يبدو ان المخرج السوري هشام الزعوقي يعيش في النروج منذ عام 1995 يقيم في افلامه الوثائقية القصيرة، وهو يحلم مذ وطأت قدماه ارض بلاده بإخراج فيلم روائي، بعد ان دار مع فيلمه "الباب" في اماكن مختلفة من العالم، وهو إذ يشير الى افلامه مثل "الباب" و"غرباء دوماً" و"مجرد مدينة" فكأنه يحمل في الدرجة الأولى فكرة الخروج الذهني الموقت من هذه الأفلام الى ما هو اوسع من اللعثمة والحرية والنظرات اللاسعة التي تحجبها الغيوم ايضاً، اذا ما افترضنا رقابة الفوضى على نظام معين من الصور من حيث جوهرها، لا من حيث افتراضاتها البنائية. في فيلم "الباب" الذي يذكر بفيلم التخرج، الذي قدمه يوماً 1959 رومان بولانسكي في معهد السينما في بولندا حيث نشأ ودرس، يقدم لنا ايضاً هشام الزعوقي ابواباً عن التيه في المدن العقيمة... فإذ يبحث المرء عن الأكرة الفيلمية الموجودة في سبع دقائق لا غير هي مدة الفيلم، تبدو كأنها هي نفسها الأبواب السبعة للمدينة التي ولد فيها... هكذا نكتشفه هو ونكتشفها هي ايضاً للمرة الأولى. يحمل هذا "الباب" وجهاً منحوتاً من شيطنة وسواد اعظم يغرر بالمنافي التقليدية، وهو يوحي بانكماشة وراء متاحف الأبواب اللعينة التي تجربها عواصم هذه المنافي. حامل "الباب" يحمل على رأسه، وأحياناً بالطول ولا يبحث عن رفيق له يساعده على حمله، كأنما يذكر عبر استقلاليته بقرع النواقيس في شوارع لا تحظى ممن مثله بالاناسة، فهي مجرد مدن كما سنكتشف لاحقاً في الفيلم المعد عن الشاعر اليمني المحكوم بالإعدام، والذي تطلق نظراته بين الغيوم بوحشية الصدف، فلا تحجبها افكار تنقل تجربتك كلها في السجن الى حيث تعيش بفرادة... وندم لا يفارق نظراتك على ما آلت إليه ابواب حياتك في مدينة تفترضها انت بلا ابواب - هي بمثابة عرض غير نظامي لأفلام قصيرة جوالة في الأصقاع البعيدة، والباب المصنوع من الخشب الصلب، يعكس انبعاث الأرواح وتبخرها لمجرد التثاؤب في فرضية مدينة لا تعرفها، او لا تعرف الضوء فيها لقلة النهار والمحكومة بفرضيات توثيق مفترسة لحملة الأبواب والأكرات والمفاتيح المعلقة والسابحة بين نظرات المتفرجين. وعندما يتشجع حامل الباب في الفيلم - العراقي المقيم في النروج - بجدائله المطمئنة، وينظر الى الأمام، وفي الوجوه التي لا تحدق به عامدة، سواء العابرة منها او المقيمة امام الشاشة، او خلف الأبواب الغامضة... والمفترضة، فإن الإحساس الأول يكشف كما لو ان الشاشة الغرّيرة تفقد سحرها الأزلي، لا لشيء، إلا لأنها تعيد احكام رتاجات الأبواب على مخيالنا، في صالة لا نقيم فيها، كما لو انها تقطع الواقع الى مربعات افتراضية لا مخارج منها. كأنما هشام الزعوقي، بخجله الواسع الطيف، يبحث موارباً عن صورة له هو، فهو لم يشاهد فيلم بولانسكي عن الرجلين اللذين يحملان خزانة ويدوران بها، وإنما يكتفي برحلة بطله مع باب - ربما تبدأ القصة هنا - بيت زوجي يقيم فيه المخرج، ولا تتعدى مساحته ال30 متراً مربعاً، وفيه ستة ابواب والمنفى المؤكد سابعهم. إذاً، يقف حامل الباب على الوجوه التي يفترضها في رحلته هو، وليس في رحلتنا نحن، وكأنه يخالف طبيعة الفيلم ويمجده في الوقت نفسه، ونحن مسبقاً نقبل هذا الاحتكاك بين العابرين من مواليه وهم يحتكون بنا، لمجرد الرغبة بالاحتكاك، وانتشال الكلمات بصعوبة كما يفعل هشام نفسه، ما دام مصدر الصمت هو هذه الصور المبجلة التي يعكسها صاحب الجدائل المطمئنة، وهو يمر امام العابرين بشجاعة تخرجه من دائرة العلاقات الخطرة معهم، إذ يترك البقية تتململ مع وصوله الى البحر الذي لا يطأ متاهته بعكس بطلي بولانسكي، بل يكتفي بتشكيل بيته على الشاطئ السحري مضافاً إليه نافذتين افتراضيتين، يقوم هو بالانزلاق تحتهما الباب والنافذتان بعد ان يحفر بقدمه حفرة من ثلاثين متراً مربعاً، ولكن بباب واحد هذه المرة، ومن دون اكرة لا تعلق بها الجدائل الواثقة لشيطان أبكم مرّ من هناك وعاد الى رمل البحر عابراً بين الغيم او مقيماً، عاد ليحل جدائله بين الارتياب والتهكم وكأنه محمّل في مجرد مدينة.