي الذي تأخذ به السير التقليدية. بيد ان البرغوثي وهو يستجير ب"جبال الطفولة في رام الله" طالباً الشفاء، يحمّل طلبه المستحيل فلسفته الاخيرة في الحياة. فالخروج الى المنفى خطيئة ثمرتها المرض، والعودة الى الوطن طقس استشفائي يستلزم رحلتين: رحلة أفقية في ارجاء المكان القديم، حيث كان الاهل وكانت اطيافهم، تجعل المريض جزءاً من زمن غنائي قديم، يؤالف بين الفلاحين والزيتون وبين الاقارب والافاعي الطائرة المزغردة، ويعطي الجميع "ذاكرة قمرية" تمجد الحياة. ورحلة في الذات، عمودية ان صح القول، تمضي بالمريض من لحظة المرض المهلك الى لحظة الميلاد، الى تراب الارض الذي تتحقق به، وفيه، دورة الحياة والموت. يوقظ البرغوثي اساطير الاصول ويؤمن بها، سعياً وراء الشفاء والخلود، ذلك ان الاصل المبارك، يبارك من انتسب اليه وينثر عليه الفرج والنعمة. ولعل هذه الاساطير التي ينقض بها الاستاذ الجامعي عقلانية ديكارتية، هي التي دعته الى الاحتفاء بأمرين: بداهة تناسخ الارواح، التي توحد المريض مع ابنه وتوحدهما معاً مع ارواح الاجداد المتوالدة، والتي تعد المريض بأن يعود "ولداً نبياً" يمشي بين جنائن اللوز ويكون غصناً "منوراً". والى جانب التناسخ يأتي القمر في حضوره المهيمن، فالتينة قمراء وأشجار الزيتون مقمرة وما لا يستقمر في بداية الليل يلحق به القمر في نهايته. والاحتفال بالقمر احتفال بمعناه في التصور الاسطوري، حيث القمر يوحد بين النبات والحيوان والانسان ويمدها بالنمو والنماء في هدأة الليل. في "سأكون بين اللوز" يرى حسين البرغوثي في المنفى مرضاً وفي الوطن شفاء، مؤمناً ب"ذاكرة المكان"، التي تحتفظ بملامح الطفل الذي كانه وزغاريد الافاعي الطائرة وأنين "ربابة" ترمّلت بعد غياب صاحبها. لكنه لا يُؤسطر المكان التماساً للشفاء ولعودة مباركة قادمة، بل يؤسطر ما يريد دفاعاً عن بقايا الارض التي تهددها مستوطنات اسرائيلية، لا تاريخ لها ولا ذاكرة. انه يضع ذاكرة اصلية أمام مكان اسمنتي قاهر، مقارناً بين القمر وذاكرة الفلاح الفلسطيني القمرية وضوء اصفر "كالقيح" هو ذاكرة المستوطنات القاتلة. ومع انه يعقد مقارنة حزينة بين ضوء "القمر" و"الضوء المسلح"، مشيراً الى القوة التي تفتك بالألوان الطبيعية، فإنه ينتهي الى خطاب متفائل تمليه "ذاكرة المكان". كأن المستوطنة الاسرائيلية هي مرض السرطان الذي يفتك بالمريض، وكأن اصداء الاصول البعيدة كفيلة بحماية الارض وهزيمة الامراض المختلفة. حين سأل المريض خاله عن حيوان كروي الشكل يشبه القطة يصرخ في ليلة البرية مثل طفل صغير، اجاب الخال: "انه الغريري، وربما الصوت الذي سمعته هو صوت آخر غريري في هذه الجبال"، لكنه المريض يجيب: "لا، لقد شاهدت غريرات كثيرة في مستشفى رام الله، تولد وتموت وتولد من جديد". يشتق المريض هويته من قوة الروح ودفء القمر وذاكرة المكان ومن اطياف الاصول القديمة، التي ترى في "الضوء المسلح" ضوءاً مريضاً ينتظره الرحيل. اضاف الراحل حسين البرغوثي الى فن السيرة الذاتية العربي نصين مجيدين، يفتحان اسئلة الروح على اسئلة كثيرة، وأعطى النثر الفلسطيني صفحات فريدة، تقف الى جانب ما اعطاه جبرا واميل حبيبي وتكون اطول قامة. ربما هي لوعة المرض، التي تضيف الى البصيرة الاولى بصائر كثيرة، وتجمع البصائر وترمي بها الى مصير وحيد.