اذا كانت الترجمة بحد ذاتها نوعاً من الخيانة، كما يرى الكثير من الكتّاب والدارسين، فإن ترجمة الشعر على وجه الخصوص هي بمثابة خيانة مزدوجة للغة الأصلية. لا اتحدث هنا عن ترجمة الكتب العلمية بمختلف انواعها والتي تقوم على نقل الحقائق الموضوعية وانجازات العقل وكشوفاته عبر مصطلحات "معلومة" وعبارات دقيقة لا تتسع فيها الفجوة بين الدال والمدلول بل عن الكتب الادبية التي تحتفي بالجماليات وينفتح فيها النص على التأويل وتعدد القراءات. فمترجم الاعمال الادبية النثرية يحتاج الى فهم عميق لطبيعة اللغة الاصلية ومكوناتها البنيوية والتعبيرية وما يتفرع عنها من الكنايات والتوريات واستخدام الحكم والأمثال الشائعة، بقدر ما يحتاج الى تمرس باللغة الثانية، لغته الأم، وتبحُّر في خصائصها وتراكيبها ونسيجها الداخلي. اما على مستوى الشعر فيصبح الامر اكثر صعوبة وتنكُّباً للمشقات والمجازفة غير المضمونة لأن ما يستوجب النقل من لغة الى لغة ليس المفردات والتراكيب الشكلية فحسب بل تلك الطاقة الداخلية الحية التي تمنح النص الشعري وهجه وكهرباءه وحقوله المغناطيسية الجاذبة. ففي الشعر اكثر من سواه تتجلى عبقرية اللغة وروحها المبدع، على حد غارسيا لوركا، كما تتجلى خصوصية الناطقين بها وحساسيتهم المختلفة إزاء الحياة والأشياء. لذلك اعتبر الشاعر والناقد الانكليزي ت. س. اليوت "ان ما من فن يتسم بالقومية اتساماً عنيداً كما هي الحال مع الشعر وانه لأسهل بعشرات المرات ان نفكر بلغة ثانية من ان نشعر بها". وبما ان الشعر هو عصب اللغة وناظم ايقاعها وتوتراتها ونسيجها الأعمق فإن ما ينجو منه عند الترجمة لن يتعدى حدود الأفكار والمعاني والصور الظاهرة بينما يظل الايقاع والروح ونسق التجاور والكثير من مساحات التوتر حبيس اللغة الاصلية. الترجمة بهذا المعنى هي شر لا بد منه، ما دام الانسان، مهما أوتي من الذكاء والتحصيل ودراسة اللغات، غير قادر على معرفة لغات الارض كلها، وما دمنا لا نملك سبيلاً آخر للاطلاع على ثقافات الشعوب الاخرى وابداعاتها المختلفة. وقد انقسم مترجمو الشعر، تبعاً لقناعاتهم ومفاهيمهم، بين من يأخذ بحرفية النص الاصلي والابتعاد عن كل ما يحرفه عن طبيعة اللغة المنقول اليها، على ان لا تمس هذه التعديلات جوهر المعاني والأفكار التي يتضمنها النص الاول. وبين هؤلاء وأولئك ثمة فئة ثالثة تعتمد الحل الوسط الذي لا يميت "ذئب" الاشكال ولا يغني "غنم" المعاني. قد تكون ترجمة الكاتب اللبناني محمد عيتاني لديوان بابلو نيرودا "مئة قصيدة حب" هي التعبير الاكثر سطوعاً عن الترجمة النصية الحرفية. وهذه الترجمة على صدقها وأمانتها في التوأمة الكاملة بين المنقول عنه والمنقول اليه تفتقر في شكل واضح الى الحرارة والتوتر وجمالية التعبير العربي. في حين ان ترجمة ميشال سليمان لبابلو نيرودا بدت من خلال ديوان "سيف اللهب" رشيقة وجذابة وحافلة بالحيوية التي كانت المحصلة الطبيعية لتصرف الشاعر اللبناني بالصياغات والتعابير الاصلية وفق ما يعتقد انه المعادل العربي الجمالي لجمال الأصل. وما فعله أدونيس بالنسبة لشعر سان جون بيرس وصلاح ستيتية كان اقرب الى المفهوم الثاني الذي يترك للمترجم هامشاً من الحرية يمكنه من احياء شاعرية النص بالطريقة المناسبة بعيداً من الشكلية والنقل الحرفي. وبشيء من التأمل والاستقصاء نستطيع، مع بعض الاستثناءات، ان نذهب الى ان الشعراء بوجه عام يميلون في ترجماتهم الشعرية الى الخيار الثاني الذي يبعد المترجم عن الحرفية المتزمتة ويفتح امامه هامشاً كافياً من الحرية والتأويل وقراءة النص وفق روحيته وحركته الجمالية والداخلية لا وفق تراكيبه اللغوية الصرفة. ربما كان الشاعر المصري محمد عيد ابراهيم في ترجمته لمجموعة الشاعر الانكليزي تيد هيوز "رسائل عيد الميلاد"، وخلافاً للقاعدة، اكثر ميلاً الى الترجمة الحرفية للنصوص والتي تغلب الاكاديمي على الجمالي والنقل الدقيق للأصل على التصرف به وتفكيكه واعادة تركيبه. فالقصائد هنا منقولة بحذافيرها وتفاصيلها الدقيقة وفق نسق العبارة الانكليزية وطريقة بنائها وتسلسلها من دون اي تعديل. واذا كانت لهذه الطريقة في الترجمة حسناتها المتعلقة بالموضوعية والامانة في نقل التعبير الاصلي فإن من سيئاتها بالمقابل انها تنظر الى الشعر بصفته شكلاً محضاً وكلاماً متراصفاً حيث تصبح الترجمة نقلاً ميكانيكياً للجمل والمفردات وتتحول القصائد المترجمة الى معادل بلا روح للنصوص الاولى او الى متحف من التعابير المحنطة والخالية من اي نبض. وما ساعد في تفاقم المعضلة هو طبيعة شعر هيوز نفسه التي تجانب العاطفة والتدفق الغنائي وتجنح الى لغة دقيقة ومحايدة والى تراصف متواصل للجمل القصيرة والحسية المخترقة دائماً بجمل اعتراضية متكررة. من هذه الزاوية اشك في ان كثراً من القراء يستطيعون مهما اوتوا من الجلد والشغف بالشعر ان يقرأوا الكتاب حتى صفحته الاخيرة. وليس من الانصاف بالطبع ان نحمّل مترجم القصائد محمد عيد ابراهيم كامل المسؤولية عن ذلك، بل ان جزءاً من المسؤولية يقع على عاتق الشاعر المولع بالتعمية والتعقيد والاستخدام المتواصل للأقنعة والرموز والأساطير وتفخيخ الجمل الشعرية عبر التقطيع والتقديم والتأخير. فنحن، وفق تقديم المترجم نفسه، امام شعر لا يهدف الى امتاع القارئ او انقاذه من المتاهة التي يورطه فيها، بل الى تركه يتخبط وحيداً وسط متاهة عاتية ومبهمة من المسالك والطرق المتقاطعة والمتشعبة. والطريف في الأمر ان الذين يقبلون على قراءة هيوز انما يفعلون ذلك واضعين في حسبانهم ان من اختير ليكون شاعر البلاط البريطاني لسنوات عدة لا بد وان يكون شعره، شأن شعراء البلاط العرب، مفعماً بالروح القومية والانشاد الغنائي والنبرة الحماسية العالية. لكنهم سرعان ما يرون انفسهم امام شاعر معقد وبعيد الغور وصعب المسالك بما يحول قراءته الى مجازفة خطرة تستنفر كامل طاقات القارئ وتتطلب منه حداً اقصى من التركيز والاستبطان والمغامرة. قصائد "رسائل عيد الميلاد" برمتها تعتمد صيغة المخاطبة والتوجه الى الآخر المؤنث الذي نكتشف من خلال بعض النصوص انه الشاعرة سيلفيا بلات، صديقة هيوز وملهمته الأثيرة. على ان الحضور الانثوي في القصائد يتشعب الى حضورات لا تحصى وينعكس في عشرات المرايا المتقابلة التي تفتحه على المتاهة وتجعله رمزاً لكل ما هو غامض ومتعدد وكوني الابعاد. يكفي ان نتتبع بعض عنواين القصائد من مثل "طلبة فولبرايت" او "18 شارع رجبي" او "مرتفعات وذرنغ" او "المشيمة" و"صائد الأرنب" و"الكلاب تأكل أمك" و"فيلم قصير" وغيرها لنستكشف ذلك الجنوح المتعاظم لدى الشاعر الى تسفيه الرومانسية المتأصلة في الشعر الانكليزي واستبدالها بتلك النظرة الحيادية الى العالم التي تعمل على تعرية الواقع من لواحق الانشاء العاطفي والماكياج المفرط والتعمية الجمالية. على ان كل ذلك لا يمنع القصيدة من الوقوع في العماء الموازي الذي لو قبل للكلمات بدفعه ومجانبته والذي يكمن في الطبيعة الملتبسة للكينونة كما للموجودات. الانوثة في "رسائل عيد الميلاد" لا تتجسد في جسد المرأة فحسب بل في كل ما ينتظم روح العالم ويقف وراء التاريخ ويجترح فضاء الاسطورة. ففي قصيدة "نصب تذكارية" تتصادى صورة سيلفيا مع النمر الذي يجسد اندفاعة القوة ووحشية العزيزة وصفاءها في آن "كأنه يسحبك ما بين ساقيه/ فمك بأعلى الصراخ/ او كأنك لن تصرخي من بعد/ تركت نفسك تنجرين فحسب/ فريسته الحقة قد وثبت وانفلتت/ كذلك أنيابه عمياء في احباط/ تطحن قصبتك الهوائية". بينما تتجه قصيدة "أصابع" بالمقابل نحو أنوثة أثيرية ترشح بالجمال وتجعل من الموسيقى سلمها الاتحاد بنشوة الوجود: "من سيذكرها أصابعك؟.../ على البيانو/ بنقرها ضربات من الاربعينات.../ تتموج في نقرٍ كرقصات باليه.../ تقوم بأشياء غريبة في الهواء/ ثم ترتمي للتراب.../ تتوثب في مرح على آلتك الكاتبة/ تفعمها روح طفلية خبيئة". هكذا تتوزع المرأة بين بعد مرئي يتصل بالشهوة والجسد والحضور المادي وبين بعد رمزي يتجلى تارة في الخصب وطوراً في الجفاف، آونة في التماثيل ومعابد الآلهة وآونة اخرى في اجنحة الطائر ومجاري الأنهار وتأكسد المعادن. اما اللغة المستخدمة لاستجلاء الافكار والصور فهي تتجول في كل انحاء القاموس من دون استثناء. كل مفردة تخطر على بال يمكن ان تصبح جزءاً من ادوات التعبير من اسماء الآلهة والأساطير ورموز التاريخ وصولاً الى اسماء الاماكن والمدن والشوارع والنباتات والمعادن والعناصر. ومن السيلوفان وشجرة الطقوس وسمك ابي الحناء والماتادور وحتى المانيكانات والأكتوبلازم والجمانيزيوم ومئات الاسماء والانواع والمفردات والمصطلحات العلمية الغريبة. على ان ما ينغص متعة قراءة "رسائل عيد الميلاد" ليست المفارقة بين عنوانه السهل الذي يذكر ببطاقات الأعياد ورسائل العشاق وبين غرابة نصوصه واشتباك عوالمها ورموزها المتداخلة بل عجز المترجم عن سبر أغوار القصائد واكتناه مناطقها الخفية من جهة وعدم قدرته على بلورة نص عربي معادل لشعرية الاصل ومواز له الأمر الذي يترك القارئ وحيداً امام جمل باردة ومختلفة التركيب النحوي ومفتقرة الى الرشاقة وبعيدة كل البعد عن خصائص العربية وتشكلها الجمالي المتصل بالتقديم والتأخير. يكفي ان ندلل على ذلك بمقطع واحد من اصل مئات المقاطع المماثلة "لها ارسلت نسخاً كربونية من بعض قصائدك/ كل شيء عن هذه -/ غم الاشباح/ الانقباض/ هواء عنق الزجاجة المكيف/ جعلها تتلهف للاكسجين والبهجة/ فأعادتها/ لمن كان خطابها، كلماتها المحددة/ لأنها تبدو نسخاً كربونية قيمة/ ملطخة نوعاً فلن اعيد نسخها" لكي ندرك حجم الخسارة الفادحة التي تلحق بالشعر المترجم وبقرائه على حد سواء.