لا مجال لإبعاد الهاجس الانتخابي عن تفجيرات مدريد، أكان ذلك عبر رسالة حركة "ايتا" الانفصالية في حال تأكيد تورطها لتحويل قضيتها إلى محور انتخابي في مواجهة الموقف المتشدد للحزب الشعبي الاسباني، أو من خلال اعتماد الحزب ذاته منهجية استئصال "ايتا"، استناداً إلى موقف الرأي العام الذي يدعم ذلك في مواجهة الإرهاب الأعمى الذي لا يشفع له أي التباس. لكن الاحتمال الأقرب في فرضية التزامن بين الانتخابات الاشتراعية والتفجيرات الإرهابية، ينبع من أن الديموقراطية الاسبانية التي نشأت على أنقاض حكم الجنرال فرانكو كانت أقل استيعاباً للتعددية العرقية والثقافية قياساً إلى نجاح التجارب الايطالية والألمانية والفرنسية في إقامة كيانات جهوية في إطار الدولة الموحدة. فثمة مناطق فرنسية مثل الألزاس واللورين لم تنح في اتجاه مماثل للخيار الانفصالي لمنظمة "الباسك"، في حين ان التجربة الألمانية ركزت على البعد الوحدوي، واختار الايطاليون الفضاء الاقتصادي الذي أثر ايجاباً في تطور البلاد، في الوقت الذي خلقت اسبانيا لنفسها إطاراً سياسياً واقتصادياً في نطاق الاتحاد الأوروبي اتسم في السنة الأخيرة من حكم رئيس الوزراء خوسيه ماريا أثنار بالانحياز إلى الحليف الأميركي، ما ساعد في طرح فرضيات فحواها أن الهجمات كانت بسبب دخول اسبانيا الحرب على العراق. لكن ذلك قد يحول النظر إلى التفجيرات، كونها إرهاباً مداناً، إلى انتقاد السياسة الخارجية للبلاد في ذروة الاختيار الانتخابي. ولعل ذلك كان سبب ترجيح تورط "ايتا" أكثر من أي احتمال آخر، لأنها عدو من دون منازع، قبل تفجيرات مدريد وبعدها، وتمثل خطراً داهماً ليس على اسبانيا فقط، وإنما داخل الفضاء الأوروبي كاملاً، ما يعني أن الانفصال عدو استراتيجي لجهة تعارضه والمبدأ الوحدوي، لكنه أخطر حين يستخدم الإرهاب والنزعة الفاشية التدميرية. ونجحت حكومة مدريد على خلفية هجمات 11 أيلول سبتمبر في وضع "ايتا" في خانة المنظمات الإرهابية، ما قد يعني استمرار حربها إلى الإرهاب، سواء تأكد ضلوع "ايتا" بالتفجيرات أو حمّل تنظيم "القاعدة" أو أي تنظيم متطرف المسؤولية. بالتالي تتحول الحرب ذاتها إلى برنامج انتخابي وإلى سياسة. اذ رأينا نزوع الرئيس الأميركي جورج بوش إلى المضي قدماً في سياسته الرامية إلى اعتبار الحرب على العراق وضد الإرهاب خياراً لحماية أمن الولاياتالمتحدة. كما أن الأمر ذاته ينسحب على رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. والفارق في التجارب أن الاسبان سيذهبون الأحد إلى صناديق الاقتراع مكلومي القلوب ومن دون حملات انتخابية، بينما الحلفاء الأميركيون والبريطانيون سيسعفهم بعض الوقت في استخلاص الدروس. وأقربها ان النزعات الاتفصالية، أياً تكن دوافعها، عرقية أو دينية أو سياسية، تشكل دائماً الأرض الخصبة للانفلات واستخدام العنف، بخاصة حين تؤججها مشاعر عنصرية أو أحقاد دفينة. فالتعددية في إطار الوحدة أفضل من الانفصال في إطار الصراع، وما زال الاسبان في شبه الجزيرة الايبرية يذكرون بمرارة سنوات الحرب الأهلية التي ولّت تاريخياً بعد الحرب، لكنها دفنت مع بروز الخيار الديموقراطي الذي أهّل مدريد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قبل أن يغمرها هاجس الانضمام إلى التحالف الأميركي لتصبح بريطانيا ثانية، علماً أن الأخيرة عانت "إرهاب" الحركات المسلحة الايرلندية. ومن مفارقات التاريخ، ان أميركا رعت المصالحة البريطانية - الايرلندية، لكنها من فرط التأثر بهجمات أيلول صنّفت "ايتا" تنظيماً ارهابياً، من غير أن يقوى التصنيف على منع هجمات بشراسة تفجيرات مدريد المدانة عقيدة وقانوناً وأخلاقاً. رد فعل الشعب الاسباني كان قوياً وحضارياً وديموقراطياً عبر تظاهرات الجمعة. ولأن اسبانيا أقرب إلى عالمنا العربي تاريخاً وعلاقات، كم يصبح العالم العربي أكثر حاجة إلى ردود فعل ناضجة ومسؤولة في مواجهة عربدة الإرهاب الإسرائيلي الذي يريد الأميركيون والبريطانيون وغيرهم أن يجعلوه مجرد شجرة تحجب غابة حقائق الصراع.