تعتبر عمليات تبييض الأموال المشبوهة من اخطر الجرائم الاقتصادية وتكمن خطورتها حقيقة في أثرها على الاقتصاد والأمن الوطني.. فالأموال المغسولة تؤدي لاستشراء الجريمة وزعزعة النظام العام وانتشار الفساد... إلخ، لذا يعد غسل الأموال قناة فلترة للأموال غير المشروعة وأحد مقومات نجاح وتوسع نشاط الإجرام المنظم، فغاسلو الأموال لا يتوانون عن البحث عن الأساليب غير المعروفة لسلطات المكافحة لإسباغ صفة المشروعية على أموالهم القذرة المصدر.. كي يتمكنوا من توظيف تلك الأموال بعد أن تكتسب الصفة القانونية في أغراض تلبي طموحاتهم الإجرامية أو رغباتهم الشخصية، ونظراً لطفرة التقنية والاتصالات وما صاحبهما من ظهور نظم اقتصادية ووسائل مالية إلكترونية حديثة.. الدول مطالبة بالرجوع إلى تشريعاتها الخاصة بمكافحة غسل الأموال لتحديثها كي تستوعب تلك الأنواع من الأنشطة الإجرامية... وبحكم أن العالم أصبح يعيش في مساحة محدودة جداً بفضل وسائل الاتصال التقني السريعة التي مكنت من نقل المعاملات المالية عبر الحدود بسرعة متناهية في ظل التوجه لعولمة الاقتصاد، هذا التطور التقني ساهم في جانب منه في تسهيل وتسريع عجلة ظهور نوع من الجرائم المستجدة، بسبب التغير الجذري في أساليب ارتكابها وتطور نظم نقدية ومالية حديثة، ومن ذلك غسل الأموال.. فبفضل سرعة انتشار واستخدام الشبكة العالمية والاعتماد عليها في التعاملات وإجراء المعاملات، نشأ نوع من الجرائم يسمى بالإجرام السيبري Cyber Crimes، نتيجة للاستغلال السلبي للتقنية وتسخيرها كأداة ووسيلة لتحقيق أغراض إجرامية، ومن ذلك جرائم غسل الأموال الإلكتروني Cyberlaundering. فتأثير التقنية تحديداً في عمل المؤسسات المالية بشكل واضح، أدى إلى تنافس محموم فيما بينها لتقديم خدماتها المصرفية لعملائها دون الحاجة إلى الذهاب للبنك عن طريق تمكينهم من إجراء بعض العمليات المصرفية عبر الإنترنت Online Banking، وظهور ما يعرف ب النقد الإلكتروني E-Money وإمكانية تداوله من خلال البطاقة الذكية Smart Card... إلخ، وكذلك بعض الوسائل الالكترونية الأخرى التي تستخدم لتسوية المدفوعات بشكل إلكتروني، مثل: بطاقات الصراف الآلي ATM وبطاقة الرصيد الدائنDebit Card وبطاقة الائتمان Credit Card والشيك الإلكتروني Electronic Check وتحويل الأموال الإلكتروني Electronic Transfer، تلك الوسائل الالكترونية تجعل من قابلية استغلالها في عمليات تبييض الأموال متصور، بسبب سهولة الحصول عليها في بعض الدول غالباً من قبل مؤسسات مصرفية غير مرخصة وبالتالي يمكن استخدامها وإجراء معاملات مالية دون الحاجة للمرور عبر طرف ثالث، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض تلك الوسائل تتميز بالسرية المطلقة بسبب تشفيرها وصعوبة تعقبها لعدم تركها أي أثر مستندي مالي، لذا يثير غسل الأموال الإلكتروني قلق الكثير من الدول، لأنه مرتبط بوجود التقنية، ويستفيد منها ومن غياب الضوابط التي تحكم تلك النظم المالية الإلكترونية، وكذلك الفراغ التشريعي بتجريمه بسبب قصور فعالية قوانين مكافحة غسل الأموال التقليدية لمكافحة هذا النوع المستحدث من الإجرام. ففي دراسة توقع جهاز مكافحة الجرائم المالية الأمريكي أن ينتشر استخدام كل من بنوك الإنترنت والنقد الإلكتروني وممارسة القمار على الشبكة العالمية بحلول عام 2020م بشكل أوسع، لاسيما أن هناك مؤشرات باستخدام الإنترنت لتحويل الأموال من قبل شركات وأفراد حول العالم مستغلين بذلك التنوع المطرد والسرية التامة في وسائل الدفع المالي المقدمة من قبل ما يسمى ببنوك الإنترنت Internet Banking والتي لا تخضع لأي رقابة مالية في بعض الدول، فثورة بنوك الإنترنت تبرز مشاكل قانونية ومالية في ظل الجهود المبذولة لحماية النظام المالي المصرفي لعدة أسباب، منها: صعوبة معرفة مصدر الأموال القذرة ومن ثم ملاحقتها، والإغراءات والحماية التي تقدمها بنوك خارجية Offshore Banks وتنعدم بها رقابة وإجراءات كشف العمليات المشبوهة، ووجود مؤسسات مالية مصرفية غير مرخصة في بعض الدول تسهل من الحصول على تلك الأدوات وينعدم فيها قواعد التحقق من شخصية العميل، وزيادة الاعتماد على النقد الالكتروني مقارنة بالنقد التقليدي، وتوفير السرية التامة للعملاء، وأخيراً تداخل الاختصاص القضائي بسبب زيادة انتشار واستخدام الإنترنت بشكل واسع مما ينبئ بمواجهة مع القوانين المحلية، هذا يستلزم تدخل السلطات الرقابية لتنظيم ووضع ضوابط لاستخدام وسائل تسوية الدفع الإلكتروني وعمل المؤسسات المصرفية غير المرخصة للحد من استغلالهما في تبييض الأموال غير المشروعة، حيث انه يتوقع في المستقبل القريب أن يطغى استخدام النقد الإلكتروني على التقليدي ما لم تتدخل جهات الرقابة المالية وتضع إجراءات وتعليمات تحكم عدم استغلال ذلك النظم المالية الإلكترونية بسبب عدم تركها أي أثر ومن ثم صعوبة إن لم يكن استحالة المتابعة. وإذا كانت بعض الدول تنبهت إلى أهمية مكافحة غسل الأموال، وبدأت بالمكافحة التشريعية كخطوة أولى، فإن ذلك يصدق على الصورة التقليدية، لكن مع تأثير التقنية في أساليب ارتكاب جريمة غسل الأموال بشكل ملموس ومن ثمَّ بروز غسل الأموال الإلكتروني كصورة مستجدة، فمن وجهة نظر قانونية تعد تلك النصوص القانونية التي شرعت بداية لمكافحة غسل الأموال في صورته التقليدية، قاصرة عن أن تشمل هذا النوع المستجد، لتنافي ذلك ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي لا يجيز التوسع في تفسير النصوص الجنائية وكذلك القياس عليها، فلابد من وجود نص قانوني يحدد صراحة أركان جريمة غسل الأموال الإلكتروني بما في ذلك وصف السلوك المادي للجريمة، لأنه ينتفي العقاب بانتفاء النص النظامي، فنحن بصدد جريمة تدخل ضمن نطاق قانون جنائي خاص آخر يسمى قانون الجرائم المعلوماتية، ويشمل هذا القانون تلك الجرائم التي تقع بواسطة الإنترنت. فقوانين جرائم غسل الأموال التقليدية سنت وفقاً لمعايير معينة لا تتناسب مع مقومات وطبيعة الجرائم الإلكترونية، ومن ذلك غسل الأموال الإلكتروني، فطرق إتيان السلوك المادي لتلك الجريمة في صورتها التقليدية مختلف، لذا كان لزاماً أن يتواكب القانون الجنائي ويتطور بشقيه الموضوعي والإجرائي ليتماشى مع الثورة المعلوماتية بشتى أنواعها لمجابهة الجديد في عالم الإجرام، فبجانب عالميتها، تتسم جرائم المعلومات ليس بإمكانية وقوعها على الكمبيوتر ذاته وبرامجه وأنظمته فحسب، إنما كذلك تشمل إلى حد ما ذلك النوع من الجرائم التي تستخدم فيه شبكات الكمبيوتر المفتوحة كوسيلة وأداة لارتكاب هذا النوع من الجرائم، ومن ذلك غسل الأموال الإلكتروني.. الذي يقع بواسطة استخدام التقنية التي وفرتها الشبكة العالمية، وقد قامت بعض الدول بسن تشريعات لمكافحة جريمة غسل الأموال الإلكتروني بتضمين تشريعاتها الجنائية الخاصة بمكافحة الجرائم المعلوماتية نصوصاً قانونية تجرم غسل الأموال الإلكتروني باعتبارها إحدى الجرائم المعلوماتية في الشق المالي ووسيلتها الإنترنت. تعد المملكة من أوائل الدول التي اتخذت خطوات جبارة لمكافحة غسل الأموال سجلت به إعجاب وتقدير الدول والمنظمات الدولية المختصة في هذا المجال نتيجة لما اتخذته حكومتنا الرشيدة من خطوات حثيثة تعد مضربا للنجاح في مكافحة غسل الأموال سواء على المستوى التشريعي أو الأمني.. وجهود رقابية ممثلة في ما اتخذته مؤسسة النقد العربي السعودي من مبادرات وضوابط بأسلوب علمي ومهني متقن ساهم في تحصين وحفظ النظام المصرفي السعودي من إن يستغل في عمليات غسل أو تمرير للأموال القذرة... كذلك قامت المملكة بخطوة موفقة لتجريم جرائم الحاسب الآلي، تمثلت في صدور نظام مكافحة جرائم المعلوماتية بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/ 17وتاريخ 1428/3/8ه لغرض الحد من نشوء جرائم المعلومات بتحديد تلك الجرائم والعقوبات المقررة لها، وقد عرف النظام الجريمة المعلوماتية في المادة الأولى، بأنها: "أي فعل يرتكب متضمناً الحاسب الآلي أو الشبكة المعلوماتية بالمخالفة لأحكام هذا النظام"، فوفقاً لمضمون هذا التعريف يفهم أن جريمة غسل الأموال .. جريمة إلكترونية.. لأنها ترتكب باستخدام إحدى وسائل الدفع الإلكتروني وبواسطة شبكة المعلومات العالمية.. مقارنة بما ورد في المادة الثانية من نظام مكافحة غسل الأموال الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/ 39وتاريخ 1424/6/25ه، لكن لم يتم النص على تجريم غسل الأموال في صورته الإلكترونية في نطاق نظام مكافحة جرائم المعلوماتية، ويعد هذا بلا شك نقص تشريعي يجب تداركه بإضافة نص قانوني لذلك النظام بالنص على تجريم غسل الأموال الإلكتروني في نطاق نظام مكافحة جرائم المعلوماتية، ليتناسق مع مبدأ شرعية التجريم والعقاب المنصوص عليه في المادة الثامنة والثلاثين من النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي الكريم رقم أ/ 90وتاريخ 1412/8/2ه، وما جرت عليه الأنظمة المقارنة بهذا الشأن... . @ أكاديمي.