نشرت صحيفة "الحياة" في عددها الرقم 13309 الصادر بتاريخ 16 آب اغسطس 1999، موضوعاً تحت عنوان "قبرص الارثوذكسية تولي عناية لمساجدها الاسلامية"، وهو مأخوذ عن الادلة السياحية القبرصية اليونانية، وقد حاول كاتبه ان يكون محايداً غير ان المعلومات التي توافرت لديه جعلته يفقد الحيادية. تعود القضية القبرصية الى جذور تاريخية عميقة حكمتها ظروف الموقع، فهي لم تكن سوى حجر المرتقى لكل من يقصد بلاد الشام أو مصر أو تركيا، ومن هنا جاءت اهميتها. وارتباطها بهذه البلاد، وبالامبراطوريات والدول التي حكمتها بل وبالحضارة الغالبة، يفسر ازدواجية الهوية القبرصية الحتمية، هذه الازدواجية الناتجة عن الموقع المحوري بين حضارات كبرى. والموضوع المنشور في "الحياة" يكرس احادية الهوية القبرصية ويحصرها في الهوية اليونانية، متغافلاً عن الهوية الاسلامية... بينما يعكس الفن القبرصي اليدوي الذي تقدمه قبرص اليونانية للسائحين كفن الخزف تلك الازدواجية، وكأن الجاني يقدم الدليل على جنايته ضد المجني عليه. فأحد اشهر الاطباق الخزفية القبرصية تتضمن زخارفه شجرة الحياة التي تتوسط ديكين، وهو تأثير ساساني اسلامي وسط زخارف نباتية اسلامية بين عناصر محلية، محلاة بفن التذهيب الذي ابتكره المسلمون في القرن الثاني عشر الميلادي، بألوان عثمانية الابتكار. هكذا كان قدر قبرص اذ تعاقبت عليها حضارات شعوب عدة بدءاً من الفراعنة الذين تدل المكتشفات الاثرية الحديثة على وجود حضاري لهم في قبرص، وذلك قبل الوجود الاغريقي، بحيث تحولت الجزيرة في عصر الاسرة 26 الفرعونية محطة للهجرات الاغريقية لشمال مصر، وأسس الاغريق قرى سكنوها ابرزها مطوبس، ثم للهجرات الرومانية والقرطاجية، وانتهاءً بالبيزنطية. ومنذ ان فتح المسلمون بلاد الشام ومصر، خضعت الجزيرة تارة للحكم الاسلامي وتارة للسيطرة المشتركة مع دول جنوب شرقي أوروبا، وتارة اخرى للسيطرة المملوكية ثم للاحتلال البندقي ثم للحكم العثماني، الى ان خضعت لسيطرة الانكليز في العام 1878. والحقيقة المرة التي يجب الاعتراف بها هي جهل العرب والمسلمين لتاريخهم في هذه الجزيرة، والذي ارتبط بأول غزوة بحرية للمسلمين على يد معاوية بن ابي سفيان، في حين يرى القبارصة اليونانيون ان تاريخ قبرص مع الوجود الاسلامي الفعلي يبدأ منذ الدخول العثماني للجزيرة العام 1571. وقد شاركت في غزوة قبرص الاولى ام حرام بنت ملحان الانصارية التي ما زال قبرها موجوداً الى اليوم قرب مطار لارنكا الدولي، شاهداً على وجود اسلامي يعود الى العام 648م. ويشكك المقال المنشور في "الحياة" في قدم هذا الاثر، فيذكر انه يعود الى تواريخ قديمة. ولكن الثابت انه يعود الى زمن الفتح الاسلامي للجزيرة، واستخدم المكان كمقبرة للشهداء الذين قتلوا خلال الفتح، وللمسلمين الذين اقاموا في قبرص منذ ذلك الحين. وشيد المسلمون في هذا المكان مسجداً جُدّد في العصر العثماني والحقت به تكية عرفت باسم "هالة سلطان". وليس لدينا حتى الآن دليل لتراث المسلمين في هذه الجزيرة من الفترة الاموية وحتى دخول العثمانيين. الا ان دراسة اجراها الدكتور عمر تدمري اخيراً عن تاريخ قبرص خلال تلك الفترة، كشفت عن العديد من الخيوط التي قدمتها المصادر التاريخية التي يمكن ان تفيد في هذا المجال. والسؤال المطروح هنا هو: لماذا ارتبطت قبرص بالدولة العثمانية اكثر من ارتباطها بأي دولة اسلامية اخرى كالاموية او المملوكية وقد خضعت لكليهما؟ يعود هذا الارتباط الى وقوع قبرص في المجال الجغرافي التركي، فهي تبعد عن تركيا بحوالى 40 ميلاً بينما تبعد عن اليونان بما يقرب من 500 ميل. وان كان التأثير اليوناني في قبرص واضحاً، فهو تأثير ثقافي وليس سياسياً. ولقد دخل العثمانيون قبرص لحماية خطوط مواصلاتهم التي كان القراصنة يهددونها انطلاقاً من قبرص، وكانوا يغيرون على موانئ الدولة العثمانية بتواطؤ مع البندقية. كما ان هناك حقيقة لا يمكن اخفاؤها حتى وان حاول اليونانيون القبارصة ذلك، وهي انهم هم الذين دعوا السلطان العثماني الى احتلال الجزيرة لانقاذهم من ظلم البنادقة. حين فتح العثمانيون قبرص وجدوا اهلها عبيداً لا يملكون حتى الارض التي يزرعونها، فالأراضي كانت مملوكة لملاك فرنسيين وبنادقة. وكان هؤلاء يعاملون المواطن الاصلي بمنتهى الازدراء والاحتقار، فجاء المسلمون ليحرروهم ويعيدوا اليهم املاكهم واراضيهم. وكان البنادقة وهم كاثوليك يحقدون على القبارصة وهم ارثوذكس، فحرموهم من ممارسة شعائرهم الدينية. لكن العثمانيين امروا بعودة الكنيسة الارثوذكسية، بل واطلقوا على اسقفهم "الاثنا رخوس" وهو لقب يعني الحاكم على شعبه، كما عين رئيساً للطائفة اليونانية التي تمتعت باستقلال ذاتي. ويلاحظ ان العثمانيين بعد دخولهم حولوا كنائس الكاثوليك بعد فرار تابعيها الى مساجد، وبالتالي لم يستول العثمانيون على كنائس ارثوذكسية كما يفهم من مقال "الحياة" الذي لم يراع الظروف التاريخية. ولم يتم تحويل كنائس الكاثوليك دفعة واحدة، بل على دفعات، حيث بدأوا بالكنائس الكبيرة التي تحمل رمزاً سلطوياً ثم الصغيرة التي تركت سنوات مهجورة، ونسي كاتب المقال ان ينوه الى مساجد قبرص التي حولها الصليبيون الى كنائس بعد استيلائهم على الجزيرة. وبناء على اتفاق بين الاتراك والانكليز في العام 1877، تم نقل ادارة قبرص الى انكلترا على ان تظل تحت السيادة العثمانية، وذلك مكافأة لانكلترا على مساندتها للدولة العثمانية في حربها مع روسيا. وفي العام 1914 أعلنت انكلترا سيادتها الكاملة على قبرص التي استقلت العام 1960، ومنذ ذلك التاريخ شنت منظمة "ايوكا" المدعومة من اليونان حرب تصفية ضد المسلمين القبارصة، ما ادى الى تدخل تركيا العام 1974 بقوات احتلت القسم الشمالي من الجزيرة لحماية مسلمي قبرص. وفي خلال الفترة من 1960 الى الآن سعت السلطات القبرصية اليونانية الى تدمير التراث الاسلامي في قبرص، لكي تبدو لزائرها احادية الهوية. ومن هذه الآثار: جامع دوكان الاراونو، جامع البيرقدرا، منزل كميل باشا، منارة جامع يني، خان دويسلر، المدرسة الكبيرة، المدرسة الصغيرة، مدرسة احمد العربي، نافورة كارابايا، نافورة مسجد كانلي، مصلى آياصوفيا، مصلى حيدر باشا. واتبعت السلطات القبرصية خلال السنوات الاخيرة سياسة مزدوجة في التعامل مع ما تبقى من تراث اسلامي خاضع لسيطرتها، فتحت ستار ترميم المساجد صرفت قبرص اليونانية مئتي ألف جنيه قبرصي لترميم مئة مسجد، وفي خلال عمليات الترميم جرى نزع الزخارف الاسلامية في محاولة لافقاد هذه المنشآت هويتها، وللبحث عن أي شئ يثبت انها كانت في الاصل كنائس. وهو ما اقره المقال المنشور في "الحياة"، ولكن بصورة غير مباشرة. وجرى انقاذ الجزء الذي يخضع حالياً لجمهورية قبرص التركية من مدينة نيقوسيا، وأبرز ما تبقى من تراث ذلك الجزء جامع ايليك بازاري الذي انشئ في القرن الثامن عشر في ميدان اتاتورك. ويوجد حول مدخل قاعة الصلاة في هذا الجامع ازار من الكتابات، الاسفل مسجل عليه تاريخ تجديد الجامع العام 1826 على يد حاكم المدينة، بينما يحمل العلوي تاريخ ترميمه العام 1899 على يد ناظر اوقافه محمد صديق. وهناك ايضاً جامع توران اوغلو الذي شيده سيد محمد اغا، احد حكام قبرص، في العام 1824. وهو يقع داخل اسوار نيقوسيا، وله سقف خشبي محمول على اربعة عقود، ومنبره من طراز الباروك، كما يوجد في الجامع رواق يحيط به من الناحية الشمالية الغربية، وهو ذو مئذنة عثمانية الطراز. وكذلك جامع السراي الواقع على الجانب الغربي من ميدان اتاتورك في نيقوسيا وشيده علي باشا بين عامي 1830 و1842 وسمي مسجد الاردو الصغير، ويغلب على عمارته الطراز المصري. وهو يستغل حالياً في مناسبات عقد القران. وتضم نيقوسيا آثاراً اخرى اسلامية منها مكتبة السلطان التي تقع في قلب المدينة وانشأها علي رومي افندي في عهد السلطان محمود الثاني على طراز الباروك ويعلو مدخلها رمز الدولة العثمانية. ومن أبرز آثار نيقوسيا الخان الكبير، وهو ينسب الى مظفر باشا اول من عين حاكماً في قبرص. ويرجع تاريخ انشائه الى العام 1752، وخان المقامرين الذي يستخدم منذ العام 1976 مقراً لإدارة آثار جمهورية قبرص التركية. وهناك أيضاً تكية عزيز افندي، وتكية مولاي التي تستغل حالياً مقراً للمتحف التركي القبرصي لعلم الاجناس. وتبدو من خلال ما سبق اشكالية العلاقة القبرصية - التركية - المصرية، والتي ارتبطت بظروف العلاقات العربية - التركية والعربية - الاسرائيلية. فقد نجح الاسقف مكاريوس في تحييد العرب اثناء مذابح القبارصة اليونانيين ضد مسلمي قبرص، نتيجة لصداقته للعديد من الزعماء العرب، ولمواقفه من اسرائيل التي كانت تركيا تساندها. واليوم تحاول قبرص التركية مد جسور التعاون مع العرب، وقد عينت السيد مسرمد أمين من أصل عراقي مسؤولاً عن العلاقات العربية - القبرصية، واقامت العام الماضي مؤتمراً لتاريخ قبرص الاسلامية شارك فيه مؤرخون عرب. * باحث مصري.