فرحت عندما أعطاني الصديق سمير فريد كتابه الجديد "أدباء العالم والسينما"، فأنا أعرف مكانة سمير فريد بين نقَّاد السينما على امتداد العالم العربي، كما أعرف إخلاصه النادر لفن السينما الذي وهبه حياته، ولم يترك باباً من أبواب المعرفة اللازمة لاستكمال أدوات نقد هذا الفن إلا اقتحمه. ولذلك أصبح واحداً من الثقات في هذا الفن، وموسوعة معرفية من الخبرات والمشاهدات والمعلومات التي تسعف أمثالي من هواة السينما في أي وقت. وقد دعمت قراءات سمير فريد الفكرية - في أجناس الإبداع المختلفة - رؤاه النقدية في السينما، وأكسبتها عمقاً لا يكفّ عن التجدد مع المتابعة الدؤوب التي تستحق التقدير والإشادة. وأتصور أنه لولا ضغوط الحياة اليومية، وغول الصحافة الذي لا يكفّ عن المطالبة بالكتابة اللاهثة والمتابعة العاجلة، لكان لسمير فريد مع أقران له مثل كمال رمزي وعلي أبو شادي في مصر، وقصي درويش وإبراهيم خارج مصر شأن آخر، وكتابات تنظيرية وتطبيقية، أكثر شمولاً وإضافة لنظرية السينما بمفاهيمها المختلفة وتياراتها المتعددة، خصوصاً في مستويات التأصيل التي تظل في حاجة إلى الكشف. لكن يشفع لسمير فريد وأقرانه إخلاصهم لهذا الفن السحري الذي غدا علامة عصرنا بقدرته الفذَّة على تجسيد التآزر الخلاق بين أحدث مخترعات التكنولوجيا العصرية وأعمق الرؤى التي تجاوز المحدود ومكانها المتعين لتغدو رؤى عالمية إنسانية بكل معنى الكلمة. ولذلك ذهب غير واحد من منظّري الفن إلى أننا نعيش في زمن السينما بوصفه الفن الذي يجمع بين كل أنواع الفنون الموسيقي، والتصوير والنحت والعمارة والفوتوغرافيا والرقص والتمثيل وأجناس الأدب المختلقة في توليفة لا تكف عن الاكتمال بفعل التقدم المذهل والمتزايد في المخترعات التي أتاحت لهذا الفن السحري النفاذ إلى ما لم يكن النفاذ إليه ممكناً من قبل. وعندما يشيع سمير فريد وأقرانه - ومن قبلهم مؤرخو الفنون من أمثال أرنولد هاوزر في كتابه الشهير "التاريخ الاجتماعي للفن" - أننا نعيش في عصر الفيلم، أو زمن السينما، حماسة منهم للفن الذي لا يكفّ عن التجدد واختزال كل الفنون في رحابه، فإنهم يؤكدون بأكثر من معنى، وعلى نحو غير مباشر، أننا نعيش في زمن الرواية التي لا تزال تمد السينما بروائعها، شأنها في ذلك شأن القص في شكل عام، سواء في شكل القصة القصيرة التي رأى فيها المخرجون المبدعون إمكانات ثرية لأفلام ناجحة، أو شكل المسرحية التي يحيلها "السيناريو" إلى سرد روائي، هو نبع لا ينضب لفن السينما. وسواء كنا نتحدث عن أجناس الأدب في شكل عام، أو جنس الرواية في شكل خاص، في صلتهما بالسينما، فإننا نتحدث عن علاقة متبادلة، يتبادل طرفاها التأثر والتأثير، فكما أخذت السينما من الأدب روائعه التي تحوّلت إلى مصدر لا ينضب من الإلهام، على النحو الذي جعل من العمل الأدبي الواحد مصدراً للكثير من الأفلام، فإن السينما منحت الأعمال الأدبية التي انطلقت منها مدى لا نهائياً من الانتشار الجماهيري ما كان يمكن أن تصل إليه هذه الأعمال وهي حبيسة أغلفة الكتب. يضاف إلى ذلك أن تقنيات السينما أعارت نفسها للكتابة الأدبية التي أفادت من الأساليب السينمائية في التزامن والمشاهد الارتجاعية والكشف المزدوج والتناوب واللقطات المقرَّبة والقطع وتراكب الصور والخفوت التدريجي والإدماج وغيرها. وأتصور أن المناقلة يسيرة - من هذا المنظور - بين أجناس الأدب وألوان السينما المختلفة. وهي مناقلة أتاحت لسمير فريد أن يكون ناقداً للأدب في معالجته الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية، وذلك في الوقت الذي لم تفارقه خبراته السينمائية التي دفعته إلى رفض المعالجات السينمائية التي حرصت على النقل الحرفي أو شبه الحرفي للأعمال الأدبية. ولذلك نراه يمايز في مقدمة كتابه بين ثلاثة أنواع متراتبة قيمياً من العلاقة بين الأدب والسينما. النوع الأول - وهو الأدنى - يمثل الفيلم الذي يترجم العمل الأدبي إلى لغة السينما ترجمة أقرب إلى الحرفية بدعوى احترام النص الأدبي، كما في الكثير من الأفلام السوفياتية من طراز رواية "الحرب والسلام" للكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي التي أخرجها سيرجي بوندار تشوك. وهي ترجمة بدا معها الفيلم كأنه تصوير لصفحات الرواية المكتوبة، وتحويلها إلى صور يتابعها المشاهد. ولا تختلف عن هذا النوع - في القيمة السالبة - الأفلام التي تحيل الإبداعات الأدبية إلى أفلام تجارية، مشحونة بالجنس والعنف لاجتذاب المشاهدين السُّذَّج، ومن أمثلة ذلك - في ما يرى سمير فريد - أفلام المخرج المصري حسام الدين مصطفى الذي أفلح في تشويه رائعتي دستويفسكي "الجريمة والعقاب" و"الإخوة الأعداء" وأخرج منهما ما لا يمتّ إلى روعة الأصل وعمقه بحال. ويبرز هذا النوع من التمثيل - على نحو ضمني - القيمة العالية للأفلام التي يتعامل أصحابها مع الأصل الأدبي بوصفه نقطة انطلاق في عملية تحويل جذري من مجال إلى مجال، ومن لغة إلى لغة مختلفة. هذا النوع الأعلى في القيمة يحقق ما يسميه سمير فريد الإبداع على الإبداع، أي تجسيد رؤية إبداعية لمخرج في موازاة الرؤية الأصلية للكاتب، وذلك من المنظور الذي يجعل من العمل الأدبي الأصلي مصدراً للوحي السينمائي الذي يحسب على مخرجه وليس على الكاتب الأصلي الذي أبدعه. ومن هذا المنظور الأخير، يمكن الأفلام المأخوذة عن الأعمال الأدبية أن تنتقل بسهولة فائقة من دائرة الموازاة الإبداعية إلى دائرة التفسير الذي يتجسّد بالتركيز على نقطة أو موضوع أو محور بعينه في الأصل الأدبي، وإعادة صياغته بلغة السينما التي تستلزم - في هذه الحال - درجات متعددة من تحويل الأصل بواسطة عمليات من التكبير أو التصغير أو التبديل أو التقديم والتأخير أو الحذف والإضافة، وذلك كله بما يحقق رؤية المخرج التي هي خلق مستقل بمعنى من المعاني أو إبداع مواز بكل المعاني. وفعل التفسير الذي ينطوي عليه عمل المخرج الذي يقوم بالصياغة السينمائية للعمل الأدبي هو فعل ضروري، لا يمكن أن يكون لفيلمه وزن من دونه، بل إن هذا الفعل هو الذي يحدد قيمة الفيلم من حيث عمقه وثرائه، ومن حيث الإضافة الكمية والكيفية التي يضيفها إلى المعاني الممكنة للعمل الأدبي الذي أخرجه. وهذا هو السبب الذي يدفع الكثير من المخرجين إلى إعادة إخراج العمل الأدبي نفسه سينمائياً، وذلك عبر السياق الممتد لاختلاف الأجيال وتنوع التيارات الفكرية وتباين الرؤى الجمالية. ولذلك رأينا رواية نابوكوف الشهيرة "لوليتا" تخرج سينمائياً في عملين على الأقل، أولهما من إخراج ستانلي كوبريك وبطولة جيمس ميسون سنة 1962 وثانيهما من إخراج أدريان لين بطولة جيرمي أيرونز سنة 1998. ويمكن أن نقول الأمر نفسه عن رواية همنغواي البديعة "العجوز والبحر" التي أخرجها جول سترجس سنة 1958 وقام بتمثيلها الممثل سبنسر تراسي الذي نال جائزة أفضل ممثل في الفيلم الذي نال جائزة أفضل تصوير جيمس ونج هو وأفضل موسيقى ديمتري تومكن. وقد أعاد المخرج جود تيلور إخراج الفيلم نفسه سنة 1998، من إنتاج التلفزيون البريطاني، بأسلوب مغاير وبطولة أنتوني كوين الذي حاول منافسة سبنسر تراسي. لكن الأمثلة الأوضح هي الأمثلة التي ترتبط بأعمال تنطوي على قدر غير محدود من الثراء الذي يجعل العمل الأدبي يشع في اتجاهات دلالية لا نهاية لها، وهي اتجاهات تجتذب إليها المخرجين الذين يقعون في شرك الثراء الدلالي لهذه الأعمال، ويشعرون - في أعماقهم - أنها أعمال تظل في حاجة إلى الكشف السينمائي. ولذلك لا نستغرب المرات الكثيرة التي تحولت بها التراجيديا الشهيرة لشكسبير هاملت، الملك لير، مكبث، روميو وجولييت... إلخ إلى أفلام تظل تثير شهية المخرجين اللاحقين إلى إعادة إخراج الأصل من جديد للكشف عن المعاني الكامنة التي ستظل دائماً في حاجة إلى الكشف. وما يقال عن شكسبير في المسرح يقال عن دستويفسكي في الرواية. ونعرف ذلك من كتاب سمير فريد الذي يحدثنا أن هناك أكثر من أربعين فيلماً صامتاً وناطقاً أعدَّت عن ثلاث عشرة رواية من روايات دستوفيسكي، وأن رواية "الجريمة والعقاب" ظهرت في أحد عشر فيلماً، و"الإخوة كرامازوف" ظهرت في ستة أفلام، وأضف إلى ذلك غيره من الأفلام التي يذكرها سمير فريد ويتحدث عنها في القسم الخاص بالدراسات المطوَّلة في كتابه. ويتوقف سمير فريد في كتابه وقفات تراوح بين القصر والطول على خمسة وعشرين كاتباً عالمياً، منهم إيتماتوف الروسي وفانشورا التشيخي وهنري جيمس الأميركي وكاربنتيه الكوبي وغونتر غراس الألماني وفوينتس المكسيكي وبيراندلو الإيطالي، ويضيف إلى هؤلاء الأدباء الذين نالوا شهرة أوسع من أمثال جون شتاينبك وغوته وتشيخوف وتولستوي وآرثر ميللر ودستويفسكي وهمنغواي وغيرهم. لكن يمكن أن نلحظ معه أن عدداً بعينه من الكتَّاب يجتذب إليه السينما على نحو دال، يرجع إلى كثافة اللغة البصرية للأديب، أو إلى جاذبية عوالمه، أو تشويق موضوعاته أو ثراء معالجته، أو غير ذلك من أسباب الجاذبية التي يتميز بها بعض الأدباء في علاقة كتاباتهم بالسينما. وظنِّي أن الدوافع التي تدفع بعض النقَّاد - ومنهم سمير فريد - إلى تشجيع السينما على المضيّ في الإفادة من الإبداع الأدبي، وعدم التوقف عن ذلك في السياقات التي تشمل الأدب القديم والوسيط والحديث والمعاصر، تقابلها دوافع مضادة تطالب بابتعاد السينما عن الأعمال الأدبية، والكتابة لها على نحو مستقل، وذلك بحجة أن الاعتماد على السينما يجعل المجال محدوداً أمام المخرج الذي يجد نفسه مقيَّداً بنص لا يمكن الخروج عليه في النهاية. وقد أدَّت هذه الدوافع إلى موجة مضادة للأخذ عن الأعمال الأدبية، وقد استمرت هذه الموجة لفترة، لكنها سرعان ما انحسرت، وعادت الأعمال الأدبية بقوة إلى الشاشة. وكان ذلك مقترناً بالرد على دعاوى الرافضين لتوثيق العلاقة بين الأدب والسينما. وقد انبنى هذا الرد على تأكيد حرية المخرج في التعامل مع الأصل الأدبي الذي لا يوجد قيد على عمليات أو أساليب تحويله إلى فيلم. فالمخرج من حقه - مع السيناريست - أن يستوحي فكرة أو تيمة من العمل، ومن حقه أن يجمع بين أكثر من عمل كما حدث في قصص تشيخوف القصيرة في الفيلمين اللذين أعدَّهما جوزيف هاينتس سنتي 1959 و1966. ومن حق المخرج كذلك أن يقدم النص القديم في رؤية عصرية تماماً، كما فعلت السينما الأميركية بروايات شكسبير "العاصفة" و"هاملت" و"الملك لير" التي تحولت إلى تراجيديات معاصرة في العالم الذي عشنا في أواخر القرن العشرين. ولا يبتعد عن هذا الحق أن يكون هناك عمل يقوم على ضفيرة يتوازى فيها القديم والجديد، أو تتيح فيها السينما تفسيراً ثرياً في جدته لأحد الأعمال الأدبية، كما حدث في الفيلم الشهير "شكسبير يحب" الذي هو تصوير روائي للكيفية التي كتب بها شكسبير المُتَخيَّل طبعاً مسرحيته الرائعة "روميو وجولييت" والتي كانت نهاية عرضها إرهاصاً بانتهاء الحب الذي لا نجاة منه إلا بإبداع أعمال أخرى. وكانت البداية "العاصفة" التي نسمع أسطرها الأولى من البطل في المشهد الأخير من الفيلم. وما دمت أتحدث عن مسرحية "روميو وجولييت"، فمن المفيد أن أشير - بعيداً عن الصيغ السينمائية المتعددة في إخراجها - إلى ذلك النص التهكّمي الذي صاغه الفيلم "تروميو وجولييت" الذي أخرجه جيمس جن ولويد كوفمان سنة 1997، وهو محاكاة هزلية ساخرة للمأساة القديمة في صورة عصرية، تستبدل بالأسرتين الإيطاليتين المتعاديتين قديماً في فيرونا أسرتين تنتسبان إلى المافيا في أميركا المعاصرة. وهذا النوع من المحاكاة الساخرة Parody انتقل من الأدب إلى السينما، ومن السينما إلى الأدب، وهو يستخدم على سبيل تقديم رؤية معارضة للرؤية القديمة، وساخرة من مضمونها، وذلك من طريق إبراز عناصر الموضوع القديم من طريق الهزل الذي يُراد به الجد. والمقصود من مثل هذه الأعمال إحداث صدمة في المتلقّي بالطبع، ودفعه إلى اطّراح الهالة التي تعود - أو عودته الثقافة - على وضعها حول هذه الأعمال الكلاسيكية الخالدة؟!. وقد تدفع الصدمة في مثل هذه الأعمال الساخرة المشاهد إلى النفور كما حدث لي بعد أن شاهدت فيلم "تروميو وجولييت" الذي أفسد عليّ المعاني النبيلة الرقيقة والجليلة التي لا تزال مقترنة برواية الحب الشهيرة في خيالي. وسواء وافقني القارئ المحب للسينما أو لم يوافقني، فإن القضية التي أريد تأكيدها أن اعتماد الفيلم على أصل أدبي لا يمكن أن يسجن خيال المخرج الخالق بحال حتى لو كان الأمر على مستوى التشويه المتعمَّد والتهكم الخشن على طريقة جيمس جن ولويد ماكلاود. ولا أزال أؤمن ان علاقة الأدب بالسينما تتيح للأخيرة من الإمكانات والآفاق ما يدفعنا - نحن المشاهدين - إلى أن في الفيلم ما لم نره في الأصل الأدبي، بل ما يجعلنا في غنى عن هذا الأصل ما ظل الفيلم محافظاً على خصائصه الإبداعية المستقلة وثرائه السينمائي الذي لا حدود لإمكاناته، خصوصاً بعد أن تقدمت التقنيات السينمائية على نحو غير مسبوق. وكل المقالات والدراسات التي يحتويها كتاب سمير فريد تؤكد هذه الحقيقة على نحو ساطع، فهو واعٍ كل الوعي أنه يتحدث عن "أفلام" وليس عن أعمال أدبية، وحتى لو اضطرّه السياق إلى المقارنة بين النص السينمائي والنص الأدبي، فذلك على سبيل تأكيد الإبداع الموازي أو الإمكانات الخلاّقة للمخرج في التفسير وإعادة الإنتاج على السواء. وكنت أرجو لو أفاض سمير فريد في هذه القضية بما يزيدها وضوحاً، وذلك بأن يتوقف - مثلاً - للمقارنة بين الأفلام المتعددة المأخوذة عن عمل أدبي واحد، وليكن "هاملت" أو غيره. لكنَّ ما قام به - في النهاية - يكفي لتوصيل رسالته المضمرة في الكتاب كله، وهي رسالة في مصلحة العلاقة الخلاَّقة بين الأدب والسينما.