تواجه حكومة بريطانيا احراجاً كبيراً بعد الاتهامات الموجهة اليها بالتجسس على الأممالمتحدة عشية الحرب على العراق، وتستمر في احتجاز الأجانب من دون محاكمة، وها هي قد أحكمت دائرة السيطرة أخيراً بإصدار قانون يطلب من العاملين في مهن معينة مثل المحاماة والمحاسبة والبنوك التجسس على زبائنهم. سكان بريطانيا، الذين يتعرضون أصلاً للمراقبة المستمرة في الشوارع والمتاجر، يجدون بدءاً من الاثنين الأول من آذار مارس الجاري ان معاملاتهم المالية والقانونية لن تتمتع بالسرية التي كانت مضمونة سابقاً. رئيس وزراء بريطانيا وزوجته محاميان. كذلك وزير المال غوردن براون ووزير الدفاع جيفري هون. وربما اعتبر محامو بريطانيا أن وجود زملاء لهم في قمة السلطة سيضمن احترام الحكومة لتلك المبادئ القانونية الأساسية بالنسبة الى الديموقراطية التي عرف بها البلد. والمؤسف ان هؤلاء القانونيين لم يحموا البلد من تغييرات تبدو مناقضة تماماً لأسس العدالة والأخلاق، التي كان أمل الجميع انها لن تتعرض للانتهاك. لكن السيادة في بريطانيا تعود الى البرلمان. وبعدما رأى توني بلير وزملاؤه واحترموا مرغريت ثاتشر وهي تستعمل سلطاتها لتغيير المجتمع، لم يترددوا بدورهم في استغلال سيطرتهم على مجلس العموم - المجلس الأقوى بين مجلسي البرلمان - الى أقصى حد ممكن لإحداث التغييرات التي يريدون. وقاموا بذلك بعدما غيّروا طبيعة مجلس اللوردات، بما يزيل أي عائق أمام الحزب المسيطر على مجلس العموم. هناك كلام على تغيير أصول المحاكمات، وإلغاء حق المثول امام هيئة محلفين في أنواع معينة من القضايا. ان نظام المحلفين، حيث يقرر 12 من المواطنين العاديين تجريم المتهم أو براءته، قد اثبت نجاحه على مر تاريخ بريطانيا، وكان من بين العناصر التي اكسبت نظامها القانوني احترام العالم. واذا كان نظام المحلفين بطيء ومكلف، وكان يؤدي احياناً قليلة الى افلات المرتكبين وتجريم الأبرياء، فإنه يتسم بالانفتاح والشفافية. اذ تقدم الأدلة الى المحكمة على مرأى الجميع ومسمعهم، فيما يتكفل نظام الاستئناف، في حالات كثيرة، تصحيح أي خطأ في الحكم. لكن هذا سيتغير اذا استمرت الحكومة في مواجهة الاحراج عند تقديم الأدلة في بعض القضايا الحساسة، وعرفت ان القانونيين لن يقولوا دوماً ما تريد سماعه. فالأسهل بكثير للحكومة ترك الدعاوى الحساسة للمحاكمات السرية، واخضاع المحامين للتدقيق قبل السماح لهم بالمشاركة في هذه الدعاوى. والمتوقع لهؤلاء المحامين ان يكونوا أقل استقلالية من نظرائهم العاملين في المحاكم العلنية. واذ لم تقترح الحكومة رسمياً بعد اقامة المحاكم الخاصة، فهي تشجع على مناقشة هذه الأفكار. وعندما تؤكد دوائر السلطة الحاجة في عالم ما بعد 11 / 9 الى صلاحيات أوسع لمكافحة الارهاب الدولي، فالمحزن أن المشاريع المطروحة ستغير طبيعة الحياة البريطانية وتدمر بالضبط ما تهدف الى حمايته: الديموقراطية وحكم القانون. نحن نحاول تعليم أطفالنا الاستقامة واحترام القانون ومعاملة الناس باحترام. ونعلمهم عدم الكذب. وما يثير الأسف ان مؤدى الرسالة التي يتلقاها أطفال بريطانيا من الحكومة مطلع القرن الواحد والعشرين ان الحقيقة قد لا تكون كبيرة الأهمية. ويستمع الأطفال دوماً الى الشكوك في استقامة السياسيين، وهم يشابهون آباءهم في عدم تصديق ما يقال. الكل يتفهم ان السياسيين أحياناً يلجأون الى "تلميع" الحقيقة لاعطاء الانطباع الأفضل عن الوضع. والكل يوافق على أن السياسيين معرضون للخطأ بين حين وآخر. لكن عندما يرى الناس ان الحكومة كذبت عليهم في قضايا مهمة مثل الحرب، وانها أرسلت الجنود الى الموت على أساس كاذب، فمن الصعب بعد ذلك الثقة بما يقوله المسؤولون والفئات السياسية عموماً. يرى الكثيرون في بريطانيا أن الحكومة كانت كاذبة في ادعاءاتها حول أسلحة الدمار الشامل العراقية وسيستمرون على هذا الرأي ما لم يُعثر على تلك الأسلحة، ومهما حاولت الحكومة تغيير حججها والادعاء أنها ذهبت الى الحرب اعتماداً على قرار دولي يعود الى 12 سنة، فإن تلك الكذبة، كما يراها الكثيرون، ستبقى حيّة في الأذهان. أطفالنا يتعلمون أيضاً أو هكذا نأمل احترام القانون والمحاكم والشهادة تحت القسم. وفي كل يوم تطلب المحاكم من المتهمين والشهود ان يقسموا قول "الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة". واذا اكتشفت المحكمة انهم يكذبون، فهي تجرِّمهم بأداء القسم زوراً، وفي عدد من القضايا المهمة ساقت المحكمة سياسيين شهدوا زورا أمامها الى السجن. مع ذلك، وعلى رغم استمرار تجريم شهود الزور، فقد فرضت الحكومة على ممارسي عدد من المهن مثل المحامين والمحاسبين والمصرفيين وسماسرة العقار أن يكذبوا في الحالات التي يتطلب فيها القانون ذلك. واذا رفضوا فإنهم يدانون بجرائم جنائية. لقد بدأ منذ الأول من الشهر الجاري العمل ب"قانون أرباح الجريمة"، الهادف أصلاً الى مكافحة عمليات غسيل الأموال وقطع التمويل عن الارهاب وغيره من النشاطات غير القانونية، وهو ما يرحب به الكل من دون شك. كما ان القوانين في جميع الأحوال تتطلب تأكد كل مكاتب المحاماة والمحاسبة والبنوك من هوية الموكلين والزبائن، بمعنى الحصول على صور عن جوازات سفرهم أو الوثائق التي تثبت مكان السكنى وأيضاً أن يعرفوا شيئاً عن مصدر المال. واذا كانت هذه القاعدة مزعجة أحياناً مثلما في الاحراج عندما تطلب من موكل تعرفه من عشرين سنة صورة عن جواز سفره أو وثيقة تثبت عنوان المسكن، فإن الغالبية عادة تتفهم الوضع وتقدم المعلومات المطلوبة فوراً. أما القانون الجديد، فهو يفرض على كل المحامين والمحاسبين والمصرفيين والمتعاملين بالعقار وغيرهم إخبار السلطات عن أي معاملة يشكّون في ان أموالها من أرباح الجرائم. وقد يبدو هذا للوهلة الأولى واجباً سهلاً. فلا بد لأي مكتب أو مصرف من اخبار السلطات اذا كان يعتقد أنه يستعمل لارتكاب جريمة إنفاق أرباح مستحصلة من جريمة يعتبر جريمة بذاته. المشكلة ان في الامكان، بحسب القانون، اعتبار كل السكان تقريباً مجرمين. فقد أكدت المحاكم البريطانية، رداً على سؤال عمّا اذا كان ابلاغ السلطات عن مال مستحصل من جريمة يعتمد على مقدار المبلغ، أن لا علاقة للمقدار بالموضوع، أي ان الاستفادة من أي عملية غير قانونية، مهما كانت تافهة، تقود الى ابلاغ "خدمة الاستخبارات الجنائية" في لندن، سواء كان المبلغ المعني عشرة جنيهات أو عشرة ملايين جنيه. ويعني هذا، على سبيل المثال، أن من يشتري بضاعة أو خدمة بمبلغ نقدي ويحصل على خفوضات لأن البائع لن يضطر الى اعلان المبلغ لمصلحة الضرائب سيكون مجرماً. واذا طلب من المحامي شراء بيت باسمه، على المحامي ابلاغ "خدمة الاستخبارات". ويسري التجريم نفسه على من يدفع أجر الخادمة نقداً، من دون استقطاع الضريبة وتسجيل المعاملة في كشفه الضريبي، وعلى محاميه أو محاسبه الابلاغ عنه اذا لجأ اليه لأي غرض، حتى لو لم تكن له أي علاقة بأجرة الخادمة. واذا لم يعلن المقيم في بريطانيا لمصلحة الضرائب عن كامل مدخوله اذا كان عليه ذلك بحسب القانون، وأوكل الى محاسبه التعامل مع المصلحة، سيكون على المحاسب الابلاغ عنه اذا شعر بالارتياب عندما ينظر الى مستوى المعيشة المرتفع لذلك الشخص والمدخول المتواضع المعلن لمصلحة الضرائب. لكن للقانون الجديد تداعيات أبعد. مثلاً، هناك التقارير الصحافية في الأيام الأخيرة عمّا يبدو من مخالفة قرار غزو العراق للقانون الدولي، فيما تواصل الحكومة ازاء ذلك رفض نشر الاستشارة القانونية التي اعتمدت عليها لشن الحرب. وكانت مستشارة قانونية رفيعة في وزارة الخارجية استقالت عشية الغزو احتجاجاً على لا شرعية الخطوة، وهو موقف يتفق عليه معظم القانونيين في انحاء العالم. والحال هذه، فإن كل عسكري شارك في الحرب يعتبر مجرماً وتعتبر الرواتب التي تقاضاها منذ ذلك الحين أرباحاً من جريمة، وعلى اي محام أو محاسب يستخدمه ذلك العسكري في أي معاملة ابلاغ "الاستخبارات الجنائية". وحتى لو رفضت الحكومة التعامل مع الإبلاغ، فعلى المحامي او المحاسب القيام به والا أصبح هو نفسه شريكاً في الجريمة. اضافة الى ذلك، فان قوانين مكافحة الارهاب الصادرة منذ مدة تجرّم التآمر في بريطانيا للقيام بعملية في الخارج تعتبر جريمة لو نفذت في بريطانيا. ما هو في هذه الحال وضع المخططين العسكريين والعاملين في مجال صناعة السلاح في بريطانيا؟ هل يقعون تحت طائلة هذا القانون اذا كانت لنشاطاتهم صلة بالحرب على العراق؟ مهما كان رأي السلطات في ذلك، فعلى اي محام أو محاسب يعمل لمصلحتهم التبليغ عنهم، على الأقل لحماية النفس من تهمة عدم الابلاغ. لا يدعي أحد ان الحكومة تهدف من خلال القواعد الجديدة الى عرقلة النشاطات الاقتصادية المشروعة، لكن المشكلة هي الغموض والمسؤولية الكبيرة التي يلقيها القانون الجديد على المحامين والمحاسبين والمصرفيين وغيرهم. ان عليهم تبليغ السلطات عن أي معاملة مشبوهة والا واجهوا عقوبة قد تصل الى السجن. من هنا قررت شركة محاسبات كبيرة أخيراً تبليغ السلطات عن كل المعاملات، ما يعني اغراق الجهات المعنية بالتقارير. وما سيحصل وقتها ان الحكومة ستضع التقارير على الكومبيوتر في "بنك معلومات" يربط ما بين كل الملفات. هكذا، فالهدف من القانون لا يتجاوز القضاء على غسيل الأموال، لكن من نتائجه خلق "بنك معلومات" ثمين، خصوصاً بالنسبة الى سلطة الضرائب. الأغرب من ذلك ان القانون يعتبر إخبار الموكل أو الزبون انك ستبلغ السلطات عن معاملة تخصه، يعتبر ذلك جريمة. وفي حالتي يسمح لي القانون بكتابة هذه المقالة لأنها ليست موجهة الى موكّل محدد. لكن المقالة ستكون جريمة لو أطلعت عليها شخصاً طلب توكيلي في معاملة تبدو غير عادية. فقد يعرضني ذلك الى تهمة تنبيه الموكل ضمناً الى انني قد أبلغ السلطات عن المعاملة، وهي تهمة قد تقودني الى السجن. كما يفرض القانون على المحامي أو المحاسب الكذب على الموكل. ففي السنوات الأخيرة اقتصرت قوانين مكافحة غسيل الأموال على الأموال المرتبطة بالارهاب او المتاجرة بالسلاح أو المخدرات. وسأل مسؤول مصرفي ضابطاً من "الاستخبارات الجنائية" عمّا يجب عمله عندما يأتي شخص لفتح اعتماد ويسأل اذا كان البنك سيبلغ السلطات. وكان الجواب أن على المسؤول في المصرف القول إنه سيسأل الادارة عن الموضوع، لكنه يقوم بدل ذلك بتبليغ السلطات، ثم يعود الى الشخص ليقول له انه لن يبلّغ عن الحساب! وأضاف المسؤول الرسمي أن على البنك بعد ذلك أخذ كل المعلومات الممكنة من الشخص وارسالها الى "الاستخبارات الجنائية". بكلمة اخرى: القانون يفرض على مسؤول البنك ان يكذب، واذا لم يفعل فهو يخالف القانون. هذا بالطبع لا يتجاوز أن يكون تفسير مسؤول أمني واحد للقانون وقتها. لكنه يبين مدى ما تريده السلطات من المهنيين القانونيين والماليين: ليس مجرد التعاون بل الاستعداد للقيام بدور فاعل في التحقيق في الأموال المشبوهة. انه لا شك وضع محزن عندما يعتبر الشخص مرتكباً جريمة عندما يقول الحقيقة، ويعتبر ملتزماً القانون عندما يكذب. واذا كانت "الحرب على الارهاب"، كما يبدو، تدمّر الحريات نفسها التي يدعي السياسيون الدفاع عنها، فالحرب على غسيل الأموال تحول المحامين والمحاسبين والمصرفيين الى كذّابين. * قانوني بريطاني.