بعد تفجيرات 11 أيلول سبتمبر في الولاياتالمتحدة وإسقاط نظامي "طالبان" وصدام حسين، أصبحت الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي الى حدّ بعيد مرتبطة، شئنا أم أبينا، بالنظرة الدولية الى مستقبل منطقتنا. كيف يمكن الديموقراطي العربي والإسلامي أيضاً ان يسعى الى هدفه الديموقراطية وهو واقع بين ضغط دولي أميركي وانكفاء شعبي يتحصن بالتراث والتقليد. هنا أجوبة أربعة على المسألة: في تموز يوليو 1798، رست سفن الأسطول الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت على الشواطئ المصرية، واحتلت الإسكندرية، ومنها زحفت قوات الحملة الفرنسية على بقية الديار المصرية ثم اتجهت شرقاً لغزو بلاد الشام. كانت مصر وبلاد الشام، بل ومعظم البلدان العربية، في ذلك الحين، ومنذ عام 1517، تحت الحكم العثماني المملوكي. أي أن الاحتلال الفرنسي الوافد في أواخر القرن الثامن عشر، أتى ليقتلع ويحل محل احتلال أقدم بحوالى ثلاثة قرون. وكان هذا الأخير وصل إلى أقصى درجات الانحطاط الإداري، والفساد السياسي، والظلم الاجتماعي، والاستغلال الاقتصادي، والجمود الثقافي. وانعكس ذلك كله في وهن الإمبراطورية العثمانية - المملوكية في حماية مصر والشام وفي صد الحملة الفرنسية. وبعد معركة خاسرة قرب أهرامات الجيزة، فر المماليك إلى الصعيد، واكتفت القوات العثمانية بموقف الحياد، وانسحبت إلى إحدى ضواحي القاهرة. وهكذا أصبح المصريون، والشوام في ما بعد، في صدد احتلالين. أولهما عثماني - مملوكي متخلف ومستبد، ولكنه يحكم باسم "الإسلام". فالسلطان في الأستانة إسلامبول يلقب نفسه ب"الخليفة" أو "أمير المؤمنين". وثانيهما أجنبي الوجه، افرنجي اللسان، مسيحي الديانة. ولكنه جاء واعداً بتخليص الناس من حكامهم الأتراك والمماليك، ورافعاً شعارات جديدة وجذابة وإن كانت غامضة، حول "الحرية" و"الإخاء" و"المساواة"! وبعد الصدمة الأولى لمشهد الاحتلال الجديد، وعلى رغم كراهية الاحتلال القديم، فإن رد الفعل التلقائي للناس كان مقاومة الاحتلال الفرنسي الجديد، لأنه "أجنبي" و"غير مسلم". وكانت المقاومة أساساً محلية، تمثلت في ثورتين شعبيتين في القاهرة، وحرب عصابات ضد القوات الفرنسية في الصعيد، وفي مقاومة بأسلحة لأحمد باشا الجزار، حاكم عكا. وهو ما استنزف قوات الحملة الفرنسية، واضطرها في نهاية السنة الثالثة للجلاء والعودة إلى فرنسا. ولم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحملة الفرنسية. ففي تلك السنوات الثلاث للحملة مرت مياه كثيرة تحت جسور مصر والبلدان العربية. وبدأت محاولات محلية للتحديث: في مصر على يد محمد علي، وفي العراق على يد داوود باشا، وفي لبنان على يد بشير الشهابي، وفي تونس على يد خير الدين باشا. وأنجزت هذه المحاولات تقدماً محسوساً. وكانت أحدى وسائله إرسال البعثات إلى أوروبا، وجلب الأساتذة والخبراء الأوروبيين إلى البلدان العربية. ومع منتصف القرن التاسع عشر، بدأ ما يسميه المؤرخون العرب "عصر النهضة". وكان من رموزه الطهطاوي، وعلي مبارك، والشدياق، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، وشكيب ارسلان. ومنذ ذلك الحين منتصف القرن التاسع عشر وإلى مطلع القرن الحادي والعشرين، يتردد السؤال نفسه، وإن بألفاظ ومسميات مختلفة: "هل نأخذ بالجديد الوافد، أم نتمسك بالقديم المتجذر؟". وفي أمور الشريعة والدين أخذ السؤال نفسه صورة مساجلة بين "التجديد" و"التقليد"، أي بين "المجتهدين" و"السلفيين". المشكلة في صوغ السؤال عبر سبعة أجيال متتالية، هو "اللاتاريخية" و"الإنعزالية". فثمة افتراض ضمني أن العرب، من دون بقية الشعوب والمجتمعات، يستطيعون الاختيار الحر، بين هذا وذاك، كما لو كان "الزمن" توقف أو تجمد، أو أنكى من ذلك كما لو كان "الزمن" سيظل متوقفاً جامداً، إلى أن ينتهي "العرب" من حواراتهم وسجالاتهم. وثمة افتراض ضمني آخر، هو أن "العرب" يستطيعون أن يقرروا أو يختاروا بمعزل عن جيرانهم من الأتراك والإيرانيين والأفارقة، وبصرف النظر عن اختيارات هؤلاء الجيران، أو بمعزل عن القوى الكبرى الحاكمة في النظام العالمي. فمنذ سقوط غرناطة، آخر المعاقل العربية في الأندلس، عام 1492، واندحار العثمانيين عند أسوار فيينا عام 1983، ومصير العرب والمسلمين تقرره أساساً قوى خارجية، غير عربية وغير إسلامية. وباءت معظم محاولات العرب والمسلمين في تقرير مصيرهم الحضاري والسياسي والاقتصادي في استقلال تام عن هذه القوى بالتعثر أو الفشل التام. والاستثناءات القليلة التي أفلتت من هذا الفشل هي التي أدركت القواعد الحاكمة للنظام العالمي. وهي التي دعت منظومة القيم الرئيسة للتقدم الإنساني. وضمن منظومة قيم التقدم هذه "الحرية"، و"العقلانية"، و"المسؤولية"، و"المساواة". وتأتي "الديموقراطية" كتجسيم إجرائي مؤسسي لهذه القيم الأربع. والقراءات المغلوطة للتاريخ العربي الإسلامي، وللتاريخ الأوروبي - الغربي، هي التي أدت بالمصلحين والمثقفين العرب إلى الدوران العبثي حول "الذات" الجماعية المتخلفة، أو حول "الآخر" المتقدم، من دون إنجاز مبهر ومستمر، والذي كثيراً ما كان ينتكس، لنعود إلى بداية الحلقة المفرغة نفسها. والمحزن هو أن الإجابات النمطية التي انتصرت لأحد أطراف الثنائيات الزائفة مثل "الثابت" و"المتغير"، أو "الوافد" و"الأصيل"، أو "الحداثة" و"التراث"، أو "التقليد" و"التجديد"، أو "الداخل" في مقابل "الخارج" - باءت جميعاً بالفشل، لأنها تجاهلت المنظومة القيمية للتقدم، وهي الحرية والعقلانية والمساواة والمسؤولية، والتي تتوجها الديموقراطية "كنظام" أمثل لإدارة المجتمع والدولة. إن الذي انتهى إليه علماء الاجتماع والسياسة، والمشتغلون بالفلسفة والنقد الأدبي، هو أنه لا يوجد نظام سياسي أو اجتماعي مثالي. ولم توجد في الواقع، وربما لن توجد أبداً "مدينة فاضلة" تسودها الفضائل المطلقة مثل الحق والخير والجمال. وعلى رغم التشبث بحلم "المدينة الفاضلة" أو "المجتمع الطوباوي"، إلا أنها لم تتحقق أبداً، إلا في الخيال السياسي. في الغرب، كان آخر المحاولات الطوباوية، التي انطوت على هندسة اجتماعية واسعة النطاق هي "النازية" في ألمانيا و"الفاشية" في إيطاليا وإسبانبا، و"الماركسية" في روسيا وأوروبا الشرقية. ودفعت الإنسانية ثمناً باهظاً نتيجة هذه المحاولات الطوباوية في القرن العشرين، كما في قرون أخرى سابقة. وعندنا - كعرب ومسلمين - تمت تجربة "التقليد"، بالعودة الى التراث والنهج على منوال السلف الصالح، في القرن الهجري الأول. وشهد القرنان الأخيران محاولات عدة، كانت أولاها "الوهابية" في الجزيرة العربية، مروراً "بالمهدية" في السودان، والسنوسية في بلدان المغرب العربي. وكان آخرها في العقود الثلاثة من القرن العشرين "الخومنية" في إيران، و"الترابية" في السودان، و"الطالبانية" في أفغانستان. ولم تنجح هذه المحاولات في تحقيق "الفردوس الموعود"، أو في استعادة "الفردوس المفقود". ودفعت شعوبنا ثمناً إنسانياً باهظاً. وإلى جانب هذه المحاولات "الإسلاموية" بحثاً عن "الفردوس" أو سعياً الى المدينة الفاضلة، كانت هناك محاولات "فاشية" قادها العسكر العرب والمسلمون، من مصطفى كمال أتاتورك في تركيا إلى عبدالناصر في مصر، وحزب البعث في العراق وسورية، والقذافي في ليبيا. وعلى رغم بداياتها القصيرة الواعدة، إلا أن جوهرها وذيولها الممتدة كانت كارثية ولا تزال. ومرة أخرى غابت عن المحاولات "الإسلاموية" السلفية، كما عن المحاولات "الفاشية" "الشعبوية" المنظومة الحقيقية لقيم التقدم، أي تلك التي تبدأ "بالحرية" كقيمة مركزية لتحرير الإنسان، وإطلاق طاقاته المبدعة، وتنتهي بالديموقراطية كنظام "أمثل" لإدارة شؤون المجتمع والدولة. وإلحاحنا على نظام "أمثل" وليس "مثالياً"، هو بمعنى أفضل نسبياً، أي أحسن من غيره. ولكنه ليس مُنزهاً من الأخطاء أو المفاسد البشرية. بالعكس، تكمن أفضليته النسبية في أنه يعترف باحتمال وقوع هذه الأخطاء والمفاسد. ولكنه يحترس منها بآليات واقية، مثل حكم القانون، والشفافية، والحساب والعقاب، لا في الآخرة، ولكن هنا في الدنيا، وليس يوم القيامة، ولكن دورياً كل سنة أو أربع أو خمس سنوات. لقد أدرك الفيلسوف الألماني "وليام كانط" أن المجتمعات الديموقراطية ليست مثالية، ولكنها أفضل ما توصلت إليه الإنسانية في مسيرتها الطويلة وبعد كل محاولات التجربة والخطأ، وبعد أهوال لا تحصى. وضمن الفضائل النسبية وليست المطلقة لأنظمة الحكم الديموقراطية أنها لا تلجأ إلى الحروب أو الصراعات المسلحة ضد بعضها بعضاً. ومن هنا كان أحد أحلام كانط لتجنيب البلدان الأوروبية الحروب الممتدة المدمرة. ولم يتحقق هذا الحلم إلا من خلال تجربة الوحدة الأوروبية، التي كان شرط الانضمام اليها، أن يكون نظام الحكم في البلد الراغب في الانضمام ديموقراطياً. وهكذا شهدت أوروبا أطول فترة في تاريخها الحديث بلا حروب، لأكثر من نصف قرن 1945- 2004 وكذلك شهدت أوروبا الموحدة مع السلام رخاءً غير مسبوق في تاريخها كله، قديماً ووسيطاً وحديثاً. والذين يشككون في الديموقراطية من الحكام العرب ومثقفيهم بدعوى أنها تتعارض مع الثقافة أو الدين والتراث هم بالقطع مخطئون في أحسن الأحوال، ومُغرضون في أسوأ الأحوال. فلا المسؤولون ولا المثقفون، الهنود - وهم أكثر "شرقية" من العرب والمسلمين، واقدم منهم حضارة وتاريخاً - خاضوا مثل هذه المعركة الوهمية حول الديموقراطية. ولم ينخرطوا في مثل هذه المفاضلات الزائفة بين "الأصالة" و"المعاصرة". إن الهنود أكثر اعتزازاً بماضيهم وحاضرهم وأكثر تطلعاً إلى مستقبلهم الذي يتوقعون فيه أن يكونوا دولة عظمى في مصاف الولاياتالمتحدة وأوروبا الموحدة. والهنود أكثر قدرة على حماية وطنهم. وأنجزوا كل ذلك في ظل نظام تعددي ديموقراطي، يزداد رسوخاً بمرور السنين. إن الذين يختبئون وراء التراث والأصالة للتشكيك في قيم التقدم والديموقراطية، لا يستطيعون تقديم بديل مقنع تاريخياً، أو متسق منطقياً، أو تم اختباره تجريبياً. والمثقفون منهم، أي من يحترفون صناعة الكتابة وتوجيه الرأي العام، هم من حيث يقصدون أو لا يقصدون، يزيّفون وعي "الجماهير"، ويقلّصون المبررات المعنوية لاستمرار الاستبداد الشرقي، سواء تحت ستار "الإسلام" أو "العروبة"، أو من خلال فقه مغلوط، هو فقه للنكاية حيناً، وللذرائع أحياناً. فليسامحهم الله على ما يقترفونه من ذنوب. أما شعوب الأمة فلن تصفح لهم أبداً، والتاريخ سيقذف بهم في مزابله. * رئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية - القاهرة